أبو بكر الصديق - (56) القضاء على فتنة الأسود العنسي

منذ 2019-09-27

اسمه: عبهلة بن كعب ويكنى بذي الخمار؛ لأنه كان دائما معتمًا متخمرًا بخمار، ويعرف بالأسود العنسي لاسوداد في وجهه، وتكمن قوة الأسود في ضخامة جسمه وقوته وشجاعته، واستخدم الكهانة والسحر والخطابة البليغة، فقد كان كاهنًا مشعوذًا يُرِي قومه الأعاجيب..

1-القضاء على الأسود العنسي، وردة اليمن الثانية:

اسمه: عبهلة بن كعب ويكنى بذي الخمار؛ لأنه كان دائما معتمًا متخمرًا بخمار، ويعرف بالأسود العنسي لاسوداد في وجهه، وتكمن قوة الأسود في ضخامة جسمه وقوته وشجاعته، واستخدم الكهانة والسحر والخطابة البليغة، فقد كان كاهنًا مشعوذًا يُرِي قومه الأعاجيب، ويسبي قلوب من سمع منطقه، واستخدم الأموال للتأثير على الناس.

أ- الأسود العنسي في عهد الرسول عليه الصلاة والسلام:

وما أن انتشر خبر مرض رسول الله عليه الصلاة والسلام بعد مقدمه من حجة الوداع حتى ادعى الأسود العنسي النبوة، وقيل: إنه أطلق على نفسه (رحمان اليمن) كما تسمى مسيلمة (رحمان اليمامة)، وأنه كان يدعي النبوة ولا ينكر نبوة محمد عليه الصلاة والسلام، وكان يزعم أن ملكين يأتيانه بالوحي وهما: سحيق وشقيق -أو شريق – وكان قبل أن يظهر مخفيًا أمره يجمع حوله من يراه مناسبًا حتى فاجأ الناس بظهوره وكان أول من تبعه: أبناء قبيلته وهم «عنس»، ثم كاتب زعماء قبيلة «مذحج» فتبعه العوام منهم، وبعض زعمائهم من طالبي الزعامة، وقد عمل على إثارة العصبية القبلية؛ لأنه من «عنس» وهي بطن من بطون قبيلة «مذحج»، وقد راسله بنو الحارث بن كعب من أهل نجران وهم يومئذ مسلمون، فطلبوا منه أن يأتيهم في بلادهم، فجاءهم فاتبعوه لكونهم لم يسلموا رغبة، وتبعه أناس من «زبيد» و«أود» «مَسْليَة» و«حكم بني سعد العشيرة»، ثم أقام بنجران بعض الوقت، وقوي أمره بعد أن انضم إليه عمرو بن معديكرب الزبيدي وقيس بن مكشوح المرادي، وتمكن من طرد فروة بن مسيك من مراد وعمرو بن حزم من نجران، واستهوته فكرة السيطرة على صنعاء فخرج إليها بست مئة أو سبع مئة فارس معظمهم من بني الحارث بن كعب و«عنس».

فتقابل مع أهل صنعاء وعليهم «شهر بن باذان الفارسي»، وكان قد أسلم مع أبيه في منطقة خارج صنعاء تسمى منطقة «شعوب»، فتقاتلوا قتالاً شديدًا فقتل «شهر بن باذان» وانهزم أهل صنعاء أمام الأسود العنسي، فغلب عليها ونزل قصر «غمدان» بعد خمسة وعشرين يومًا من ظهوره.

وكان له مواقف بشعة في تعذيب المتمسكين بالإسلام، فقد أخذ أحد المسلمين ويسمى النعمان فقطعه عضوًا عضوًا، ولهذا تعامل معه المسلمين الذين كانوا في المناطق التي يديرها بالتقية.

أما بقية المسلمين خارج نطاق سيطرته فقد حاولوا التجمع وإعادة الانتظام إلى صفوفهم، فكان فروة بن مسيك المرادي قد انحاز إلى مكان يسمى «الأحسية»، وانضم إليه من انضم من المسلمين، وكتب إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام بخبر الأسود العنسي، فكان أول من أبلغ الرسول عليه الصلاة والسلام بذلك، وانحاز كل من أبي موسى الأشعري، ومعاذ بن جبل إلى حضرموت في جواء «السكاسك والسكون».

وقد راسل رسولُ الله عليه الصلاة والسلام الثابتين على الإسلام لمواجهة ردة الأسود، وأمرهم بالسعي للقضاء عليه إما مصادمة أو غيلة، ووجه كتبه ورسله إلى بعض زعماء «حمير» و«همدان» بأن يتكاتفوا ويتوحدوا ويساعدوا «الأبناء» ضد «الأسود العنسي»، فأرسل «وبر بن يخنس» إلى «فيروز الديلمي وجُشَيش الديلمي وداذويه الإصطخري»، وبعث «جرير البجلي» إلى «ذي الكلاع وذي ظليم» الحميريين، وبعث «الأقرع بن عبد الله الحميري» إلى «ذي زود وذي مران» الهمدانيين، وكذلك كتب إلى أهل نجران من الأعراب وساكني الأرض من غيرهم، وبعث «الحارث بن عبد الله الجهني» إلى اليمن قبيل وفاته، فبلغته وفاة الرسول عليه الصلاة والسلام وهو في اليمن، ولم تبين المصادر إلى أين بعث، إلا أنه من الممكن أنه بعث إلى «معاذ بن جبل»؛ لأنه تلقى كتابًا من رسول الله عليه الصلاة والسلام يأمره فيه بأن يبعث الرجال لمجاولة ومصاولة «الأسود العنسي» للقضاء عليه، كما تلقى «أبو موسى الأشعري» و«الطاهر بن أبي هالة» كتابًا من رسول الله ليواجهوا «الأسود» بالغيلة أو المصادمة، وكان لهذا العمل من جانب الرسول عليه الصلاة والسلام أثر كبير، فقد تماسك من بعث إليهم في حياته وبعد موته، فلم يعهد عنهم أنهم ارتدوا أو تزلزلوا، فقد كتب زعماء «حمير» وزعماء «همدان» إلى الأبناء باذلين لهم العون والمساعدة، وفي الوقت نفسه تجمع أهل «نجران» في مكان واحد للتصدي لأي حركة من جانب «الأسود العنسي»، وحينئذ أيقن هذا أنه إلى هلاك.

وظلت المكاتبات تتوالى بين «الهمدانيين» و «الحميريين» وبين «معاذ بن جبل» وبعض الزعماء اليمنيين، ومن المحتمل أن بعض المكاتبات تمت بين «الأبناء» وبين «فروة ابن مسيك»؛ لأنه كان له دور في قتل الأسود العنسي، ولكن كان أول من اعترض على «العنسي» هو «عامر بن شهر الهمداني».

وهكذا تجمعت كل قوى الإسلام في اليمن للقضاء على «الأسود العنسي»، ويظهر أنهم كانوا مجمعين على أن يقوموا بمقتله، لعلمهم أنه بمجرد أن يقتل لن يبقى لأتباعه أي كيان فيسهل التخلص منهم حينئذ، ولهذا وافقوا على خطة «الأبناء» بأن لا يقوموا بأي شيء حتى يبرموا الأمر من داخلهم.

واستطاع «الأبناء» فيروز وداذويه أن يتفقا مع «قيس بن مكشوح المرادي» -وكان قائد جند العنسي- للتخلص من «الأسود العنسي»؛ لأنه كان على خلاف معه، ويخشى أن يتغير عليه، وقد ضموا إلى صفهم زوجة «الأسود العنسي» «آزاد الفارسية» والتي كانت زوج شهر بن باذان وابنة عم فيروز الفارسي، فقد اغتصبها كذاب اليمن بعد أن قتل زوجها، فهبت لإنقاذ دينها من براثن وحوش الجاهلية بكل عزم وتصميم، فدبرت مع المسلمين المناوئين للأسود خطة اغتيال هذا الطاغية المتألِّه، ومهدت لهم السبيل لقتله على فراش نومه، وحينما قتل «الأسود» ألقى برأسه بين أصحابه فانتابهم الرهبة وعمهم الخوف، ففروا هاربين.

وأتى الخبر النبيَّ عليه الصلاة والسلام من السماء الليلة التي قتل فيها العنسي ليبشرنا فقال: «قتل العنسي البارحة، قتله رجل مبارك من أهل بيت مباركين» قيل: ومن هو؟ قال: «فيروز».

وقد فصل خطة اغتيال الأسود العنسي الدكتور صلاح الخالدي في كتابه: «صور من جهاد الصحابة… عمليات جهادية خاصة تنفذها مجموعة خاصة من الصحابة». وظل أمر «صنعاء» مشتركا بين «فيروز وداذويه وقيس بن مكشوح» إلى أن جاء معاذ بن جبل إلى صنعاء، فارتضوا أن يكون هو الأمير عليهم، ولكنه لم يمكث إلا ثلاثة أيام بهم حتى بلغهم خبر وفاة رسول الله عليه الصلاة والسلام.

وكانت تفاصيل مقتل «العنسي» قد خرجت من صنعاء فوصلت إلى الصديق بعد أن خرج جيش أسامة، وكان هذا أول فتح أتى أبا بكر وهو في المدينة.

ب- وعيَّن أبو بكر «فيروز الديلمي» واليًا على صنعاء وكتب إليه بذلك، ولم يولِّ أبو بكر قيسًا؛ لأنه كان ممن مالأ الأسود العنسي وتابعه مخلصًا -عصبية لمذجح أو رغبة في الزعامة- وكان مبدأ أبي بكر عدم الاستعانة بمن ارتد، وجعل كل من داذويه وجشيش وقيس بن مكشوح مساعدين لفيروز، فتغيرت نفس قيس بن مكشوح المرادي فعمل على قتل زعماء الأبناء الثلاثة، وقد تمكن من قتل «داذويه» -سواء بنفسه أو بإيعاز منه – فتنبه لذلك «فيروز» فهرب إلى أخواله في «خولان»، فما كان من قيس إلا أن أثارها عصبية جنسية فحاول جمع زعماء بعض القبائل ضد «الأبناء» مدعيًا أنهم متحكمون فيهم، وأنه يرى قتل رؤسائهم وإجلاء بقيتهم، ولكن أولئك الزعماء وقفوا على الحياد فلم ينحازوا إليه ولا إلى الأبناء، وقالوا له: أنت صاحبهم وهم أصحابك، فلما يئس منهم عاد فكاتب فلول «الأسود العنسي» سواء الذين بقوا متذبذبين بين صنعاء ونجران أو ممن انحاز إلى لحج، فطلب منهم الالتقاء بهم ليكونوا جميعًا على أمر واحد وهو نفي «الأبناء»، فلم يشعر أهل صنعاء إلا وهم محاطون بتلك الفلول، ثم حرص «قيس» على تجميع «الأبناء» تمهيدًا لنفيهم.

وعندما وصل فيروز الديلمي إلى خولان كتب من هناك إلى أبي بكر يخبره بما حصل من قيس، فما كان منه إلا أن كتب إلى الزعماء الذين كتب إليهم رسول الله عليه الصلاة والسلام، وكانت صيغة الكتاب واضحة صريحة وهي: «أعينوا الأبناء على من ناوأهم وحوطوهم، واسمعوا من فيروز، وجِدُّوا معه فإني قد وليته».

كان الصديق في نهجه هذا يستهدف أمرين متلازمين:

-أنه جعله خطة حربية حيث كان جيش أسامة بن زيد قد خرج إلى الشام، وكان الخليفة ينتظر عودته حتى يتسنى له مواجهة أعنف موجات الردة في اليمامة والبحرين وعمان وتميم، وهي أشد وأعنف من موجات الردة في اليمن التي اكتفى بمعالجة بعضها بالرسائل والرسل.

-وأما الهدف الآخر فهو إعطاء الفرصة لمن ثبت على الإسلام لكي يبرهن على صدق إسلامه، ولكي يزداد ثباتًا واستمساكًا بدينه ما دام هو صاحب المسئولية والمتحمل لأمانة إقرار الإسلام فيمن حوله، خاصة أن من راسلهم أبو بكر كانوا هم الذين راسلهم رسول الله عليه الصلاة والسلام من قبل، وقد ثبتوا وقاموا بما طُلب منهم. وقام فيروز بالاتصال ببعض القبائل يستمدهم ويستنصرهم، وعلى رأس هؤلاء «بنو عقيل بن ربيعة بن عامر بن صعصعة»، ثم أرسل إلى قبيلة «عك» للغرض نفسه. وكان أبو بكر قد أرسل إلى الطاهر بن أبي هالة، وإلى مسروق العكي -وكانا بين عك والأشعريين- أن يمدا الأبناء بالمعونة، فخرج كل من جهته وعملوا جميعًا للحيلولة دون تنفيذ مخطط قيس وهو طرد الأبناء وإخراجهم من اليمن، فأنقذوهم ثم تكتلوا وتوجهوا نحو صنعاء جميعًا فاصطدموا به حتى اضطر إلى ترك صنعاء، وعاد إلى ما كان عليه أصحاب الأسود العنسي وهو التذبذب بين نجران وصنعاء ولحج، إلا أنه انضم إلى عمرو بن معديكرب الزبيدي. وبهذا عادت صنعاء للمرة الثانية إلى الهدوء والاستقرار عن طريق الرسل والكتب.

ج- واستمر الصديق يتابع سياسة الإحباط من الداخل، وهي ما يعبر عنها المؤرخون بقولهم: «ركوب من ارتد بمن لم يرتد وثبت على الإسلام».

ففي ردة «تهامة اليمن» تم القضاء عليها بدون مجهود يذكر من قبل الخليفة، فقد تولاها المسلمون من أبناء تهامة مثل «مسروق» العكي الذي قاتل المرتدين بقومه من عك، وكان على رأس من قضى على ردة تهامة «الطاهر بن أبي هالة» الذي كان واليًا للرسول عليه الصلاة والسلام على جزء من تهامة، وهي موطن «عك والأشعريين» ثم أمر أبو بكر «عكاشة بن ثور» أن يقيم في «تهامة» ليجمع حوله أهلها حتى يأتيه أمره، وأما بجيلة فإن أبا بكر رد جرير بن عبد الله، وأمره أن يستنفر مِنْ قومه مَنْ ثبت على الإسلام ويقاتل بهم من ارتد عن الإسلام، وأن يأتي خثعم فيقاتل من ارتد منهم، فخرج جرير وفعل ما أمره به الصديق رضي الله عنه، فلم يقم له أحد إلا نفر يسير فقتلهم وتتبعهم.

 

وكان بعض «بني الحارث بن كعب» بنجران قد تابعوا الأسود العنسي، وبعد وفاة رسول الله عليه الصلاة والسلام بقوا مترددين فخرج إليهم «مسروق العكي» وهو يزعم مقاتلتهم فدعاهم إلى الإسلام فأسلموا من غير قتال، فأقام فيهم ليعمل على استتباب الأمور فلم يأته «المهاجر بن أبي أمية» إلا وقد ضبط نجران.

وقد نجحت سياسة الإحباط من الداخل، وتوجه الصديق بإرسال الجيوش بعد عودة جيش أسامة.

 


 

 

المقال السابق
(55) نص الخطاب الذي أرسله للمرتدين
المقال التالي
(57) جيش عكرمة