فلولا إذ جاءهم بأسنا تضرّعوا

منذ 2020-04-03

فما أجدرنا أن نتأسّى بنبينا -صلى الله عليه وسلم- في التضرُّع ودوام اللجوء إلى الله -سبحانه- في كلّ وقت وحين، وإنّ الأمة المسلمة اليوم أحوج ما تكون إلى استمطار رحمات الله، وفتح أبواب السماء، بالدعاء الصادق، والتضرّع الخاشع لله ربّ العالمين.

تمهيد:

  إنَّ من السنن الربانية التي استفاضت بها الأدلة الشرعية إيضاحًا وإقرارًا أنَّ الله -تعالى- لا يُعَذِّب الأمم عذابًا يستأصلها لمجرد ارتكاب الذنب والوقوع في الإثم، بل من رحمة الله -تعالى- أنَّ هذا العذاب والإهلاك لا يُصيب الأمم والأفراد إلا بعد استيفاء مراحل متعددة يتجلّى فيها حِلْم الله، وعدم معاجلته للأمم بالعقوبات؛ فأوجب -سبحانه- على ذاته العليَّة أن يُرسِل إلى البشر الرسلَ والأنبياءَ ليعرِّفوهم بربهم، ويعلِّمُوهم ما يحبّه وما يقرِّبهم إليه، ويحذِّرُوهم مما يُسْخِطه عليهم، ويرشدوهم إلى طريق السعادة في الدنيا والآخرة؛ فقال ربنا -سبحانه-: { {وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ} }[القصص: 59]، وقال -جلّ وعلا-: {{وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} }[الإسراء: 15]، وقال -عزّ وجل- عن حكمة إرسال الرسل: { {رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} }[النساء: 165]؛ فيرسل لهم الرّسل مبشرين ومنذرين ليقطع حجتهم، ويمحو عذرهم. وقضى ربنا -سبحانه- وقرَّر أنه لا يُعَذِّب الأمة الصالحة المُصْلِحَة التي تؤمن به، وتتّبع رسله، وتقيم حدوده، وتلتزم شرعه، فقال -تعالى-: { {وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ} }[هود: 117].

فإذا استقامت الأمم على النّهج القويم غفر اللهُ لهم الزلات، وأمدهم بعطائه، وتولّاهم بحفظه، وأما إذا ما خالفت الأمم ونقضت العهود وأصرّت على مخالفةِ المنهج الحقّ، والاستمرارِ على الغيّ، والتمادي في الباطل؛ فعندها يتنزّل عليهم العقاب ويحلّ عليهم السخط، قال -تعالى-: { {فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} }[العنكبوت: 40].

ومن لُطْف الله بالأمم والأفراد قبل أن يعذبهم عذابًا يستأصلهم أنه يبتليهم ويعرِّضهم للبأساء والضراء حتى يعودوا للجادّة والصواب، ومن هنا كان الابتلاءُ سنةً ماضيةً ويجب على الناس أن ينتبهوا لأمره ويحسنوا التعامل معه.

والناظر في القرآن يجد أنه قد أشار للعديد من الأمور التي يجب على عباده المؤمنين أن يوطّنوا أنفسهم عليها ساعة البلاء؛ منها:

1- استحضار الإنسان لحاله وأخطائه:
من خير ما يفعله العبد عند حلول المصائب والبلايا أن يرجع على نفسه باللائمة، ولا يلوم القَدَر، ولا يعاتب ربه، بل يعلم أن ما أصابه من شَرّ فإنما هو بسبب ما اجترحته جوارحه من الذنبِ تلو الذنب، فيعلم تقصيره وعصيانه، ويكون ذلك دافعًا له إلى تصحيح المسار، والعودة إلى الله تعالى؛ قال -تبارك وتعالى-: { {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} }[الشورى: 42]، وقال -سبحانه-: { {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّي هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ} }[آل عمران: 165]، فبعض الصحابة تساءلوا عن سبب ما وقع بهم خلال غزوة أُحُد وفيهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وهو المؤيَّد بالوحي، فأخبرهم ربهم بأنّ ما أصابهم من ضرٍّ فإنما هو بما فعلوه من مخالفة أمر الرسول -صلى الله عليه وسلم-.

2- التوبة:
من أفضل ما يُتَّقَى به العذاب، وتُدْفَع به العقوبات: التوبة إلى الله تعالى، والنّدم على ما سلف من الذنب، فلا يكون العقاب إلا بالإصرار على ذنب، ومما نُقل عن السلف أنه ما نَزل بلاء إلا بذنب ولا يُرفع إلا بتوبة، وقد ذكر الله -سبحانه- في القرآن الكريم أنه رَفع العذاب عن قوم تابوا وأنابوا، وهم قوم يونس -عليه السلام-، قال تعالى: { {فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ} }[يونس: 98].

أخرج ابن أبي حاتم في تفسيره بسنده عَنْ قتادةَ، في قَوْلِ اللَّهِ: { {فَلَوْلا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ} }[يونس: 98]، قال: «لم تكنْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ من الأممِ قبل قوم يونس كَفَرَتْ ثمّ آمَنَتْ حين عَايَنَتِ العذابَ إلا قوم يونس، فاستثنى اللَّهُ قوم يونس، وَذُكِرَ لنا أَنّ قَوْمَ يونس كانوا بِبَعْضِ أَرْضِ الْمَوْصِلِ، فلمّا فَقدُوا نبيَّهم قَذَفَ اللهُ فِي قلوبهم، فَلَبِسُوا المُسُوحَ وأَخْرجوا المواشي من كلّ بهيمة وولدها، فَعَجُّوا إلى الله أربعين صباحًا، فلمّا عَرَفَ اللهُ -عز وجل- منهم الصدقَ بقلوبهم والتوبة والندامة على ما مضى منهم كَشَفَ عنهم العذابَ بعد أَنْ تَدَلَّى عليهم، لم يكن بينهم وبين العذاب إلا مِيلٌ»[1].

وهذا يدلّ على أن البلاء والعذاب لا يقابَل بالتسخّط ولوم الأقدار، وإنما بالتوبة الصادقة إلى الله سبحانه؛ وبهذا يرفع اللهُ العذابَ ويخفّف البلاء، ويجنِّب العبد ظنّ السوء بربه جلّ وعلا.

ومن أكثر الأمور التي أشار إليها القرآن مما يجب على الناس التزامه حين البلاء والبأس هو التضرّع لله -عزّ وجل-، قال تعالى: { {فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ} }[الأنعام: 42]، وقال تعالى: { {فَلَوْلَا إذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا} }[الأنعام: 43]، وقال تعالى: { {وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ} }[المؤمنون: 76]، قال تعالى: { {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} }[آل عمران: 173].

مفهوم التضرع:
التضرع لغة: من ضرع فلان لفلان وضرع له، إذا ما تخشَّع له وسأله أن يعطيه. ويقال: ضرع الرّجل ضراعة، أي: خضع وذلّ، وأضرعه غيره، وقال ابن منظور: ضرع إليه يضرع ضرعًا وضراعة: خضع وذلَّ.
والتّضرّع هو: التّذلّل والمبالغة في السّؤال والرّغبة، وقال الرّاغب: التّضرّع: إظهار الضّراعة. قال صاحب البصائر: معناه: يتذلّلون في دعائهم إيّاه. والدّعاء تضرّع؛ لأنّ فيه تذلّل الرّاغبين. قال: وقوله تعالى: { {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا} }[الأعراف: 55]، أي: مظهرين الضّراعة وهي شدّة الفقر إلى اللّه تعالى، وحقيقته الخشوع[2].
والضراعة اصطلاحًا: قال المناويّ: الضّراعة: الخضوع والتّذلّل. والتّضرّع: أن تدعو اللّه -عزّ وجلّ- بضراعة[3].

أهمية التضرّع والدعاء الصادق:
ولقد أخبر ربُّنَا -سبحانه- في القرآن العظيم أنّ التضرّع والدعاء الصادق يرفعُ العذاب ويردّ البلاء، فقال عن الأمم السابقة: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ * فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}[الأنعام: 42، 43]؛ فالغاية من أخذ العباد بالبأساء والضراء أن يضرعوا إلى الله، ويرجعوا إليه، قال ابن القيم -رحمه الله-: «فالله يبتلي عبده ليسمع تضرّعه ودعاءه والشكوى إليه، ولا يحبّ التجلّد عليه، وأحبّ ما إليه انكسارُ قلبِ عبدِه بين يديه، وتذللـه له وإظهار ضعفه وفاقته وعجزه وقلة صبره، فاحذر كلّ الحذر من إظهار التجلّد عليه، وعليك بالتضرع والتمسكن وإبداء العجز والفاقة والذلّ والضعف، فرحمته أقرب إلى هذا القلب من اليد للفم»[4].

قال الحافظ ابن كثير: «وقوله: { {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ} } يعني الفقر والضيق في العيش، { {وَالضَّرَّاءِ} }، وهي الأمراض والأسقام والآلام، { {لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ} } أي: يدعون اللهَ ويتضرعون إليه ويخشعون، قال الله تعالى: { {فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا} } أي: فهلّا إذ ابتليناهم بذلك تضرّعوا إلينا وتمسكَنُوا لدينا، ولكن { {قَسَتْ قُلُوبُهُمْ} } أي: ما رقّت ولا خشعت، { {وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} } أي: من الشرك والمعاندة والمعاصي، { {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ} }، أي: أعرضوا عنه وتناسَوه، وجعلوه وراء ظهورهم»[5].

عواقب الغفلة عن التضرّع في أوقات الرخاء:
وعاب اللهُ على قوم لا يتضرعون إلّا عند حلول النكبات، فإذا نجاهم الله وأجاب سؤالهم أعرضوا عن شرعه، وشكروا غيره: { {قُلْ مَن يُنَجِّيكُم مِّن ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً لَّئِنْ أَنجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ * قُلِ اللّهُ يُنَجِّيكُم مِّنْهَا وَمِن كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنتُمْ تُشْرِكُونَ} }[الأنعام: 63- 64].

قال الشنقيطي: «{ {وَإِذَا مَسَّكُمُ الْضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الإِنْسَانُ كَفُورًا} }[الإسراء: 67]: بيَّن -جلّ وعلا- في هذه الآيات الكريمة أنّ الكفار إذا مسّهم الضرّ في البحر، أي: اشتدت عليهم الريح فغشيتهم أمواج البحر كأنها الجبال، وظنوا أنهم لا خلاص لهم من ذلك ضلّ عنهم؛ أي: غاب عن أذهانهم وخواطرهم في ذلك الوقت كلّ ما كانوا يعبدون من دون الله -جلّ وعلا- فلا يدعون في ذلك الوقت إلا الله -جل وعلا- وحده؛ لعلمهم أنه لا ينقذ من ذلك الكرب وغيره من الكروب إلا هو وحده -جلّ وعلا- فأخلصوا العبادة والدعاء له وحده في ذلك الحين الذي أحاط بهم فيه هولُ البحر، فإذا نجاهم اللهُ وفرَّج عنهم ووصلوا البرَّ رجعوا إلى ما كانوا عليه من الكفر. كما قال تعالى: { {فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الْإِنْسَانُ كَفُورًا} }[الإسراء: 67].

وهذا المعنى المذكور في هذه الآية الكريمة أوضحه اللهُ -جلّ وعلا- في آيات كثيرة؛ كقوله: { {هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ * فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ} }[يونس: 22- 23]، وقوله: { {قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِّنْهَا وَمِن كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنتُمْ تُشْرِكُونَ} }[الأنعام: 63- 64]، وقوله: { {وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ} }[الزمر: 8]»[6].

إنّ العباد قد يغفلون في أوقات الرخاء عن عبادة التضرّع وصدق اللجوء إلى الله، واستشعار حاجتهم التامّة إلى ربهم، ولكن لا ينبغي لهم أن يغفلوا عنها في أوقات البلاء والمحنة، ولو أنهم غفلوا في الحالين لعرَّضوا أنفسهم لعقوبة الله، فإنّ أسوأ أحوال العبد أن تغريه النعمةُ ويزيّن له الشيطانُ الفرحَ والبطرَ بما أوتيه من نِعَمٍ متتالية، فيغفل عن شكرها، وعندها تحلّ عليه العقوبات، قال تعالى: { {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ * فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} }[الأنعام: 44، 45].

وهذا من إمهال الله -سبحانه وتعالى- للأمم السابقة؛ ففي أول الأمر أخذهم بالبأساء والضراء لعلهم يتضرعون، فلما لم يتضرعوا وقست قلوبهم حلّت ووقعت عليهم العقوبة، فلما نسوا ما ذُكِّروا به فتحنا عليهم أبواب كلّ شيء؛ استدراجًا من الله -سبحانه وتعالى- لهم.

شتّان بين حال مَن تضرَّع وحال مَنْ أَبَى:
ولقد أخبر اللهُ -تعالى- عن أقوام ابتلاهم وتوعّدهم بالعذاب فاستكان بعضهم وتضرّع إلى الله فكشف الله عنهم عذاب الدنيا، وأخبر عن آخرين ابتلاهم وتوعّدهم لكنهم تكبَّروا وتجبَّروا وما استكانوا ولا تضرَّعوا، فأخذهم العذاب.

أما الأولون الذين تضرَّعوا فمنهم قوم يونس -عليه السلام- الذين قال الله عنهم: { {فَلَوْلا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ} }[يونس: 98]، وقد ذكر بعض المفسرين أن قوم يونس خرجوا إلى الطرقات واصطحبوا نساءهم وأطفالهم ودوابهم ودعوا وجأروا إلى الله، وقيل: إنهم ظلّوا على هذه الحالة أربعين ليلة وهم يستغيثون ويتضرعون ويدعون ويبكون ويستغفرون فكشف الله -تبارك وتعالى- عنهم العذاب في هذه الحياة الدنيا، وهذا من فضل الله -سبحانه وتعالى- ومن سعة رحمته.

أما الآخرون الذين لم يُظهِروا الفقر والضّراعة؛ فقد قال عنهم: { {وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ * حَتَّى إِذَا فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا ذَا عَذَابٍ شَدِيدٍ إِذَا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ} }[المؤمنون: 76، 77].

سادة المتضرّعين:
ولما كان التضرّع إلى الله -تعالى- بهذه المكانة؛ كان أحرص الناس عليه الأنبياء والرسل، وإنَّ تضرع الأنبياء والمرسلين -عليهم السلام- والتجاءَهم إلى الله سمةٌ بارزة في سيرتهم العطرة حين نزل بهم البلاء واشتد عليهم الكرب، فكان نداء نوح -عليه السلام- ربّه أن ينجيه وأهله من الكرب العظيم، كما كان التجاء إبراهيم -عليه السلام- إلى الله وحده أن يجعل أفئدةً من الناس تهوي إلى زوجه وولده، وافتقار أيوب -عليه السلام- أن يكشف اللهُ ما نزل به من ضرّ، واستغاثة يونس -عليه السلام- في ظلمة جوف الحوت وقاع البحر أن ينجيه من الغَمّ، كما كانت شكوى يعقوب -عليه السلام- لله وحده: { {قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} }[يوسف: 86].

ومَن طالع سيرة النبي -صلى الله عليه وسلم- يجد أنه كان دائمَ التضرّع إلى الله تعالى، فكان من أكثر دعائه: «يا حي يا قيوم برحمتك أستغيث، أصلح لي شأني كلّه ولا تكلني إلى نفسي طرفة عين»[7].

لم يكن النبي الكريم -صلى الله عليه وسلم- وحده مَن يتضرع إلى الله -تعالى- في وقت الشدة والمحنة والنوازل، بل كان الصحابة الكرام -رضي الله عنهم- يتضرعون إلى الله تعالى -أيضًا- ويستغيثون به، ويسألونه النصر والتأييد، وكتاب الله تعالى يؤكِّد ذلك ويؤيده: { {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُم بِأَلْفٍ مِّنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ} }[الأنفال: 9]، قال الطبري -رحمه الله-: «ومعنى قوله: {تَ {سْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ} }: تستجيرون به من عدوكم، وتدعونه للنصر عليهم»[8].

فمع تَضرُّع الرسول الخاتم -صلى الله عليه وسلم- والتجائه إلى الله -تعالى- في كلّ أحواله، إلا أن شدة تضرّعه وانكساره وإلحاحه على ربه باستجابة دعائه كانت في وقت الحروب والأزمات، ففي غزوة بدر الكبرى أكثر الرسول الكريم من التضرع إلى الله والإلحاح بالدعاء إليه سبحانه، ففي الحديث الصحيح عن عمر بن الخطّاب قال: « «لما كان يومُ بَدْرٍ نظرَ رسولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- إلى المشركين وَهُمْ أَلْفٌ، وأصحابه ثلاثمائة وتسعة عشر رجلًا، فاستقبلَ نبيُّ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- القِبلةَ، ثمّ مَدَّ يديه فجعل يهتف بربِّه: (اللَّهُمَّ أَنْجِزْ لِي مَا وَعَدْتَنِي، اللَّهُمَّ آتِ مَا وَعَدْتَنِي، اللَّهُمَّ إِنْ تَهْلِكْ هَذِهِ الْعِصَابَةُ مِنْ أَهْلِ الإِسْلَامِ لا تُعْبَدْ فِي الأَرْضِ)، فما زالَ يهتفُ بربّه مَادًّا يديهِ مُستقبل القِبْلةِ حتى سقط رداؤُه عن مَنْكِبَيْهِ، فأتاهُ أبو بكر فأخذَ رداءه فألقاه على مَنْكِبَيْهِ ثمّ التزمه مِنْ ورائه، وقال: (يا نَبِيَّ اللهِ! كذاكَ مُناشدتُكَ ربَّك. فإنه سيُنْجِزُ لك ما وعدك)» ، فأنزل اللهُ -عز وجلَّ-: {{إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُم بِأَلْفٍ مِّنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ} }[الأنفال:9]، فأمدَّه اللهُ بالملائكة»[9].

وأرشدَ النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- العبدَ المسلم إذا أراد أن يصلي أن يتضرّع إلى ربّه؛ فعن الفضل بن عبّاس-رضي اللّه عنهما- أنّه قال: قال رسول اللّه -صلّى الله عليه وسلّم-: (الصّلاة مثنى مثنى، تشهَّدْ في كلّ ركعتين وتخشَّع، وتضرَّع، وتَمَسْكَن، وتذرَّع وتُقْنِع يديك- يقول: ترفعهما إلى ربّك مستقبلًا ببطونهما وجهك- وتقول: يا ربّ يا ربّ! ومن لم يفعل ذلك فهو كذا وكذا)[10].

ويصف ابن عباس -رضي اللّه عنهما- حال النبي -صلى الله عليه وسلم- في صلاة الاستسقاء وشدّة تضرّعه إلى ربه، فقال: « «إنّ رسول اللّه -صلّى اللّه عليه وسلّم- خرج متبذّلًا متواضعًا متضرّعًا، حتّى أتى المصلَّى، فلم يخطب خطبتكم هذه، ولكن لم يزل في الدّعاء والتّضرّع والتّكبير وصلَّى ركعتين كما كان يصلِّي في العيد» »[11].

فما أجدرنا أن نتأسّى بنبينا -صلى الله عليه وسلم- في التضرُّع ودوام اللجوء إلى الله -سبحانه- في كلّ وقت وحين، وإنّ الأمة المسلمة اليوم أحوج ما تكون إلى استمطار رحمات الله، وفتح أبواب السماء، بالدعاء الصادق، والتضرّع الخاشع لله ربّ العالمين.

 

عبد العزيز الشامي

مركز تفسير للدراسات


[1] تفسير ابن أبي حاتم، ابن أبي حاتم الرازي (8/100).

[2] ينظر: المقاييس (3/ 396)، وتهذيب اللغة للأزهري (1/ 470)، والصحاح (3/ 1249)، ولسان العرب «ضرع» (2580) ط. دار المعارف، والمفردات للراغب (295)، وبصائر ذوي التمييز (3/ 473).

[3] التوقيف على مهمّات التعاريف (222). نقلًا عن موسوعة نضرة النعيم (7/2663) بتصرف يسير.

[4] الروح، ابن قيم الجوزية، دار الكتب العلمية، بيروت، 1395هـ- 1975م، (ص260).

[5] تفسير القرآن العظيم، أبو الفداء إسماعيل بن عمر بن كثير، مرجع سابق، (2/162).

[6] أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن، محمد الأمين بن محمد المختار بن عبد القادر الجكني الشنقيطي (المتوفى: 1393هـ)، الناشر: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت، لبنان، (3/171).

[7] أخرجه النسائي في الكبرى (10405)، والحاكم (2000)، وقال: صحيح على شرط الشيخين.

[8] تفسير الطبري (13/409).

[9] أخرجه مسلم (4687).

[10] أخرجه الترمذي (385) واللفظ له، وأبو داود (1296) من حديث المطلب بن ربيعة، وابن ماجه (1325) نحوه. وأحمد (1/ 211)، وصححه الشيخ أحمد شاكر.

[11] أخرجه الترمذي (558) واللفظ له، وقال: حسن صحيح، وأبو داود (1165)، والنسائي (3/ 156). وابن ماجه (1266)، وأحمد (1/ 230)، وذكره ابن الأثير في جامع الأصول (6/ 192) وقال محققه: إسناده حسن.