مواعظ من بستان الواعظين (2-3)
مواعظ من بستان الواعظين ورياض السامعين لابن الجوزي
مجلس في ذكر الجنة وأوصافها وما أعدَّ الله لأوليائه من النعيم فيها:
ينبغي لك أن تشغل قلبك وتعمل فكرك بالتطلع إلى ما أعد الله عز وجل لأوليائه في جنته, والاشتياق إلى ما وصف الله لنا من نعيمها, فمن اشتغل بذكرها, واشتاق إلى نعيمها, لهى عن الرغبة في الدنيا, والحرص عليها, وترك طلب العلو فيها.
{تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ } [القصص:83]
{مثَلُ الجَنَّةِ الَّتي وُعِدَ المُتَّقونَ تَجري مِن تَحتِهَا الأَنهارُ أُكُلُها دائِمٌ وَظِلُّها} [الرعد:35]
{جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ } [الحج:23]
{ يُطَافُ عَلَيْهِم بِصِحَافٍ مِّن ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ }[الزخرف:71]
{وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّـهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ * الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِن فَضْلِهِ لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ} [فاطر:33-34]
{فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ * عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ * يُطَافُ عَلَيْهِم بِكَأْسٍ مِّن مَّعِينٍ * بَيْضَاءَ لَذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ * لَا فِيهَا غَوْلٌ وَلَا هُمْ عَنْهَا يُنزَفُونَ * وَعِندَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ عِينٌ * كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَّكْنُونٌ} [الصافات:43-49]
فيا معشر المشتاقين جاهدوا عدوكم العين بترك الشهوات, ونافسوا في أفعال الخيرات, وتحملوا في طاعة مولاكم المكروهات, يسكنكم مولاكم الجنات, وبيوئكم أعلى الغرفات, ويرفع لكم الدرجات.
مجلس في قوله تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ}
يموت كل صغير وكبير, يموت كل أمير ووزير, يموت كل عزيز وحقير, يموت كل غني وفقير, يموت كل نبي وولي,....كل نفس تموت غير ذي العزة والجبروت.
فما أحسن حال من ذكر الموت فعمل لخلاصه قبل الفوت, وأشغل نفسه بخدمة مولاه, وقدم من دنياه لأخراه, ورغب في دار لا يزول نعيمها, ولا يهان كريمها.
عباد الله اسعوا في فكاك رقابكم, وأجهدوا أنفسكم في خلاصها قبل أن تزهق, فوالله ما بين أحدكم وبين الندم, والعلم بأنه زلت به القدم, إلا أن يحوم عقاب المنية عليه, ويفوق سهامها إليه, فإذا الندم لا ينفع, وإذا العذر لا يسمع, وإذا النصير لا يدفع, وإذا الذي فات لا يسترجع.
فكأني بك يا أخي وقد..بكى عليك الأهل والأخوان, وفقدك الولدان, ونادى عليك المنادى قد مات فلان بن فلان, ثم نقلت عن الأحباب, وحملت إلى أرماس التراب, وأضجعوك في محل ضنك,..مهول منظره, مغشى بالوحشة.
يا ابن آدم ما أغفلك..كأنك بالموت قد فاجأك, وملك الموت قد وافاك, فيئس منك الطبيب, وفارقك الحبيب, وتفجع لفقدك كل قريب, فوقعت في الحسرة, وجفتك العبرة, وبطل منك كل لسان, بعد الفصاحة والبيان, وأدرجت في الأكفان, وصار القبر مأواك, وإلى يوم القيامة مثواك, وفارقك الأهل والإخوان, ووقع بهم عنك السلو والنسيان فإن كان لك منزل سكنوه أو كنت ذا مال قسموه
فاذكر حالك أيها العاقل, يوم تُقلّبك على المغتسل يد الغاسل, قد زال عزك عنك, وسُلِب مالك منك, وأخرجت من بين أحبابك, وجهزت لترابك, وأسلمت إلى الدود, وصرت رهناً بين اللحود, وبكى عليك الباكون قليلاً, ثم نسوك دهراً طويلاً, فتغيرت منك المحاسن, وتحكم في أعضائك البلى.
فالله الله معاشر المسرفين لا تغتروا بالعز والمال, فإن الموت لا يهاب الكبير الجليل, ولا يرحم الحقير الذليل, فكونوا منه على حذر, وأعدوا له صالح الأعمال, من قبل أن يأتي يوم لا حيلة فيه لمحتال, يا إخواني إلى كم هذه الغفلة ؟ إلى كم التمادي في البطالة والاغترار بالمهلة...فالله الله عباد الله اجتهدوا واستعدوا للموت, وبادروا آجالكم قبل الفوت, تفوزوا بالجنان في دار الرحمن....فالله الله معاشر المذنبين لا تشغلوا عمن يطلبكم, ولا تنسوا من لا ينساكم
فالله الله بادروا العمر يسير, والأجل قصير, قبل نزول ملك الموت بالهول العظيم الكبير, فالموت يقصم الأصلاب, ويذل الرقاب, ويرد كل مخلوق إلى التراب, ويقرب المؤمن الطائع إلى الجنة المآب, ويسوق الفاجر العاصي إلى أليم العذاب, فتفكروا في الموت يا أهل الفناء والذهاب.
فالله الله أخواني لا تغتروا بصحة الأجسام, ومداومة الأيام, فإن الموت يأتي في ألهى ما أنت عليه من الدنيا وألذَّ ما كنت فيه, فلا الصحيح يدعه لصحته, ولا الصغير يرحمه لصغره, ولا الكبير يهابه لكبره...فلا يغرنكم طول الأمل, وجدوا واجتهدوا وكونوا من الموت على وجل, فإن الموت غاد ورائح, وماس وصابح, وأنت يا أخي منه على يقين وتحقيق, فلم تحيد عن منهاج الطريق ؟ فالله الله.. ادروا قبل نزول السكرات, ووقوع الحسرات, واجتهدوا فإن الموت آت, وكل آت فهو قريب.
مجلس في ذكر القبور:
يا أخي إذا أردت أن تدري كيف حالك من بعدك...فانظر ما تحتاج إليه في قبرك فأكثر منه لطول مدتك فيه, وهو العمل الصالح,...وانظر حالك الذي أنت عليه إن كان يصلح للموت والقبر فتمادى عليه, وإن كان لا يصلح لهذين فتب إلى الله تعالى منها وارجع إلى ما يصلح.
مجلس في تحريم الخمر وما جاء فيها:
الخمر..كانت تشرب في أول الإسلام, حتى نزل تحريمها بالمدينة وبعد الهجرة, قال تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } [المائدة:90]
روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «كلُّ مسكر حرام » وما أسكره كثيره من جميع الأشربة فقليله حرام.
اعلموا أن أمكن ما يكون الشيطان من العبد إذا شرب المسكر, فإذا تمكن الشيطان من العبد أمره بالكفر, وصده عن الإيمان, وعن طاعة الرحمن.
وإذا شربتم القهوات(الخمور) انغلقت عنكم أبواب الخيرات وانفتحت لكم أبواب المنكرات, وحلت بكم عظائم المصيبات, وغضب عليكم رب الأرباب وسيد السادات, وعاقبكم بأشد العقوبات, في دار المصائب والحسرات.
من بات سكراناً بات للشيطان..حبيباً, فإذا كنت حبيب الشيطان فأنت عدو للرحمن, وإذا كانت عدو للرحمن فأنت من أهل الهوان, في سموم النيران.
عباد الله مولاكم...وسع عليكم من سعة رزقه..وأسبل عليكم جزيل النعم, فلا تستعينوا بنعمه على معاصيه, فإنه ذو انتقام وعذاب, ورحمة وثواب, فأطيعوا مولاكم في جميع الأمور, ولا تهتكوا أستاركم بشرب الخمور, ولا تغرنكم الحياة الدنيا, ولا يغرنكم بالله الغرور.
روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من مات وهو يشرب الخمر, لم يشربها في الآخرة» وهي والله من ألذ نعيم الجنة كما قال تبارك وتعالى {وَأَنْهَارٌ مِّنْ خَمْرٍ لَّذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ} [محمد:15]حرمت نفسك اللذات في قرار الجنات, وعصيت رب الأرضين والسموات, بشربك..المحرمات ولم تستح من عالم السرائر والخفيات.
أيها المصرون على الجراع والآثام, المسرفون في شراب المسكر الحرام, ضيعتكم أيامكم في الجهل والغرور, وقطعتم أوقاتكم في الفسق والفجور, واستعنتم على معصية الله بشرب الخمور, أما علمتم أن الخمر متلفة للمال, مذهبة للبهاء والجمال, عاقبتها إلى وبال, ويؤول شاربها إلى شر مآل.
الخمر أولها لهو ومزاح, وآخرها بكاء ونياح, شارب الخمر..بعيد عن الإيمان, قريب من الضلال والخسران, في بحار السخط عائم, وعلى عذاب النار حائم, مخالف للتنزيل, ملعون على لسان سيد المرسلين.
الخمر موقعة للعداوة والشقاق, قاطعة للخير والأرزاق, قائدة إلى أليم العذاب يوم التلاق, تحول بين شاربها وبين الرشاد, وتلقيه في الضلال والفساد, وتقود إلى العذاب الشديد يوم التناد.
- التصنيف: