وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ
قال الحسن البصري رحمه الله: المؤمن يعمل بالطاعات وهو مشفق وجل، والفاجر يعمل بالمعاصي وهو آمن.
{بسم الله الرحمن الرحيم }
الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين, نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين...أما بعد:
فالعذاب أنواع، منه ما يكون في الدنيا، ومنه ما يكون عند الموت وخروج الروح، ومنه ما يكون في القبر، ومنه ما يكون في الآخرة، ومنه ما يكون فيها جميعًا، نسأل الله الكريم الرحيم لنا، ولعموم المسلمين السلامة من جميع أنواع العذاب.
والعذاب في الدنيا، قد يكون حسيًّا في البدن، وقد يكون معنويًّا في القلب والنفس، والعذاب الدنيوي له أسباب متعددة؛ منها: استعجال العذاب، فالمكذبون للرسل لجهلهم وظلمهم وعنادهم، يطلبون تعجيل العذاب لهم في الدنيا؛ قال الله عز وجل: ﴿ {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ} ﴾ [العنكبوت: 53]؛ قال العلامة ابن عثيمين رحمه الله: يستعجلون بالعذاب لا أنهم يريدون العذاب، بل يستعجلونه تحديًا.
فقوم نوح، دعاهم نبيهم نوح عليه الصلاة والسلام إلى عبادة الله وحده لا شريك، وخاف عليهم نزول العذاب؛ قال الله عز وجل: ﴿ {لقَد أَرسَلنا نوحًا إِلى قَومِهِ فَقالَ يا قَومِ اعبُدُوا اللَّـهَ ما لَكُم مِن إِلـهٍ غَيرُهُ إِنّي أَخافُ عَلَيكُم عَذابَ يَومٍ عَظيمٍ } ﴾ [الأعراف: 59]، وبعد دعوتهم بالترغيب والترهيب، طلبوا منه أن يأتيهم بما وعدهم به من العذاب؛ قال سبحانه وتعالى عنهم: ﴿ {قالوا يا نوحُ قَد جادَلتَنا فَأَكثَرتَ جِدالَنا فَأتِنا بِما تَعِدُنا إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقينَ} ﴾ [هود: 32]، قالوا ذلك تعنتًا وتكبرًا، فجاءهم العذاب الذي أهلكهم وأغرقهم؛ قال الله سبحانه وتعالى: ﴿ {فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ } ﴾ [العنكبوت: 14]، وقال جل وعلا: ﴿ {فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُّنْهَمِرٍ * وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ} ﴾ [القمر: 11-12]، قال العلامة السعدي رحمه الله: فجُعلت السماء ينزل منها الماء، شيء خارق للعادة، وتفجرت الأرض كلها، حتى التنور الذي لم تجر العادة بوجود الماء فيه، فضلًا عن كونه منبعًا للماء؛ لأنه موضع النار، ﴿ {فَالْتَقَى الْمَاءُ} ﴾؛ أي: ماء السماء والأرض، ﴿ عَلَى أَمْرٍ ﴾ من الله له بذلك، ﴿ { قَدْ قُدِرَ} ﴾؛ أي: كتبه الله في الأزل وقضاه عقوبةً لهؤلاء الظالمين الطاغين.
وقوم عاد أنذَرهم نبيُّهم هود عليه الصلاة السلام، بوقوع العذاب إن لم يستجيبوا له في عبادة الله وحده لا شريك له، فطلبوا منه أن يأتيهم به؛ كما قال الله عز وجل عنهم: ﴿ {واذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقَافِ وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّـهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ * قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا عَنْ آلِهَتِنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ } ﴾ [الأحقاف: 21-22]، فأرسل الله الريح التي دمَّرتهم وأهلكتهم، فأصبحوا صرعى كأنهم أعجاز نخل خاوية، وهم الذين كانوا يقولون: ﴿ { مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً } ﴾[فصلت: 15]، قال العلامة ابن عثيمين رحمه الله: أهلكهم الله بالريح التي هي من ألطفِ الأشياء، فدل هذا على كمال قدرة الله سبحانه وتعالى، وأنه مهما بلغ الناس من القوة، فليست قوتهم بشيءٍ بالنسبة إلى قوة الله.
وقوم ثمود، دعاهم نبيهم صالح عليه الصلاة والسلام إلى عبادة الله وحده لا شريك له، قال عز وجل: ﴿ {وَإِلى ثَمودَ أَخاهُم صالِحًا قالَ يا قَومِ اعبُدُوا اللَّـهَ ما لَكُم مِن إِلـهٍ غَيرُهُ } ﴾ [الأعراف: 73]، وقد أرسل الله لهم آية تدل على صدق نبيهم، كما طلبوا، وهي الناقة التي خرجت من الصخرة، وطلب منهم ألا يتعرضوا لها بسوء، فنحروها، وطلبوا من صالح أن يأتيهم بالعذاب إن كان من رسل الله حقًّا؛ قال الله عز وجل: ﴿ {فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوا عَن أَمرِ رَبِّهِم وَقالوا يا صالِحُ ائتِنا بِما تَعِدُنا إِن كُنتَ مِنَ المُرسَلينَ } ﴾ [الأعراف: 77]، فجاءهم العذاب، قال الله سبحانه وتعالى: ﴿ { فَأَخَذَتهُمُ الرَّجفَةُ فَأَصبَحُوا في دَارِهِمْ جَاثِمِينَ} ﴾ [الأعراف: 78]، قال الحافظ ابن كثير رحمه الله: .. فلما أصبحوا من يوم الأحد وقد تحنَّطوا، وقعدوا ينتظرون نقمة الله وعذابه، عياذًا بالله من ذلك، لا يدرون ماذا يفعل بهم، ولا كيف يأتيهم العذاب، وأشرقت الشمس جاءتهم صيحة من السماء، ورجفة شديدة من أسفل منهم، ففاضت الأرواح وزهقت النفوس في ساعة واحة، ﴿ فَأَصبَحوا في دارِهِم جاثِمين ﴾؛ أي: صرعى لا أرواح فيهم، ولم يفلت منهم أحد، لا صغير ولا كبير، ولا ذكر ولا أنثى.
وقوم لوط، وعَظهم نبيُّهم لوط عليه السلام، وحذَّرهم من فاحشة اللواط، وبدل أن يستجيبوا له، ويتركوا هذه الفاحشة الشنعاء، طلبوا منه أن يأتيهم بالعذاب، قال الله عز وجل: ﴿ {وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُم بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِّنَ الْعَالَمِينَ * أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنكَرَ فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَن قَالُوا ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّـهِ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} ﴾ [العنكبوت: 28-29]، فقلَب الله جلَّت قدرته عليهم ديارَهم، فجعل عاليها سافلها، وأمطر عليهم من السماء حجارة من سجيل متتابعة، حتى أبادتهم وأهلكتهم.
وقوم شعيب، وعَظهم نبيُّهم شعيب عليه السلام، وأمرهم بإتمام الكيل عند بيعهم للناس، وعدم الإفساد في الأرض بالمعاصي، فطلبوا منه أن يسقط عليهم حجارة من السماء، قال الله عز وجل: ﴿ {قَالُوا إِنَّمَا أَنتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ * وَمَا أَنتَ إِلَّا بَشَرٌ مِّثْلُنَا وَإِن نَّظُنُّكَ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ * فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفًا مِّنَ السَّمَاءِ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} ﴾[الشعراء: 185-187]، فلما قال هؤلاء الجهلة ما قالوا، وكذبوا رسولهم، جاءهم العذاب، قال الله عز وجل:﴿ {فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} ﴾ [الشعراء: 189]، قال الحافظ ابن كثير رحمه الله: الله سبحانه وتعالى جعل عقوبتهم أن أصابهم حرٌّ عظيم لمدة سبعة أيام لا يكنهم منه شيء، ثم أقبلت عليهم سحابة أظلتهم، فجعلوا ينطلقون إليها يستظلون بها من الحرِّ، فلما اجتمعوا كلهم تحتها أرسل الله تعالى عليهم منها شررًا من نار ولهبًا ووهجًا عظيمًا، ورجفت بهم الأرض، وجاءتهم صيحة عظيمة أزهقت أرواحهم، ولهذا قال تعالى: ﴿ { إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} ﴾.
وقوم قريش، طلبوا من رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم، إن كان صادقًا أن تمطر السماء عليهم حجارة، قال عز وجل: ﴿ { وَإِذ قالُوا اللَّـهُمَّ إِن كانَ هـذا هُوَ الحَقَّ مِن عِندِكَ فَأَمطِر عَلَينا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائتِنا بِعَذابٍ أَليمٍ} ﴾ [الأنفال: 32]، قالوا ذلك مبالغة في الإنكار، وقد دفع الله عنهم العذاب لوجود الرسول عليه الصلاة والسلام بينهم، قال سبحانه وتعالى: ﴿ { وَما كانَ اللَّـهُ لِيُعَذِّبَهُم وَأَنتَ فيهِم وَما كانَ اللَّـهُ مُعَذِّبَهُم وَهُم يَستَغفِرونَ } ﴾ [الأنفال: 33]، والله عز وجل عندما أخبرنا في القرآن الكريم بعذاب الأمم السابقة، وسبب عقوباتهم، كان الغرض أخذ العبرة والعظة، والبعض من الناس قد يستعجل نزول العذاب به، بلسان حاله، وليس بلسان مقاله، فالمعاصي والذنوب من أسباب العذاب والهلاك الذي يحل بالعباد والبلاد، قال الله سبحانه وتعالى: ﴿ {فَأَهْلَكْنَاهُم بِذُنُوبِهِمْ وَأَنشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ} ﴾ [الأنعام: 6]، قال الحافظ ابن كثير رحمه الله: فاحذروا أيها المخاطبون أن يصيبكم مثل ما أصابهم.
فلنكن على حذر ووجلٍ، ولنتجنب كلَّ ما يستوجب نزول عذاب الله وعقابه، قال الحسن البصري رحمه الله: المؤمن يعمل بالطاعات وهو مشفق وجل، والفاجر يعمل بالمعاصي وهو آمن.
فينبغي عدم الأمن من عذاب الله جل جلاله وعقابه الذي قد يأتي فجأة؛ قال الله عز وجل: ﴿ {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَوْلَا أَجَلٌ مُّسَمًّى لَّجَاءَهُمُ الْعَذَابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُم بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ} ﴾[العنكبوت: 53]، وقال الله سبحانه وتعالى: ﴿ {أَفَأَمِنَ أَهلُ القُرى أَن يَأتِيَهُم بَأسُنا بَياتًا وَهُم نائِمونَ*أَوَأَمِنَ أَهلُ القُرى أَن يَأتِيَهُم بَأسُنا ضُحًى وَهُم يَلعَبونَ * أَفَأَمِنوا مَكرَ اللَّـهِ فَلا يَأمَنُ مَكرَ اللَّـهِ إِلَّا القَومُ الخاسِرونَ} ﴾ [الأعراف 97-99]
نسأل الله الرحيم أن يعفوَ عنا، وأن يرحمَنا، وأن يقيَنا كلَّ عذابٍ وبلاءٍ
كتبه/ فهد بن عبدالعزيز بن عبدالله الشويرخ
- التصنيف: