جلباب المرأة المسلمة - (2) عدة أحاديث عن الوجه والكفين

منذ 2019-09-27

الأستدلال على أن الوجه والكفين لا يجب سترهما عدة أحاديث، نسوق ما يحضرنا الآن منها.

ـ عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنه - قال:
((شهدت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الصلاة يوم العيد، فبدأ بالصلاة قبل الخطبة بغير أذان ولا إقامة، ثم قام متوكئاً على بلال، فأمر بتقوى الله، وحث على طاعته، ووعظ الناس، وذكَّرَهم، ثم مضى حتى أتى النساء، فوعظهن، وذكَّرَهنَّ، فقال: تصدقن فإن أكثركنَّ حطبُ جهنم، فقالت امرأة من سِطَةِ النساء [أي جالسةٌ في وسطهن] سفعاء الخدين [أي فيهما تَغَيرٌ وسوادٌ]، فقالت: لِمَ يا رسول الله؟
قال: «لأنكن تكثرن الشكاة، وتكفرن العشير»، قال: فجعلن يتصدقن من حليهن، يلقين في ثوب بلال من أقراطهن وخواتمهن)) رواه مسلم.
والحديث واضح الدلالة على ما من أجله أوردناه، وإلا لما استطاع الراوي أن يصف تلك المرأة بأنها: سفعاء الخدين.

2ـ عن ابن عباس"عن الفضل بن عباس":
((أن امرأة من خثعم استفتت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حجة الوداع [يوم النحر]، والفضل بن عباس رديف رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، [وكان الفضل رجلاً وضيئاً .... فوقف النبي - صلى الله عليه وسلم - للناس يفتيهم] الحديث، وفيه:
(فأخذ الفضل بن عباس يلتفت إليها، وكانت امرأة حسناء، (وفي رواية: وضيئة)، (وفي رواية: فطفق الفضل ينظر إليها، وأعجبه حسنها)، [وتنظر إليه]، فأخذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بذقن الفضل، فحوَّل وجهه من الشق الآخر) رواه البخاري ومسلم.
وفي رواية لأحمد من حديث الفضل نفسه:
(فكنت أنظر إليها، فنظر إليَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - فقلب وجهي عن وجهها، ثم أعدت النظر فقلب وجهي عن وجهها، حتى فعل ذلك ثلاثا وأنا لا أنتهي).
ورجاله ثقات، لكنه منقطع إن كان الحكم بن عتيبة لم يسمعه من ابن عباس.
وروى هذه القصة علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -، وذكر أن الإستفتاء كان عند المنحر بعدما رمى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الجمرة، وزاد:
فقال له العباس: يا رسول الله! لم لويت عنق ابن عمك؟ قال «رأيت شاباً وشابةً فلم آمن الشيطان عليهما» رواه الترمذي وقال: حسن صحيح، ورواه أحمد والضياء في المختارة وإسناده جيد.
والحديث يدل على ما دل عليه الذي قبله من أن الوجه ليس بعورة، لأنه كما قال ابن حزم:
((ولو كان الوجه عورة يلزم ستره لما أقرها على كشفه بحضرة الناس، ولأمرها أن تسبل عليه من فوق، ولو كان وجهها مغطى ما عرف ابن عباس أحسناء هي أم شوهاء)).
وفي ((الفتح)):
((وقال ابن بطال: في الحديث الأمر بغض البصر خشية الفتنة، ومقتضاه أنه إذا أُمنت الفتنة عليه لم يمتنع.
قال: ويؤيده أنه - صلى الله عليه وسلم - لم يحول وجه الفضل حتى أدمن النظر إليها لإعجابه بها، فخشي الفتنة عليه.
وفيه مغالبة طباع البشر لابن آدم، وضعفه عما ركب فيه من الميل إلى النساء والإعجاب بهن.
وفيه دليل على ان نساء المؤمنين ليس عليهن من الحجاب ما يلزم أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم -، إذ لو لزم ذلك جميع النساء لأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - الخثعمية بالاستتار، ولما صرف وجه الفضل. قال:
وفيه دليل على أن ستر المرأة وجهها ليس فرضاً، لإجماعهم على أن للمرأة أن تبدي وجهها في الصلاة، ولو رآه الغرباء).
هذا كله كلام ابن بطال وهو متين جيد.


غير أن الحافظ تعقبه بقوله: (قلت: وفي استدلاله بقصة الخثعمية لما ادعاه نظر لأنها كانت محرمة).
قلت: كلا، فإنه لا دليل على أنها كانت محرمة بل الظاهر خلافه، وقد ذكر الحافظ نفسه أن سؤال الخثعمية للنبي - صلى الله عليه وسلم - إنما كان بعد رمي جمرة العقبة أي بعد التحلل.

3ـ عن سهل بن سعد - رضي الله عنه:
((أن امرأةً جاءت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -[وهو في المسجد]، فقالت يا رسول الله! جئت لأهب لك نفسي، [فصمت، فلقد رأيتها قائمةً ملياً، أو قال: هويناً، فنظر إليها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فصعَّد النظر إليها وصوَّبه، ثم طأطأ رأسه، فلما رأت المرأة أنه لم يقصد فيها شيئاً جلست) الحديث رواه البخاري ومسلم.

4ـ عن عائشة رضي الله عنها قالت:
(كنَّ نساءُ المؤمنات يَشْهَدْنَ مع النبي - صلى الله عليه وسلم - صلاة الفجر متلفعات بمروطهن، ثم ينقلبن إلى بيوتهن حين يقضين الصلاة لا يُعرفن من الغلس) رواه البخاري ومسلم.
ووجه الإستدلال بها هو قولها: (لا يُعرفن من الغلس)، فإن مفهومه أنه لولا الغلس لعُرفن، وإنما يُعرفن عادةً من وجوههن وهي مكشوفة، فثبت المطلوب.
وقد ذكر معنى هذا الشوكاني عن الباجي، ثم وَجدتُ رواية صريحة في ذلك بلفظ:
(وما يَعرفُ بعضُنا وجوهَ بعض) رواه أبو يعلى في مسنده بسند صحيح عنها.

5ـ عن فاطمة بنت قيس:
(أن أبا عمرو بن حفص طلَّقها ألبتة (وفي رواية: آخر ثلاث تطليقات)، وهو غائب ... فجاءت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فذكرت ذلك له ... فأمرها أن تعتد في بيت أم شريك، ثم قال: تلك امرأة يغشاها أصحابي، اعتدِّي عند ابن أم مكتوم؛ فإنه رجلٌ أعمى تضعين ثيابك [عنده]، (وفي رواية: انتقلي إلى أم شريك ـ وأم شريك أمرأة غنية من الأنصار، عظيمة النفقة في سبيل الله، ينزل عليها الضيفان ـ فقلت: سأفعل، فقال: «لا تفعلي، إن أم شريك كثيرة الضيفان، فإني أكره أن يسقط خمارك أو ينكشف الثوب عن ساقيك، فيرى القوم منك بعض ما تكرهين، ولكن انتقلي إلى ابن عمك عبد الله ابن أم مكتوم[الأعمى] .... وهو من البطن الذي هي منه [فإنك إذا وضعت خمارك لم يرك]، فانتقلتُ إليه، فلما انقضت عدتي سمعت نداء المنادي ينادي: الصلاة جامعة، فخرجت إلى المسجد، فصليت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فلما قضى صلاته جلس على المنبر، فقال: «إني والله ما جمعتكم لرغبة ولا لرهبة، ولكن جمعتكم لأن تميماً الداري كان رجلاً نصرانياً، فجاء فبايع وأسلم وحدثني حديثاً وافق الذي كنت أحدثكم عن مسيح الدجال».... ))) الحديث، رواه مسلم.
ووجه دلالة الحديث على أن الوجه ليس بعورة ظاهر، وذلك لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أقرَّ ابنة قيس على أن يراها الرجال وعليها الخمار ـ وهو غطاء الرأس ـ فدل هذا على أن الوجه منها ليس بالواجب ستره كما يجب ستر رأسها ولكنه - صلى الله عليه وسلم - خشي عليها أن يسقط الخمار عنها فيظهر منها ما هو محرم بالنص، فأمرها عليه الصلاة والسلام بما هو الأحوط لها، وهو الانتقال إلى دار ابن أم مكتوم الأعمى؛ فإنه لا يراها إذا وضعت خمارها وحديث ((أفعمياوان أنتما؟!)) ضعيف الإسناد، منكر المتن؛ كما حققته في الضعيفة (5958).
ومعنى قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا وضعت خمارك))؛ أي: إذا حطته؛ كما في كتب اللغة.
وينبغي أن يُعلم أن هذه القصة وقعت في آخر حياته - صلى الله عليه وسلم -، لأن فاطمة بنت قيس ذكرت أنها بعد انقضاء عدتها سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يحدث بحديث تميم الداري، وأنه جاء وأسلم.
وقد ثبت في ترجمة تميم أنه أسلم سنة تسع، فدلَّ ذلك على تأخر القصة عن آية الجلباب، فالحديث إذن نصٌ على أن الوجه ليس بعورة.

6ـ عن ابن عباس رضي الله عنهما:
((قيل له: شهدتَ العيدَ مع النبي - صلى الله عليه وسلم -؟ قال: نعم، ولولا مكاني من الصغر ما شهدته، حتى أتى العَلَمَ الذي عند دار كثير بن الصلت، فصلَّى [قال: فنزل نبي الله - صلى الله عليه وسلم -، كأني أنظر إليه حين ُيجلِسُ الرجالَ بيده، ثم أقبل يشقهم]، ثم أتى النساء ومعه بلال، [فقال: {يا أيها النبي إذا جاءك المؤمنات يبايعنك على أن لا يشركن بالله شيئاً}  فتلا هذه الآية حتى فرغ منها، ثم قال حين فرغ منها: أنتن على ذلك؟ فقالت امرأة واحدة لم يجبه غيرها منهن: نعم يا نبي الله! قال:] فوعظهنَّ، وذكرهنَّ، وأمرهنَّ بالصدقة، [قال: فبسط بلال ثوبه، ثم قال: هلمَّ لكنَّ، فداكنَّ أبي وأمي]، فرأيتهنَّ يهوين بأيديهنَّ يقذفنه (وفي رواية: فجعلن يلقين الفتخ والخواتم) في ثوب بلال، ثم انطلق هو وبلال إلى بيته) رواه البخاري.
قال ابن حزم بعد أن استدل بآية الضرب بالخمار على أن الوجه ليس بعورة:
((فهذا ابن عباس بحضرة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رأى أيديهن، فصح أن اليد من المرأة والوجه ليسا بعورة، وما عداهما ففرض ستره)).

قلت: وفي مبايعته - صلى الله عليه وسلم - النساء في هذه القصة، دليل على أنها وقعت بعد فرض الجلباب؛ لأنه إنما فرض في السنة الثالثة، وآية المبايعة نزلت في السنة السادسة كما سيأتي ويؤيده ما ذكر في فتح الباري 2/ 377 أن شهود ابن عباس القصة كان بعد فتح مكة ويشهد له ما سيأتي.

7 ـ عن ُسبَيْعَةَ بنت الحارث:
((أنها كانت تحت سعد بن خولة، فتوفي عنها في حجة الوداع، وكان بدرياً، فوضعت حملها قبل أن ينقضي أربعة أشهر وعشر من وفاته، فلقيها أبو السنابل بن بعكك حين تعلَّت من نفاسها، وقد اكتحلت [واختضبت وتهيأت]، فقال لها: اربعي ـ أي ارفقي ـ على نفسك ـ أو نحو هذا ـ] لعلَّك تريدين النكاح؟ إنها أربعة أشهر وعشر من وفاة زوجك، قالت: فأتيت النبي - صلى الله عليه وسلم -، فذكرت له ما قال أبو السنابل بن بعكك، فقال: قد حللت حين وضعت) رواه أحمد من طريقين عنها أحدهما صحيح والآخر حسن وأصله في الصحيحين.
والحديث صريح الدلالة على أن الكفين ليسا من العورة في عرف نساء الصحابة وكذا الوجه أو العينين على الأقل وإلا لما جاز لسبيعة رضي الله عنها أن تظهر ذلك أمام أبي السنابل ولا سيما وقد كان خطبها فلم ترضه.

8 ـ وعن ابن عباس أيضاً، قال:
((كانت امرأة تصلي خلف رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، حسناء من أحسن الناس، [قال ابن عياس: لا والله ما رأيت مثلها قط]، فكان بعض القوم يتقدم حتى يكون في الصف الأول لئلا يراها، ويستأخر بعضهم حتى يكون في الصف المؤخر، فإذا ركع نظر من تحت إبطيه [وجافى يديه]، فأنزل الله تعالى: {ولقد علمنا المستقدمين منكم، ولقد علمنا المستأخرين}  رواه أصحاب السنن والحاكم وصححه ووافقه الذهبي وهو كما قالا.


ففي هذه الأحاديث دلالة على جواز كشف المرأة عن وجهها وكفيها، فهي تؤيد حديث عائشة المتقدم، وتبين أن ذلك هو المراد بقوله تعالى {إلا ما ظهر منها} [النور 31]  كما سبق، على أن قوله تعالى فيما بعد: {وليضربن بخمرهن على جيوبهن} [النور: 31] يدل على ما دلت عليه بعض الأحاديث السابقة من عدم وجوب ستر المرأة لوجهها، لأن ((الخُمُر)) جمع خمار، وهو ما ُيغَطَّى به الرأس.

و (الجيوب) جمع الجيب، وهو موضع القطع من الدرع والقميص، وهو من الجوب وهو القطع، فأمر تعالى بليِّ الخمار على العنق والصدر، فدل على وجوب سترهما، ولم يأمر بلبسه على الوجه، فدل على أنه ليس بعورة، ولذلك قال ابن حزم في (المحلى):
((فأمرهنَّ الله تعالى بالضرب بالخمار على الجيوب، وهذا نص على ستر العورة والعنق والصدر، وفيه نص على إباحة كشف الوجه لا يمكن غير ذلك.

 

محمد ناصر الدين الألباني

محدث هذا العصر...توفي رحمه الله في عام 1420 هـ.

المقال السابق
(1) استعياب جميع البدن إلا ما استثني
المقال التالي
(3) إبطال دعوى أن هذه الأدلة كلها كانت قبل فرضية الجلباب