الرسالة الثالثة عفافُكِ حياتُكِ، فاستمسكي به وحافظي عليه

منذ 2020-05-04

«إذا صلَّتِ المرأةُ خمسَها، وصامت شهرَها، وحفظتْ فرجَها، وأطاعت زوجَها، قيل لها: ادخُلي الجنة من أيِّ أبوابِ الجنةِ شِئْتِ»

 

بُنيَّتي:

 العفاف للمرأة كالماء للسمكة، فكما أن السمكة إذا خرجت من الماء ماتَتْ، فالمرأة بدون عفاف تموت؛ولذا فإن العفيفة تتمنَّى الموت على ألَّا تُتَّهَم في شَرَفِها، وقد تمنَّتْ مريم أمُّ المسيح عليهما السلام الموتَ خوفًا من ذلك؛ قال عز وجل: ﴿ { وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا * فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا * قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا * قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا * قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا * قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا * فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا * فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا } ﴾ [مريم: 16 - 23].

لقد كانت عليها السلام في خلوتها عندما دخل عليها جبريل عليه السلام في صورة رجُلٍ سَويٍّ، فخافَتْ منه، وحُقَّ لها أن تخاف؛ فهي الفتاة العفيفة الطيبة البريئة، ذات التربية الصالحة، فلجأت إلى ربِّها تستعيذ به، وتستنجد به، وتُذكِّر الرجل بالخوف من الله، ووجوب تقواه، وبعد أن أخبرَها جبريل عليه السلام أنه رسولٌ من الله، لِيَهَبَ لها غُلامًا، وبعد أن حملت به، وجاءها المخاض، تمنَّت الموت؛ لأنها كانت فتاةً عفيفةً، لا يُعرَف عنها إلا الطُّهْر والعِفَّة، ولا يُعرَف عن أهلها وأسرتها إلا ذلك؛ ولهذا قال لها قومُها عندما جاءتهم ومعها ابنها المسيح عيسى عليهما السلام: ﴿  {يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا * يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا } ﴾ [مريم: 27، 28]، قال أهل التفسير:

أي أنت من بيت طيب طاهر، معروف بالصلاح والعبادة والزهادة؛ فكيف صدر هذا منكِ؟! فالذرية في الغالب بعضها من بعض في الصلاح وضدِّه.

وإذا كانت مريم عليها السلام تمنَّت الموت على ألَّا يحصُل لها ما يخدش عفافَها، فقد تعجَّبَتْ أمُّنا أمُّ المؤمنين زوج النبي عليه الصلاة والسلام عائشة بنت الصديق رضي الله عنهما أن يتحدَّث الناس في عِرْضِها، فقالت: "أو لقد تحدَّثَ الناس بهذا؟"، قال أهل العلم: الاستفهام هنا للتعجُّب، كيف يتحدَّث الناس بهذا الشيء، وهي عند نفسها حصينة، وزوجة سيد الرسل عليه الصلاة والسلام؟! هذا شيء مستبعد.

 ومع ذلك وقع، ولله عز وجل حكمة في ذلك، وعندما خرجت عائشة رضي الله عنها مع أُمِّ مِسْطَح، وأخبرتها بقول أهل الإفْك فيها، ازدادت مَرَضًا على مَرَضِها، والمرض الأخير كما ذكر أهل العلم مَرَضٌ قلبيٌّ، وهو ينعكس على الجسم أيضًا.

ثم إنها رضي الله عنها بكَتْ بُكاءً كثيرًا، استمعي لها وهي تروي ما حدث لها بعد أن علمت بما قيل فيها، تقول رضي الله عنها: واستعبرتُ، وبكيتُ تلك الليلة حتى أصبحْتُ لا يرقأ لي دَمْعٌ، ولا أكتحل بنوم حتى أصبحتُ أبكي، فأصبح أبواي عندي، وقد بكيتُ ليلتين ويومًا، لا أكتحل بنومٍ ولا يرقأ لي دمْعٌ، حتى إني لأَظُنُّ أن البكاء فالق كبدي.

لقد بكَتْ رضي الله عنها كثيرًا، حتى كاد البكاء أن يقطع كبدها، وحُقَّ لها أن تبكي، فالعفيفة لا يهون عليها أن تُرْمَى في شرفها أو أن تُخدَش في عفافِها.

 قال حسان بن ثابت رضي الله عنه في حَقِّ عائشة رضي الله عنها بعد أن تاب من قول أهل الإفك:

حَصانٌ رَزانٌ مـا تُزَنُّ بِـرِيبةٍ *** وتُصبحُ غَرْثَى من لُحُوم الغَوافِل

فهو رضي الله عنه يصفها بالمحصنة، العفيفة، الرزينة العاقلة، التي لا تُتَّهَم ولا تُرمَى بريبةٍ رضي الله عن صحابة رسول الله وجازى من تكلَّم فيهم بما يستحقُّ من عقوبة

بُنيَّتي: العفاف من أسباب مغفرة الذنوب ونيل الأجور العظيمة في الآخرة؛ قال الله عز وجل: ﴿  {وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا } ﴾ [الأحزاب: 35]، قال أهل العلم: من فوائد الآية الكريمة: فضيلة حفظ الفرج، وأنه ينبغي اتخاذُ الوسائل التي ينبغي بها حفظ الفرج؛ لأن الثناء على شيء ثناء عليه وعلى وسائله، فكلُّ ما يحصُل به حفظ الفرج فإنه مطلوب، والله سبحانه وتعالى أعدَّ لهؤلاء المتَّصفين بهذه الصفات المغفرةَ من الذنوب والأجر العظيم على الطاعات.

بُنيَّتي: من حرصت على المحافظة على شَرَفِها وعفافِها، حفظها الله في عِرْضِها وشرفها فلم يُدنَّس بقول، ولم يُنتهَك بفاحشة، مهما كاد الكائدون ومكر الماكرون، وإليكِ بعض الأدلة على ذلك لنساء وقع لهن ذلك:

فعن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها في حادثة الإفك قالت: أنا والله أعلمُ حينئذٍ أني بريئة، وأن الله مُبرئي ببراءتي، ولكن والله ما كنتُ أظنُّ أن ينزل في شأني وحْيٌ يُتلَى، ولَشأني كان أحقرَ في نفسي من أن يتكلَّم اللهُ فيَّ بأمر يُتلَى، ولكني كنت أرجو أن يرى رسول الله صلى الله عليه وسلم رؤيا يبرئني الله بها، قالت: فو الله، ما رام رسول الله صلى الله عليه وسلم مجلسه، ولا خرج أحَدٌ من البيت حتى أنزل الله تعالى على نبيِّه فأخذه ما كان يأخُذه من البُرَحاء عند الوحي، قالت: فسُرِّي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يضحك، فكان أول كلمة تكلَّم بها أن قال: ((أبشري يا عائشة، أما الله عز وجل فقد برَّأكِ))، لقد حفظها الله جل جلاله،

وأنزل في براءتها آياتٍ تُتْلى إلى يوم القيامة، قال أهل العلم: إذا تدبَّرَها الإنسانُ عرَف مقام النبي صلى الله عليه وسلم، وكيف أن الله يُدافِع عن الذين آمنوا؟

وقال الله عز وجل عن مريم عليها السلام: ﴿ { فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا * يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا * فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا * قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا}  ﴾ [مريم: 27 - 30] لقد حفظها الله جل جلاله، فجعل براءتها ممَّا نسبت إليه من الفاحشة، بأمرٍ خارق للعادة، وهو كلام عيسى عليه السلام في المهد، فتكلَّم، وكان في ذلك تبرئة لأُمِّه مما نُسِبت إليه من الفاحشة.

وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((دخل إبراهيم عليه السلام قريةً فيها جبَّار من الجبابرة، فقيل له: إن ها هنا رجلًا معه امرأة من أحسن الناس، فأرسل إليه، فسأله عنها، فقال: مَنْ هذه؟ قال: أختي، فأتى سارة، وقال: يا سارة، ليس على وجه الأرض مؤمنٌ غيري وغيرك، وإنَّ هذا سألني عنكِ، فأخبرتُه أنكِ أختي، فلا تُكذِّبي حديثي، فأرسل إليها، فلما دخلت إليه قام إليها، قال: فأقبلت تتوضَّأ وتُصلِّي، وتقول: "اللهم إن كنت تعلم أنِّي آمنتُ بكَ وبرسولِكَ, وأحصنْتُ فَرْجي, إلَّا على زوجي فلا تُسلِّطْ عليَّ هذا الكافر, قال: فغُطَّ حتى ركض الأرض برجله، فقال: ادعي الله ولا أضرُّكِ، فدعَتِ الله فأُطْلِقَ، ثم تناولها ثانية فأُخِذ مثلها أو أشدَّ، فقال: ادعي الله ولا أضرُّكِ، فدعت فأُطْلِق، وفي المرة الثالثة دعا بعض حَجَبتِه، وقال: إنكم لم تأتوني بإنسان؛ إنما أتيتموني بشيطان! ثم أطلقها، وأخدَمها هاجر، فجاءت إلى إبراهيم عليه السلام، فسألها: ما الذي حدث؟ فقالت: ردَّ الله كيد الكافر، وأعطانا جارية.وقول هذا الظالم: "إنكم أتيتموني بشيطان!" الحق أنه هو الشيطان، وأن سارة حفظها الله جل جلاله من فجوره، ومن حفظ الله حفظه.

وعن ابن عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (( «انطلقَ ثلاثة رهط ممَّن كان قبلكم حتى أووا المبيت إلى غار فدخلوه، فانحدرت صخرة من الجبل فسدَّت عليهم الغار، فقالوا: إنه لا يُنجيكم من هذه الصخرة إلَّا أن تدعوا الله بصالح أعمالكم، فقال رجل منهم: اللهم كانت لي بنت عَمٍّ كانت أحبَّ الناس إليَّ، فأردْتُها عن نفسها فامتنعت منِّي حتى ألمت بها سنة من السنين، فجاءتني فأعطيتُها عشرين ومائة دينار على أن تُخلِّي بيني وبين نفسها، ففعلت حتى إذا قدرتُ عليها، قالت: لا أحِلُّ لكَ أن تفُضَّ الخاتمَ إلا بحقِّه، فانصرفْتُ عنها وهي أحبُّ الناس إليَّ، وتركتُ الذهب الذي أعطيتُها» .

وفي رواية: فلما أمكنتني من نفسها بَكَتْ، فقلتُ: ما يُبكيكِ؟ قالت: فعلت هذا من الحاجة، فقلتُ: انطلقي، وفي رواية: فأسلمتْ إليَّ نفسها، فلما كشفتها ارتعدت، فقلتُ: ما لك؟ قالت: أخاف الله ربَّ العالمين، فقلتُ: خفْتِه في الشدَّة، ولم أخفْه في الرَّخاء؛ فتركتها، وفي رواية: فلما جلستُ منها مجلسَ الرجل من المرأة ذكرتُ النار، فقمْتُ عنها.

بُنيَّتي: العفاف من أسباب دخول الجنة؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (( «إذا صلَّتِ المرأةُ خمسَها، وصامت شهرَها، وحفظتْ فرجَها، وأطاعت زوجَها، قيل لها: ادخُلي الجنة من أيِّ أبوابِ الجنةِ شِئْتِ» )).

بُنيَّتي: حافظي على هذا الدعاء لستر العورات؛ فعن ابن عمر رضي الله عنه، قال: لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يدع هؤلاء الدعوات حين يمسي وحين يصبح: (( «اللهم إنِّي أسألك العافية في الدنيا والآخرة، اللهم إني أسألك العفو والعافية في ديني ودنياي وأهلي ومالي، اللهم استر عورتي، وآمن روعتي، اللهم احفظني من بين يدي، ومن خلفي، وعن يميني، وعن شمالي، ومن فوقي، وأعوذ بعظمتك أن أُغتالَ من تحتي» ))