هل وباء كورونا مؤامرة؟

منذ 2020-04-11

ستظل نظريات المؤامرة فكرة محتملة، لكن تبنيها واعتقادها يصبح توجها خاطئا وصارفا عن مواجهة الحقائق على الأرض.

التاريخ البشري مليء بالمؤامرات، وفي عصرنا الحديث عرفنا بعض هذه المؤامرات من خلال الوثائق السرية التي أفرج عنها تباعا خلال العقود الأخيرة، ومن المنطقي والطبيعي أن ما عرفناه هو النذر القليل مما وقع ويقع بالفعل.

ونحن العرب من كثرة ما ذقناه من مؤامرات بسبب ضعفنا في القرنين الأخيرين على الأقل، قد نمت معه ثقافة المؤامرة في أوساطنا. كيف لا وقد عرفنا مثلا أن أجدادنا قاموا منذ أكثر من قرن بثورة سميت الثورة العربية الكبرى، ثم تبين لنا أن مؤامرة دبرت بليل لتقسيم منطقتنا بالكامل بين بريطانيا وفرنسا وروسيا، وكانت الثورة العربية أحد أوراق تلك المؤامرة التي رسمتها اتفاقية سايكس بيكو.


ولعل أحدث ما عرفناه مؤخرا، ما أعلنته الواشنطن بوست وهيئة الإذاعة الألمانية في فبراير الماضي من بحث مشترك لهما استغرق عامين، وأسمياه (انقلاب القرن الاستخباراتي) وكشفا فيه عن مئات الوثائق السرية، التي وصفت أحداثا مذهلة وقعت خلال الخمسين سنة الأخيرة. وكانا قد توصلا إلى أن الولايات المتحدة (ومعها ألمانيا الغربية لبعض الوقت) ظلت تتنصت على الاتصالات السرية الرسمية لأكثر من ١٠٠ دولة على امتداد خمسين سنة، عن طريق شركة سويسرية (كريبتو) لتشفير الاتصالات الرسمية الدولية، كانت في حقيقتها مملوكة لوكالة الاستخبارات الأمريكية.

كشفت الوثائق عن حقائق مذهلة جعلتنا نعيد النظر في فهمنا لأحداث كبرى مثل محادثات كامب ديفيد بين مصر وإسرائيل، وانقلاب العراق عام ١٩٥٨ الذي أطاح بالنظام الملكي، وعلاقة شقيق الرئيس الأمريكي كارتر بالقذافي، والعديد من التفجيرات “الإرهابية” والاغتيالات السياسية لبعض الرؤساء.


فالمؤامرات على كل حال جزء من الثقافة السياسية للبشر على امتداد التاريخ، والمسألة التي تحتاج إلى بحث ونظر هي حجم وقدر هذه المؤامرات، والطريقة العلمية التي يمكن إثباتها بها حتى لا تتحول من كونها نظرية تفسر “بعض” الأحداث إلى ثقافة تحكم على “كل” الأحداث بأنها محض مؤامرات، وتنقلنا لنعيش في عالم مواز لعالم الحقائق المشاهدة.

معنى نظرية المؤامرة
نظرية المؤامرة تعني وجود تفسير وحقائق أخرى غير المعلنة لأحداث ووقائع كبرى، وتميل غالبا إلا أن أهدافا سياسية تكون خلف تلك المؤامرات. وما من حدث كبير يقع إلا وتدور حوله أحاديث المؤامرات، من أول الكساد الكبير عام ١٩٢٩ إلى فكرة تكوين عصبة الأمم وحقيقة أسباب الحرب العالمية الثانية، ومصرع جون كيندي والهبوط على سطح القمر وأحداث ١١ سبتمبر  وحوادث الاغتيالات السياسية .. إلى وباء كورونا.


وقد قرأت وشاهدت تحقيقات ومقالات تتناول هذا الحدث الكبير بوصفه مؤامرة كبرى، بأهداف مختلفة بحسب صاحب نظرية المؤامرة. فمنهم من رآها مؤامرة قام بها الإرهابيون الاقتصاديون من كبار كبار رجال الأعمال لمزيد من التحكم والسيطرة. ومنهم من رآها مؤامرة صينية للقفز على قيادة العالم، ورآها آخرون بالعكس أنها مؤامرة لضرب الاقتصاد الصيني (مصنع العالم).

وذهب بعضهم لتصورات بعيدة بأنها مؤامرة لمصادرة كل الحريات الفردية، وتضخيم سلطات الدولة القومية بحيث يصبح المواطنون مجرد أرقام تسمع وتطيع وتثق في حاجتها المطلقة لسلطة الدولة حتى لو أمرتهم بلزوم بيوتهم وإلا واجهوا عقوبات صارمة.


لكل نظرية من هؤلاء المنظرين مقدمات وأدلة يستخرجونها أحيانا من مقاطع فيديو أو مقالات أو كتب قديمة للبرهنة على صحة نظرياتهم. وكثير من هذه “الأدلة” حقيقية وموجودة بالفعل، لكنها موجودة ومتوفرة أيضا حتى في النظريات المتناقضة!

في غالب الأحوال لا يمكن نفي أو استبعاد نظرية المؤامرة تماما بنسبة ١٠٠٪، وليس هذا مطلوبا على أي حال ولا ينبغي أن يرهقنا أو أن نتكلفه، لأن المعني بالإثبات هو صاحب النظرية، لكني أدلك هنا على طريقة كاشفة تساعد في “فلترة” هذه النظريات وعلى الأقل استبعاد كثير منها.
ودعونا أولا نتفق على تحديد معنى صحة أي نظرية “علميا”، أي بمعايير علمية واضحة.

ما هي النظرية المقبولة بمعيار العلم؟
سؤال بسيط ولكنه أثار جدلا واسعا في التاريخ الإنساني، وما يهمنا هنا في هذا السياق، أن نحدد مفهوما في مجالات العلوم الإنسانية (ونظريات المؤامرة معظمها تتعلق بالسياسة).
كان النموذج المقبول الذي وصفه أولا فرانسيس بيكون (Francis Bacon) في القرن السادس عشر، بشكل منهجي تصور العلم على أنه استنتاج المبادئ العامة من ملاحظات محددة (Induction Reasoning)
كان يُعتقد أن العلماء يقومون بصياغة النظريات من أجل شرح البيانات التجريبية الموجودة مسبقا، والتحقق من نظرياتهم من خلال تجميع أدلة داعمة إضافية. ولكن الفلاسفة المشككين -مثل دافيد هيوم (David Hume)- تساءلوا عما إذا كانت سلسلة من الملاحظات الواقعية يمكن أن تثبت حقا صحة أي نظرية أو قانون عام. وقد تتبع ملاحظة تلو أخرى وأخرى في إثبات نظرية معينة، ولكن هناك دائما احتمال أن تكشف الملاحظات الإضافية عن استثناءات تفسد هذه النظرية أو تثبت خطأها. وهذا لم يعد مجرد احتمال نظري، فقد تفاجأ العلماء مثلا برؤية الصرح المنيع لفيزياء نيوتن ينهار عندما مكنت التقنيات الحديثة من إجراء أنواع جديدة من الملاحظات. المشكلة تكمن في أن الملاحظات دائما انتقائية، لأنها تحدد سلفا هدفا مختارا وتبحث عن أدلة تؤكده، وتتغاضى عن أي ملاحظات أخرى لا تؤكد النظرية.


وقبل أن نناقش نظريات المؤامرة المعروضة حول وباء كورونا، سنأخذ مثالين مشهورين في التاريخ الحديث:
الأول: النظرية الماركسية، فقد كان العالم في مطلع القرن الماضي مليئا بإثباتات للنظرية. وكان لا يمكن لأي ماركسي أن يفتح أي جريدة دون أن يجد بها أدلة مؤكدة على تفسيره المادي للتاريخ بكل صفحة، ليس فقط في قسم الأخبار بل أيضا بطريقة عرضها – التي توضح الانحياز الطبقي للجريدة – بل وحتى فيما لا تعلنه الجريدة! وكنت أيام الدراسة الجامعية أرى زملاءنا من الشيوعيين (وكانوا المقدمين آنذاك في مصر ثقافيا وفكريا وإعلاميا)، إذا انخفضت الأجور فذلك برأيهم بسبب استغلال الرأسماليين للعمال، كما تنبأ ماركس، وإذا ارتفعت الأجور فذلك لأن الرأسماليين كانوا يحاولون إنقاذ نظام فاسد بالرشوة، وهذا ما تنبأت به أيضا الماركسية!

والثاني: نظرية فرويد للتحليل النفسي، فقد أكد المحللون الفرويديون كثيرا أنه تم التحقق من نظرياتهم بشكل مستمر من قبل “الملاحظات السريرية.” وحتى قبل ظهور معارضة وتشكيك قوي للنظرية، فقد كان الخطأ المنهجي في اعتماد ملاحظات معينة لإثبات صحة النظرية. لقد سمحت الفحوصات السريرية لهم دائما بالعثور على ما يتوقعون – أو يريدون – العثور عليه. ولذلك يمكن للمحلل النفسي الفرويدي أن يفسر مثلا سبب ارتكاب شخص لجريمة قتل، ويمكنه أيضا وبنفس القدر والبراعة أن يفسر لماذا يضحي نفس هذا الشخص بحياته لإنقاذ شخص آخر.

إن الفرق بين العلوم الزائفة والعلم الحقيقي، كالفرق بين منهجية ماركس وفرويد من ناحية، ومنهجية ألبرت أينشتين على الناحية الأخرى. عرَّض أينشتين بشيء من الاستهتار نظريته النسبية العامة للدحض والتخطئة والتحدي، من خلال التنبؤ بنتيجة تجربة جريئة. فإذ لم تكن النتيجة مثل التي تم التنبؤ بها، لفقدت النظرية مصداقيتها. أما أتباع فرويد وماركس وكثير من نظريات المؤامرة، فعلى العكس كانوا يبحثون دائما عن أمثلة تأكيدية، وجعلوا نظرياتهم مرنة للغاية لدرجة أن أي شيء كان يُعتبر تأكيدا. تنبأ ماركس بأحداث معينة -بخصوص مثلا أزمات الرأسمالية التي لا مفر منها ـ ولكن عند فشل الأحداث التي تنبأ بها رد أتباعه من خلال تعديل النظرية لتظل “تفسر” ما حدث.

وباختصار فإن النظرية العلمية هي ما يمكنها الصمود أمام النقد والدحض والتخطئة، وليست تلك التي تجمع وتحشد أدلة صحتها، حتى لو كانت أدلة تجريبية معملية. هذا المعيار المهم ينطبق على العلوم الطبيعية والإنسانية على السواء. ويرجع الفضل في هذا التأسيس لكارل بوبر (Karl Popper) أحد أشهر فلاسفة العلوم في القرن العشرين، الذي اعتبر أي نظرية علمية لا يمكن إثباتها تجريبيا بشكل حاسم، ولكن يمكن تخطئتها ودحضها تجريبيا، وعليه فإن أي نظرية تظل صحيحة علميا فقط طالما يتم تحديها ومحاولة تخطئتها تجريبيا دون جدوى.
ويمكن – من جهة أخرى – إنكار أي نظرية سواء كانت نظرية مؤامرة أو نظرية حكومية معلنة، بتخطئتها ودحضها وتحديها. لذلك كانت هناك مثلا عدة نظريات مؤامرة حول أحداث ١١ سبتمبر، وجمعت بعضها أدلة وجيهة وقوية لإثبات صحتها، وكانت أنجح مقاربة ما قام به بعضهم بتحدي النظرية الرسمية المعلنة، وذلك من خلال تحديها بتنبؤات محددة وقوية، كقولهم:
 نتحدى أن يظهر في المستقبل أي متدرب للطيران يستطيع أن يقود طائرة كبيرة في رحلة دولية ويستطيع أن يناور ويصيب بها هدفا محددا بحجم مبنى برجي التجارة العالمي.
 ونتحدى أن يظهر في المستقبل مخطط تخريبي بهذا الحجم لا يتم فيه معرفة أو اعتقال أي متواطئ معهم.
 ونتحدى أن ينهار أي مبنى خرساني بشكل عمودي تماما كما حدث في البرج السابع (WTC7) الذي قالت التحقيقات الحكومية إنه انهار عموديا بسبب الحرائق التي اندلعت فيه.

وغيرها من النقاط التي تدحض النظرية الرسمية، لكنها لا تقوم بمفردها في إثبات من الفاعل الحقيقي.

هل كورونا مؤامرة؟
في وباء كورونا، يمكن تطبيق نفس المعايير السابقة بالضبط. فقد انتشرت مؤخرا مثلا حملة لإثبات مؤامرة كورونا تحت شعار (#صورـمستشفاك #FilmYourHospital) تبنتها بعض الشخصيات الإعلامية والسياسية اليمينية في الولايات المتحدة بنشر صور ومقاطع فيديو لمواقف السيارات الفارغة في المستشفيات وغرف الانتظار لإثبات أن الوضع ليس سيئًا كما تصور وسائل الإعلام وأن الصور والمقاطع تكذب حالة الهستيريا من كورونا وأن المستشفيات الفارغة ليست بالتأكيد في “حالة حرب” مع الوباء. هذه الصور والفيديوهات انتشرت كالنار في الهشيم على مواقع التواصل.

وهذا مثال نموذجي حيث نرى أدلة واضحة موثقة تثبت “المؤامرة” ولكنها بالتأكيد لا تصمد أمام تحديها بصور وفيديوهات أكثر تثبت حالة التكدس في المستشفيات. الصور والفيديوهات في الحملة صحيحة وموثقة ولكنها لا تثبت وحدها المؤامرة، بل لها تفسيرات أخرى. وقد تتبعت بعض المؤسسات الإعلامية أشهر تلك الصور والمقاطع وقاموا بالتحقيق فيها ووجدوا أن المستشفيات بالفعل بها نسبة فراغ تصل إلى ٣٠٪ أو أكثر نظرا لقيامها بإلغاء مواعيد عمليات كثيرة غير حرجة لإخلاء تلك المستشفيات لزيادة متوقعة في عدد الإصابات بكورونا، كما أن نسب المرضى الذين يذهبون للمستشفيات لأمراض أخرى قد تدنت في كثير من الحالات (كأمراض القلب ونقل الأعضاء) إلى أقل من النصف لخشية المرضى من الذهاب لمستشفيات فيها مصابون بكورونا. ونلاحظ هنا أن الحملة نشأت في الولايات المتحدة التي يتمتع فيها الشأن العام بشفافية كبيرة، وفيها ما يقارب من نصف مليون إنسان مصاب، كلهم موثقون بالأسماء والولايات!
إن غض النظر عن الحقائق الثابتة على أرض الواقع في آلاف الإصابات والوفيات التي تقع يوميا، ومئات المستشفيات التي تصرخ الطواقم الطبية فيها من ضغط العمل ونقص الإمكانيات، وتحذيرات مئات الأطباء في إيطاليا وإسبانيا بأن نظم الرعاية الصحية عندهم على وشك الانهيار، لأمر يعكس “ثقافة المؤامرة” وليس فقط فكرة نظرية المؤامرة.

هل يمكن للوباء أن يكون مدبرا؟
نعم هذا أمر محتمل نظريا على الأقل، وأجهزة الاستخبارات العالمية عندها من الجرأة والقسوة والكفاءة أن تكون وراء هذا الوباء، على الأقل في إطلاقه الأول. وكيف لا نتصور إمكانية هذا والله تعالى وصف مكر الظالمين وكيدهم فقال {وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال}، وهو وصف بليغ في قوة وعنف وتأثير كيدهم ومؤامراتهم حتى لتؤدي إلى زوال الجبال، أثقل شيء وأصلب شيء، وأبعد شيء عن تصور التحرك والزوال.
هذا وارد ولا شك، ولا يمكن استبعاد نظرية المؤامرة قولا واحدا، لكن إثباتها أمر آخر لا يكفي فيه حشد أدلة جزئية هنا وهناك، لأن هذه الأدلة تكون في الغالب انتقائية، ويكون أمامها – على الطرف الآخر – أدلة مضادة أقوى وأكثر. السبيل لإثبات أي نظرية مؤامرة حول وباء كورونا لا يكون إلا بطريقين:
 إما يستطيع أصحاب هذه النظريات أن يضعوا نظرياتهم تحت الاختبار بنصهم على ما يتوقعونه في المستقبل القريب أو البعيد بناء على صحة نظرياتهم.
 أو يقومون بتخطئة وتحدي التفسير المعلن من أول ظهور الفيروس في الصين وتايلاند، إلى تحوله إلى وباء عالمي، إلى حيرة وارتباك دول العالم في احتوائه والسيطرة عليه بعد أربعة أشهر من ظهوره، واضطرارهم لشل اقتصادياتهم ووضع شعوبهم تحت قيود إغلاق مشددة أو صارمة.

بغير هذا ستظل نظريات المؤامرة فكرة محتملة، لكن تبنيها واعتقادها يصبح توجها خاطئا وصارفا عن مواجهة الحقائق على الأرض.

محمد هشام راغب

كاتب وداعية إسلامي