أبو بكر الصديق - (42) إنا معشر الأنبياء لا نُورث، ما تركنا صدقة
قالت عائشة إن فاطمة والعباس : أتيا أبا بكر يلتمسان ميراثهما من رسول الله صلى الله عليه وسلم وهما حينئذ يطلبان أرضيهما من فدك وسهمهما من خيبر، فقال لهما أبو بكر: سمعت رسول الله يقول: «لا نورث، ما تركنا صدقة، إنما يأكل آل محمد من هذا المال»
قالت عائشة -رضي الله عنها-: إن فاطمة والعباس -رضي الله عنهما-: أتيا أبا بكر يلتمسان ميراثهما من رسول الله صلى الله عليه وسلم وهما حينئذ يطلبان أرضيهما من فدك وسهمهما من خيبر، فقال لهما أبو بكر: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لا نورث، ما تركنا صدقة، إنما يأكل آل محمد من هذا المال» وفي رواية: قال أبو بكر رضي الله عنه:«لست تاركًا شيئًا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعمل به إلا عملت به، فإني أخشى إن تركت شيئًا من أمره أن أزيغ.
وعن عائشة -رضي الله عنها- قالت: أن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، حين توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم، أردن أن يبعثن عثمان بن عفان رضي الله عنه إلى أبي بكر يسأله ميراثهن، فقالت عائشة: أليس قد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا نورث، ما تركنا صدقة»، وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يقتسم ورثتي دينارًا، ما تركت بعد نفقة نسائي ومؤنة عاملي فهو صدقة».
وهذا ما فعله أبو بكر الصديق رضي الله عنه مع فاطمة رضي الله عنها، امتثالاً لقوله صلى الله عليه وسلم: لذلك قال الصديق: لست تاركًا شيئًا كان رسول الله يعمل به إلا عملت به، وقال: والله لا أدع أمرًا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصنعه فيه إلا صنعته.
وقد تركت فاطمة -رضي الله عنها- منازعته بعد احتجاجه بالحديث وبيانه لها، وفيه دليل على قبولها الحق وإذعانها لقوله صلى الله عليه وسلم. قال ابن قتيبة: وأما منازعة فاطمة أبا بكر -رضي الله عنهما- في ميراث النبي صلى الله عليه وسلم فليس بمنكر؛ لأنها لم تعلم ما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم، وظنت أنها ترثه كما يرث الأولاد آباءهم، فلما أخبرها بقوله كفت.
وقال القاضي عياض: وفي ترك فاطمة منازعة أبي بكر بعد احتجاجه عليها بالحديث التسليم للإجماع على قضية، وأنها لما بلغها الحديث وبين لها التأويل تركت رأيها، ثم لم يكن منها ولا من ذريتها بعد ذلك طلب ميراث، ثم ولي عليٌّ الخلافة فلم يعدل بها عما فعله أبو بكر وعمر رضي الله عنهم.
وقال حماد بن إسحاق: والذي جاءت به الروايات الصحيحة فيما طلبه العباس وفاطمة وعلي لها وأزواج النبي صلى الله عليه وسلم من أبي بكر -رضي الله عنهم جميعًا- إنما هو الميراث، حتى أخبرهم أبو بكر والأكابر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا نورث ما تركنا صدقة». فقبلوا بذلك وعلموا أنه الحق، ولو لم يقل رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك كان لأبي بكر وعمر فيه الحظ الوافر بميراث عائشة وحفصة رضي الله عنهما، فآثروا أمر الله وأمر رسوله، ومنعوا عائشة وحفصة، ومن سواهما ذلك، ولو كان رسول يورث، لكان لأبي بكر وعمر أعظم الفخر به أن تكون ابنتاهما وارثتي محمد صلى الله عليه وسلم.
وأما ما ذكره عدد من الرواة في كون فاطمة -رضي الله عنها- غضبت وهجرت الصديق حتى ماتت، فبعيد جدًا لعدة أدلة، منها:
ما رواه البيهقي من طريق الشعبي: أن أبا بكر عاد فاطمة، فقال لها علي: هذا أبي بكر يستأذن عليك، فقالت: أتحب أن آذن له؟ قال: نعم، فأذنت له فدخل عليها فترضاها حتى رضيت، وبهذا يزول الإشكال الوارد في تمادي فاطمة -رضي الله عنها- لهجر أبي بكر الصديق رضي الله عنه، كيف وهو القائل: والله لقرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، أحب إليَّ أن أصل من قرابتي، وما فعل إلا امتثالاً واتباعًا لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم.
لقد انشغلت عن كل شيء يحزنها لفقدها أكرم الخلق، وهي مصيبة تزري بكل المصائب، كما أنها انشغلت بمرضها الذي ألزمها الفراش عن أي مشاركة في أي شأن من الشئون، فضلاً عن لقاء خليفة المسلمين المشغول –في كل لحظة من لحظاته- بشئون الأمة، وحروب الردة وغيرها، كما أنها كانت تعلم بقرب لحوقها بأبيها؛ فقد أخبرها رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنها أول من يلحق به من أهله، ومن كان في مثل علمها لا يخطر بباله أمور الدنيا، وما أحسن قول المهلب الذي نقله العيني: ولم يروِ أحد أنهما التقيا وامتنعا عن التسليم، وإنما لازمت بيتها، فعبر الراوي عن ذلك بالهجران.
هذا ومن الثابت تاريخيًا أن أبا بكر دام أيام خلافته يعطي أهل البيت حقهم في فئ رسول الله صلى الله عليه وسلم في المدينة، ومن أموال فدك وخمس خيبر، إلا أنه لم ينفذ فيها أحكام الميراث، عملاً بما سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد روي عن محمد بن علي بن الحسين المشهور بمحمد الباقر، وعن زيد بن علي أنهما قالا: إنه لم يكن من أبي بكر فيما يختص بآبائهم شيء من الجور أو الشطط، أو ما يشكونه من الحيف أو الظلم.
ولما توفيت فاطمة -رضي الله عنها- بعد رسول الله بستة أشهر على الأشهر، وقد كان صلوات الله وسلامه عليه عهد إليها أنها أول أهله لحوقًا به، وقال لها مع ذلك: {أما ترضين أن تكوني سيدة نساء أهل الجنة}، وذلك ليلة الثلاثاء لثلاث خلون من رمضان سنة إحدى عشرة.
عن مالك، عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جده، علي بن الحسين، قال: ماتت فاطمة بين المغرب والعشاء، فحضرها أبو بكر وعمر وعثمان والزبير وعبد الرحمن بن عوف، فلما وُضعت ليُصلى عليها، قال علي: تقدم يا أبا بكر، قال أبو بكر: وأنت شاهد يا أبا الحسن؟ قال: نعم تقدم، فو الله لا يصلي عليها غيرك، فصلى عليها أبو بكر، ودفنت ليلاً. وجاء في رواية: صلى أبو بكر الصديق على فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم فكبر عليها أربعًا، وفي رواية مسلم، صلى عليها علي بن أبي طالب.
هذا وقد كانت صلة سيدنا أبي بكر الصديق خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم بأعضاء أهل البيت صلة ودية تقديريه تليق به وبهم، وقد كانت هذه المودة والثقة متبادلتين بين أبي بكر وعلي، فقد سمى علي أحد أولاده بأبي بكر، وقد احتضن علي ابن أبي بكر محمدًا بعد وفاة الصديق وكفله بالرعاية ورشحه للولاية في خلافته حتى حسب عليه، وانطلقت الألسنة بانتقاده من أجله.
هذه بعض القضايا الداخلية التي عالجها الصديق رضي الله عنه، والتزم فيها بمتابعة الرسول صلى الله عليه وسلم بكل دقة وحرص، فرضي الله عنه وعن جميع الصحابة الكرام الطيبين الأبرار.
- التصنيف:
- المصدر: