القدر بين الإيمان والتسليم
أما الاحتجاج بالقدر على المعصية فهو عين السفه والغبن وإلا فلماذا أرسل الله الرسل وأنزل الكتب وخلق الجنة للطائعين والنار للعاصين.
بسم الله الرحمن الرحيم
في الحديث الصحيح الذي رواه الطبراني عن ابن مسعود –رضي الله عنه- قال –صلى الله عليه وسلم-: (إذا ذكر القدر فأمسكوا). وقال إبراهيم بن إسحاق الحربي: «من لم يؤمن بالقدر لم يتهن بعيش» .. فالقدر لغز ومعضلة كبيرة حار في فكها حكماء وأذكياء العالم، وما وصلوا بعد الإبحار فيه إلا إلى الحيرة، وبعضهم خرج من الملة، لأن القدر سر من أسرار الله تعالى متعلق بعلمه وحكمته .. يغني هذا وهو بغي جاهل، ويفقر ذاك وهو تقي عالم .. والله لا يحب الفساد .. لكن وراء أقداره سر وحكمة لا يعلمها إلا هو، فتعالى الله الخبير الحكيم.
قال الشاعر:
فلو أن العقول تسوق رزقا ... لكان المال عند ذوي العقول
وقال الشافعي:
تموتُ الأسدُ في الغابات جوعاً ** ولحمُ الضَّأنِ تأكلهُ الكلابُ
وَعَبْدٌ قَدْ يَنامُ عَلَى حَرِيرٍ ** وذو نسبٍ مفارشةُ التُّرابَ
وقال أيضا:
ومن الدّليل على القضاء وكونه ... بؤس اللّبيب وطيب عيش الأحمق
فالملاذ أن تسلم ولا تتهم ربك، قال تعالى: {اللّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} [الأنعام:124] { {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} } [القمر:49] {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا} [الرعد:16] {مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا} [الأحزاب:38]
وقد جاء عن ابن عباس -رضي الله تعالى عنهما- عند البخاري في باب خلق أفعال العباد: «كل شيء بقدر حتى وضعك يدك على خدك».
فلا تسقط ورقة من شجرة إلا بقدر, ولا يتحرك ساكن ولا يسكن متحرك إلا بقدر، حتى العجز والكيس بقدر قدره الله وقضاه، كما قال صلى الله عليه وسلم: «كل شيءٍ بقدر حتى العجز والكيس» [رواه مسلم ] من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما.
فكل شيء بقدر، ولا يمكن أن يكون في الكون شيء لم يرده الله ولم يخلقه إذ الملك ملكه والخلق خلقه, والإيمان بالقدر مفاده أن يؤمن العبد بأن الله سبق في علمه وجود الكائنات وما يعمله العباد من خير وشر, وكتب كل ذلك في اللوح المحفوظ, وأن وجود أي شيء من ذلك إنما يكون بمشيئته, وأنه سبحانه الخالق لكل شيء. قال تعالى: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الصافات:96]
فالقدر قُدرة الله سبحانه وتعالى، وكل شيء يجري بتقديره، ومشيئته تنفذ، لا مشيئة للعباد إلا ما شاء لهم، فما شاء لهم كان، وما لم يشأ لم يكن.
والقدر هو سر الله تعالى في خلقه، لم يطَّلع على ذلك ملك مقرَّب، ولا نبيٌّ مُرسل. فالقضاء والقدر منشؤه عن علم الرب وقدرته، ولهذا قال الإمام أحمد: «القدر قدرة الله» واستحسن ابن عقيل هذا الكلام من الإمام أحمد غاية الاستحسان، وقال: "هذا يدل على دقة أحمد، وتبحره في معرفة أصول الدين"، وهو كما قال أبو الوفا، فإن إنكار القدر إنكار لقدرة الرب على خلق أفعال العباد وكتابتها وتقديرها.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: يشير إلى أن من أنكر القدر فقد أنكر قدرة الله، وأنه يتضمن إثبات قدرة الله على كل شيء.
وربما انكشفت في بعض المواقف من الأسرار ما يجلي حكمة العليم القدير .. روى أن نبي من الأنبياء كان يجلس بالقرب من بئر ماء فجاء فارس فشرب من البئر وانصرف إلا أن صرة من النقود سقطت منه، ثم جاء راع فشرب ووجد الصرة فأخذها وانصرف، ثم جاء عجوز فشرب فإذا بالفارس قد عاد يسأل عن صرة نقوده فأنكر العجوز العلم بها فقتله الفارس، فتعجب النبي وتوجه إلى ربه تعالى متسائلا، فأعلمه الله تعالى أن أبا الراعي كان معه صرة نقود فسلبها منه أبو الفارس، أما العجوز فقتل أبا الفارس فاقتصصت منه.
وفي قصة الخضر مع موسى أيضا العبر والحكم أشهر من أن تذكر .. لذلك قال العلماء «لا ينبغي الحكم بالمآل بواقع الحال».
ولهذا كان المنكرون للقدر فرقتين، فرقة كذبت بالعلم السابق ونفته، وهم غلاتهم الذين كفرهم السلف والأئمة وتبرأ منهم الصحابة، وفرقة جحدت كمال القدرة وأنكرت أن تكون أفعال العبادة مقدورة لله تعالى، وصرحت بأن الله لا يقدر عليها، فأنكر هؤلاء كمال قدرة الرب وأنكرت الأخرى كمال علمه.
أما جبرية هذا العصر فهم يقولون بمبدأ «الإنسانية» ويرفضون تصنيف الناس إلى مؤمن وكافر وطائع وعاص .. لأنها عنصرية من وجهة نظرهم، فالكل عندهم إخوة في الإنسانية.
ومتى وسوس الشيطان للعبد في باب القدر تذكر قوله تعالي: {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء:23] وقوله أيضا: {إِنَّ اللّهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِن لَّدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً} [النساء:40]
والأسلم في عقيدة القضاء والقدر الإيمان به مع الأخذ بالأسباب، وهذا نهج السلف الصالح، فلابد من مدافعة القدر بالقدر، فالجوع يدفع بالأكل والمرض بالدواء وجهنم بترك المحرمات، فاعملوا فكل ميسر لما خلق له، فالسبب والقدر متلازمان لا ينفكان، قال تعالى: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى}[الليل: 5-10]
أما الاحتجاج بالقدر على المعصية فهو عين السفه والغبن وإلا فلماذا أرسل الله الرسل وأنزل الكتب وخلق الجنة للطائعين والنار للعاصين. لذلك قال العلماء: "يصلح الاحتجاج بالقدر عند انتفاء اللوم" لأنه يجعل العبد ينكسر في رحاب ربه ولا يحاجه بقدره عليه .. كأن يتسلط عليك سفيه فتصبر مواسيا نفسك بالقدر، بل وتقول: لعله من ذنبي وتفريطي، فالاحتجاج بالقدر على المصائب وليس على المعائب، بعكس من زنى واحتج بالقدر فهذا خلافه تماما، لأنه في معرض اللوم، وكأنه يقيم الحجة على ربه وحاشاه سبحانه وتعالى.
وآدم عليه السلام، قال الله تعالى فيه: {وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى} [طه:121-122] فعن أبي سعيد الخدري –رضي الله عنه- قال -صلى الله عليه وسلم-: «(لقي آدم موسى، فقال موسى: يا آدم، أنت الذي خلقك الله بيده، وأسكنك جنته، وأسجد لك ملائكته، ونفخ فيك من روحه، وفعلت ما فعلت، فأخرجت ذريتك من الجنة، قال آدم: يا موسى، أنت الذي اصطفاك الله برسالاته، وكلامه، وقربك نجيا، وأتاك التوراة، فبكم تجد الذنب الذي عملت مكتوبا علي قبل أن أعمله؟ قال: بأربعين عاما، قال: فلا تلومني، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: فحج آدم موسى – ثلاثا»» .[رواه البخاري ومسلم بنحوه] فاحتج آدم بالقدر بعد التوبة، أي احتج بالقدر على المصيبة وليس على المعصية. لذلك من شروط التوبة المتقبلة «الندم» لأن النادم منكسر قلبه مع ربه لا محتج عليه بقدره.
د/ خالد سعد النجار
alnaggar66@hotmail.com
خالد سعد النجار
كاتب وباحث مصري متميز
- التصنيف: