اللهم ثبته
لذلك ترجم البخاري للحديث بقوله: «باب من لا يثبت على الخيل» ووجه دخول الترجمة في الأحكام أن الحديث يدل على فضيلة ركوب الخيل والثبوت عليها.
{بسم الله الرحمن الرحيم }
الحمد لله شرح صدور المؤمنين فانقادوا لطاعته، وحبب إليهم الإيمان وزينه في قلوبهم فلم يجدوا حرجًا في الاحتكام إلى شريعته، وأشهد أن لا إله إلا الله لا شريك له في ربوبيته وألوهيته، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحابته وسلم تسليمًا
أما بعد
روى البخاري ومسلم عَنْ جَرِيرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: «مَا حَجَبَنِي النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُنْذُ أَسْلَمْتُ، وَلاَ رَآنِي إِلَّا تَبَسَّمَ فِي وَجْهِي، وَلَقَدْ شَكَوْتُ إِلَيْهِ إِنِّي لاَ أَثْبُتُ عَلَى الخَيْلِ، فَضَرَبَ بِيَدِهِ فِي صَدْرِي، وَقَالَ: (اللَّهُمَّ ثَبِّتْهُ وَاجْعَلْهُ هَادِيًا مَهْدِيًّا) وفي رواية: قَالَ: فَمَا وَقَعْتُ عَنْ فَرَسٍ بَعْدُ» "
راوي الحديث سيدنا «جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْبَجَلِيِّ -رضي الله عنه-» نسبة إلى «بجيلة بنت مصعب» أحد أجداده، وأسلم جرير قبل وفاته -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بأربعين أو ثمانين يوما، وكان -رضي الله عنه- حسن الصورة.
قال عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-: جرير يوسف هذه الأمة، وهو سيد قومه
وفي الطبراني أنه لما دخل على النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أكرمه وبسط له رداءه وقال: «إذا أتاكم كريم قوم فأكرموه»
وَعَنْ قَيْسٍ عَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ -رضي الله عنه- قَالَ: «كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ بَيْتٌ يُقَالَ لَهُ ذُو الْخَلَصَةِ، وَكَانَ يُقَالُ لَهُ الْكَعْبَةُ الْيَمَانِيَةُ أَوِ الْكَعْبَةُ الشَّأْمِيَّةُ. فَقَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: هَلْ أَنْتَ مُرِيحِي مِنْ ذِي الْخَلَصَةِ؟ قَالَ: فَنَفَرْتُ إِلَيْهِ فِي خَمْسِينَ وَمِائَةِ فَارِسٍ مِنْ أَحْمَسَ [قبيلة جرير]، قَالَ: فَكَسَرْنَا، وَقَتَلْنَا مَنْ وَجَدْنَا عِنْدَهُ، فَأَتَيْنَاهُ فَأَخْبَرْنَاهُ، فَدَعَا لَنَا وَلأَحْمَسَ» .
وفي باب [البشارة في الفتوح] من الجهاد: فبارك على خيل أحمس ورجالها خمس مرات.
** قوله: (ما حجبني النبي -صلى الله عليه وسلم- منذ أسلمت)
أي ما منعني مما التمست منه بل أعطاني ما طلبته منه البتة منذ أسلمت
أو ما حجبني من دخول الدار ولا يلزم منه النظر إلى أمهات المؤمنين
أو ما منعني من مجالسته الخاصة
// فيه أن الرجل الوجيه في قومه له حرمة ومكانة على من هو دونه؛ لأن جريرا كان سيد قومه.
// وفيه أن من دلالات المحبة وجمال الاحترام والتواضع؛ نزع الحجب وترك الاحتجاب والكلفة عن الأخر في أي موطن، وتحت أي ظرف، إنزالا لمكانة الرجل، وطردا لغواية الشيطان ونزغه، وصدقا في المحبة والتقدير
** قوله: «وَلاَ رَآنِي إِلَّا تَبَسَّمَ فِي وَجْهِي»
//فيه أن لقاء الناس بالتبسم وطلاقة الوجه من أخلاق النبوة، وهو مناف للتكبر وجالب للمودة.
فالتبسم علامة الترحيب الذي يقوي سكون النفس وفرحها بالرغبة في لقاء الأشخاص والأنس بهم في مجلسهم، فهو ترحيب لا يعرف لغة التزييف ولا التمثيل.
// قال بعض أهل العلم: ولعل منشأ كثرة انبساطه عليه السلام معه أن جرير -رضي الله عنه- كان من مظاهر الجمال، ولذا قال عمر رضي الله عنه إن جريرا يوسف هذه الأمة
** قوله (فَضَرَبَ بِيَدِهِ فِي صَدْرِي) لأنه محل القلب
//فيه أنه لا بأس للعالم والإمام إذا أشار إلى إنسان في مخاطبته أو غيرها أن يضع عليه يده، ويضرب بعض جسده، وذلك من التواضع
//وفيه استمالة النفوس.
** قوله: (اللهم ثبته) لفظ شامل للثبات على الخيل وعلى غيرها
// فيه أن دائما عند إجابة الطلب لا تقف عند محدودية المطلوب بل زد في دعائك وعطائك .. طلب جرير -رضي الله عنه- الثبات على الخيل فزاده النبي -صلى الله عليه وسلم- دعوة صالحة عامة لا غنى للإنسان عنها في جميع الميادين والمواقف.
وفي الحديث الصحيح: (من استعاذكم بالله فأعيذوه، ومن سألكم بالله فأعطوه [إجلالا لمن سأل به]، ومن دعاكم فأجيبوه، ومن صنع إليكم معروفا فكافئوه، فإن لم تجدوا ما تكافئونه فادعوا له [وكرروا له الدعاء] حتى تروا أنكم قد كافأتموه) .. قال أهل العلم: ووجه المبالغة أنه رأى من نفسه تقصيراً في المجازاة فأحالها إلى اللّه ونعم المجازي هو سبحانه.
//وفيه فضل الفروسية وإحكام ركوب الخيل وأن ذلك مما ينبغي أن يتعلمه الرجل الشريف والرئيس.
وكتب عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- لأهل الشام يقول لهم: (علموا أولادكم السباحة والرمي والفروسية).
ومن طريف المواقف أن الحجاج قال لمؤدب بنيه: «علمهم السباحة قبل الكتابة، فإنهم يجدون من يكتب عنهم، ولا يجدون من يسبح عنهم» .
// لذلك ترجم البخاري للحديث بقوله: «باب من لا يثبت على الخيل» ووجه دخول الترجمة في الأحكام أن الحديث يدل على فضيلة ركوب الخيل والثبوت عليها. ولولا ذلك لما دعا به -صلى الله عليه وسلم-.
//وفيه بركة دعوة النبي -صلى الله عليه وسلم-؛ لأنه قد جاء في هذا الحديث أنه ما سقط بعد ذلك من الخيل.
** قوله: (هاديا مهديا) من باب التقديم والتأخير الذي في كلام العرب؛ لأنه لا يكون هاديا لغيره إلا بعد أن يهتدي هو ويكون مهديا .
جمع وترتيب
د/ خالد سعد النجار
alnaggar66@hotmail.com
خالد سعد النجار
كاتب وباحث مصري متميز
- التصنيف: