مائة من عظماء أمة الإسلام غيروا مجرى التاريخ - (36) العزيز في زمن الذلة (المتوكل بن الأفطس)

منذ 2019-11-05

" ليس بيننا وبينك يا ألفونسو إلا السيوف، تشهد بحدها رقاب قومك" (المتوكل بن الأفطس)

لو لم أكن أعرف نسبي جيدًا حتى أصل به إلى (سبأ بن يشجب بن يعرب ابن قحطان)، لشككت حينها أنني امرءٌ من البربر! فلقد ذكرت أبطال البربر كثيرًا لدرجة بتّ أخشى فيها أن يتَّهمني البعض بمحاباتي للبربر على حساب غيرهم في هذا الكتاب!

والحقيقة أنني نفسي متفاجئ من تاريخ قبائل الأمازيغ الذي لا نعرف عنه شيئًا، فلقد قدّم أولئك القوم الكثير لأمة محمد -صلى اللَّه عليه وسلم-، ولو لم يكن فيهم إلّا رجلًا واحدًا هو الشيخ (عبد اللَّه بن ياسين) أو الشيخ (أبو بكر بن عمر اللنتوني) لكفاهم، إلا أنني لا أستطيع أن اغفل ذكر بطلٍ إسلامي عظيم ظهر في زمن ضعف وهوان، فأن تكون عظيمًا في زمن العظماء فهذا شيءٌ عادي، أما أن تكون عظيمًا في زمن ندرت فيه العظمة، فأنت وقتها عظيم بالفعل!


وعظيمنا هو البطل الإسلامي البربري (المتوكل بن الأفطس)، وهو ملك ظهر في زمن ملوك الطوائف، وهي فترة من فترات الضعف والتفرق في الأندلس استمرت من سنة 422 هـ إلى سنة 479 هـ، أي أنها فترة استمرت 57 سنة من حكم المسلمين الذي امتد لأكثر من 800 سنة في الأندلس! ومع ذلك لا يذكر إعلامنا الأندلس إلا وسلط الأضواء على عهد ملوك الطوائف، وكأن تاريخ الأندلس كان كله تاريخ ملوك الطوائف! وليس عندي أدنى شك أن ذلك تطبيق عملي لـ "نظرية الغزو التاريخي" التي سبق وأن تطرقنا إليها مرارًا في هذا الكتاب، فمن أهم بنود هذه النظرية بندٌ يقوم فيه الغزاة بتسليط الضوء على مراحل الضعف التي مرت بها الأمة، وذلك لكي يشعر شباب الإسلام بأن تاريخهم أسود بالمجمل، فينغرس في عقلهم الباطن بأن أمتنا ما هي إلى نبتة برية سُقيت بأوساخ التاريخ، فينعدم كيان شبابنا، وتسود فيهم روح الانكسار، ولا يبقى لهم في النهاية إلّا أن يكونوا أتباعًا لأولئك الغزاة!


فكلما بحثتُ اكثر عن تاريخنا، اقتنعت أكثر بحقيقة كانت قد تجسدت لدي، ألا وهي أن معركتنا القادمة إنما هي معركة إعادة كتابة تاريخ هذه الأمة، ورفع الغبار عن صفحات كتابها المجيد، لا لكي نشعر بالفخر والاعتزاز بتاريخ أبطالنا فقط (وهذا شيءٌ مطلوبٌ أيضًا!)،

بل من أجل أخذ العبر واستلهام الدروس من تجاربهم التي خاضوها، فحال قبائل البربر قبل بدء دعوة ابن ياسين لا يختلف كثيرًا عن حال الأمة الآن، فدراسة قصة الأندلس منذ بدايتها وحتى نهايتها تبين لشباب هذه الأمة كيفية الصعود الحضاري، وهذه هي فائدة دراسة التاريخ، وهذا ما نرمي إليه من خلال هذا الكتاب إن شاء اللَّه.


وقبل أن نتحدث عن بطلنا العظيم ينبغي علينا أن نعرف حال الأندلس في زمانه، ومن خلال ذلك يمكن لنا أن نقيس مدى عظمة المتوكل بن الأفطس، فلقد انقسمت دولة الأندلس الإسلامية إلى 22 دولة، يحكمها ملوك من العرب والبربر والمولدين (الإسبان المسلمين)، فساد التضعضع أرجاء الممالك، وأغار كل واحد منهم على أخيه، فكانت المملكة الواحدة تتفكك إلى مملكتين أو أكثر بعد موت ملكها، وهكذا ظلت الأندلس تتشظى حتى أصبحت لقمة سائغة لمملكة قشتالة الصليبية في الشمال، والتي كانت إلى وقت قريب تدفع الجزية إلى الخلفاء الأمويين، ولكن الوقت قد تغير بالكلية في عهد ملوك الطوائف، فلقد أصبح ملوك تلك الممالك المتشرذمة هم من يدفعون الجزية لملك قشتالة (ألفونسو السادس)، فكان هذا الملك الصليبي يجهز جيشه بأموال الجزية التي يأخذها من المسلمين ليقوم بعد ذلك باحتلال مدنهم الواحدة تلو الأخرى! فسقطت بذلك "طليطلة" أعظم مدن الأندلس والتي فتحها الفاتح الإسلامي (طارق ابن زياد) منذ فجر الفتوح الأندلسية، المضحك المبكي في قصة سقوط تلك المدينة العظيمة يكمن في أنها سقطت بعد أن استضاف ملكها (ابن ذي النون) الملك (ألفونسو السادس) في قصورها وذلك بعد أن طرده إخوته الإسبان، فقام ذلك الملك الصليبي الخائن باستكشاف منافذ المدينة من كل جانب ليسهل عليه فتحها بعد ذلك بجيشه. أما ملك "سرقسطة"، وهو أحد ملوك الطوائف، فقد قام بالاستعانة بالصليبيين في مملكة "أراجون" ضد أخيه، فدفع الأموال لملك "برشلونة" الصليبي لكي يعيد له مدينة "بربشتة" التي أخذها أخوه منه، فقام الصليبيون بقتل 100 ألف من المسلمين في يوم واحد في بربشتة، ثم قام الصليبيون باغتصاب الفتيات المسلمات في طرقات تلك المدينة، قبل أن يرسلوا 7 ألاف فتاة بكر من أجمل بنات المسلمين كهدية إلى ملك "القسطنطينية" الصليبي في المشرق.

أمّا ملوك الطوائف، فقد زاد عددهم يومًا بعد يوم، وتلقبوا بألقابٍ كبيرة، فكان منهم المعتصم والمعتضد والمعتمد والناصر، وكان كل منهم أميرًا للمؤمنين، فكان المرء يمشي مسيرة يوم واحد ليقابل ثلاثة من أمراء المؤمنين في دويلات الأندلس المتشظية، مما دفع شاعر الأندلس في ذلك الوقت (أبا بكر بن عمار) لكي يصف ذلك الوضع المزري في الأندلس بقوله:
 

ممـا يُـزهِّدُني في أرْضِ أندلسٍ ...  ألقـابُ مُعتـمـدٍ فـيـهـا وَمُـعْتَـضِـدِ
ألقْابُ ممَلكَة في غَيْرِ مَوْضِعِـها ...  كَالهِرِ يَحْكي انْتِفاخًا صَوْلة الأسَدِ


وفي الوقت الذي دفع فيه جميع ملوك الطوائف الجزية للصليبيين مقابل البقاء على كراسيهم، أبى منهم ملكٌ واحدٌ فقط أن يعطي الدنية في دينه، وهو ملك مملكة "بطليوس" في "البرتغال"، ألا وهو الملك البربري (المتوكل باللَّه بن الأفطس)، والحقيقة أن هذا الموقف يكفيه لكي ينضم إلى قافلة المائة العظماء في هذه الأمة، فأن يحاول المرء مجرد الوقوف في وجه التيار في مثل هذه الظروف، يجعل منه بطلًا بالضرورة، فلم يكتفِ ابن الأفطس بعدم دفع الجزية فحسب، بل بعث برسالة قوية يرد فيها على (ألفونسو) الذي توعده بالحرب إن لم يقتدِ بإخوانه من ملوك الطوائف ويدفع الجزية، فكان رد المتوكل عليه:
"وصل إلينا من عظيم الروم كتاب مدعٍ في المقادير وأحكام العزيز القدير، يرعد ويبرق، ويجمع تارة ثم يفرق، ويهدد بجنوده المتوافرة وأحواله المتظاهرة، ولو علم أن للَّه جنودا أعز بهم الإسلام وأظهر بهم دين نبيه محمد عليه الصلاة والسلام أعزّة على الكافرين، يجاهدون في سبيل اللَّه لا يخافون، بالتقوى يُعرفون وبالتوبة يتضرعون، ولإن لمعت من خلف الروم بارقة فبإذن اللَّه وليعلم المؤمنين، وليميز اللَّه الخبيث من الطيب ويعلم المنافقين. أما تعييرك للمسلمين فيما وهى من أحوالهم فبالذنوب المركومة، ولو اتفقت كلمتنا مع سائرنا من الأملاك لعلمت أي مصاب أذقناك كما كانت آباؤك تتجرعه، وبالأمس كانت قطيعة المنصور على سلفك لما أجبر أجدادك على دفع الجزية حتى أهدى بناته إليه. أما نحن فإن قلّت أعدادنا وعُدم من المخلوقين استمدادنا، فما بيننا وبينك بحر نخوضه ولا صعب نروضه، ليس بيننا وبينك إلا السيوف، تشهد بحدها رقاب قومك، وجلاد تبصره في نهارك وليلك، وباللَّه تعالى وملائكته المسوّمين نتقوى عليك ونستعين، ليس لنا سوى اللَّه مطلب، ولا لنا إلى غيره مهرب، وما تتربصون بنا إلا إحدى الحسنيين، نصر عليكم فيا لها من نعمة ومنة، أو شهادة في سبيل اللَّه فيا لها من جنة، وفي اللَّه العوض مما به هددت، وفرج يفرج بما نددت ويقطع بما أعددت".


فما أن قرأ ألفونسو السادس رده حتى عرف أن هذا الرجل ليس من نفس معدن ملوك الطوائف، فرجع بجيوشه إلى "قشتالة"، ليظل المتوكل بن الأفطس الوحيد بين ملوك الطوائف الذي لم يدفع الجزية البتة!
وظلت الأندلس على هذه الحالة القاتمة حتى حدث شيء عجيب غير من مسار التاريخ هناك، فلقد بعث ألفونسو السادس بوزيره اليهودي (ابن شاليب) إلى (المعتمد بن عبّاد) ملك "إشبيلية" و"قرطبة" يطلب منه أمرًا عجيبًا يوضح مدى الذلة التي وصل إليها ملوك الطوائف، فلقد طلب ألفونسو السادس من المعتمد ابن عباد أن يفتح له أبواب جامع قرطبة (أكبر جامع على وجه الأرض في وقتها!)، وذلك لكي تقوم زوجته ملكة إسبانيا بالولادة عند منبر المسجد!! فتعجب ابن عباد من هذا الطلب المقزز، وعرض أن يضاعف أموال الجزية بدلًا من ذلك، لكن الوزير اليهودي ابن شاليب رفض ذلك وأساء أدبه مع الملك في حضرة الوزراء والشيوخ، عند ذلك بلغ السيل الزبى لدى ابن عباد، فقد وصل الأمر إلى حد الاستخفاف ببيت اللَّه، عندها استل المعتمد بن عباد سيفه وقطع به رأس ذلك الوزير، وأرسل به إلى ألفونسو مرفقًا برسالة أن لا جزية لك بعد اليوم، فاقض ما أنت قاض!

فاستشاط ألفونسو السادس غضبًا، وتقدم بجنوده لأشبيلية، فحاصرها، فطال أمد الحصار هناك، عند ذلك بعث ألفونسو السادس برسالة يستخف بها من ابن عباد، فكتب له يقول: "إن الذباب قد آذاني حول مدينتك، فإن أردت أن ترسل لي مروحة أروح بها عن نفسي فافعل" فتناول المعتمد بن عباد تلك الرسالة وكتب على ظهرها ردًا من جملة واحدة، ثم لف الرسالة وبعثها مرة أخرى إلى ألفونسو السادس، فما إن قرأ ألفونسو السادس ذلك الرد القصير، حتى ارتعدت مفاصله، وارتجفت شفتاه، وأعطى الإشارة لجنوده بالانسحاب الفوري من أسوار اشبيلية، والعودة السريعة إلى حصون قشتالة!


فما هي تلك الجملة القصيرة التي أدخلت الرعب في قلب ألفونسو السادس؟ ولماذا رجع ألفونسو القهقرة بمجرد قراءتها؟ وماذا حصل بعد ذلك؟ وما هي حكاية معركة "الزلاقة" الخالدة والتي تقاس بمعركة "اليرموك" في عظمتها؟ ولماذا سميت بهذا الاسم؟ وكيف كانت نهاية المجرم الصليبي ألفونسو السادس؟
يتبع. . . . .

المقال السابق
(35) "فاتح قارة أفريقيا" أبو بكر بن عمر اللّنتوني
المقال التالي
(37) زعيم إمبراطورية المرابطين (يوسف بن تاشفين)