اثنتا عشرة فضيلة ليوم عرفة، وأحكام الأضحية

منذ 2020-07-29

يا أيها الناسُ اتقوا الله تعالى، وشمِّرُوا لطلب الخيراتِ قبلَ فواتها، واغتنموها في أوقاتها

الحمدُ لله الذي فضَّلَ يومَ عرفةَ على أكثرِ الأيام، وجَعَلَهُ موسماً لعتقِ الرقابِ ومغفرة الذنوبِ والآثام، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَهُ لا شريكَ له ذو العَظَمةِ والجلالِ والكَمالِ والدَّوام، وأشهدُ أن محمداً عبدُه ورسولُه أفضلُ من صلَّى وصام، وأتقى من وَقَفَ بعَرَفةَ وطافَ بالبيتِ الحَرام، اللهمَّ صلِّ وسلِّم على عبدك ورسولك محمدٍ وعلى آله وأصحابه.

 

أما بعد: فيا أيها الناسُ اتقوا الله تعالى، وشمِّرُوا لطلب الخيراتِ قبلَ فواتها، واغتنموها في أوقاتها، فمنها هذه الأيامُ الْمُفضَّلات، قال تعالى: {وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ} [الحج: 28]، قال ابنُ عبَّاسٍ: (أيامُ العَشْرِ) رواه البخاري.

 

وفيهنَّ اليومُ التاسع، المخصوصُ بالفضلِ العظيمِ الواسع، فمن فضائله:

أولاً: أن الله أقسمَ به، قال تعالى: {وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ} [البروج: 3]، قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «إنَّ المشهُودَ يومُ عَرَفَةَ» رواه الطبراني في الكبير، وحسنه الألباني.

 

ثانياً: أنه اليومُ الذي أكمَلَ اللهُ لنا فيه الدِّين، فعنْ طارقِ بنِ شِهَابٍ قالَ: (جاءَ رَجُلٌ منَ اليهُودِ إلى عُمَرَ رضيَ اللهُ عنه، فقالَ: يا أميرَ المؤمنينَ: آيةٌ في كِتابكُم تَقْرَؤونَها، لو علينا نَزَلَتْ مَعْشَرَ اليهُودِ لاتَّخَذنا ذلكَ اليومَ عيداً، قالَ رضي الله عنه: وأَيُّ آيةٍ؟ قالَ: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3]، فقالَ عُمَرُ رضي الله عنه: إني لأَعلَمُ اليومَ الذي نَزَلَتْ فيهِ، والمكانَ الذي نَزَلَتْ فيهِ، نَزَلَتْ على رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ بعَرَفَاتٍ في يومِ جُمُعَةٍ) رواه البخاري ومسلم واللفظ لمسلم.

 

ثالثاً: أنه يومُ عيدٍ، لحديث عمر السابق، ولقول ابن عباس في الآية السابقة: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} قال: (فإنها نَزَلَتْ في يومِ عِيدينِ في يومِ جُمُعَةٍ ويومِ عَرَفَةَ) رواه الترمذي وصحَّحه الألباني.

 

رابعاً: أنه أحد أيام عشر ذي الحِجَّة، وقد قال فيها النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «ما العَمَلُ في أيَّامٍ أَفضَلَ منها في هذهِ» ؟ قالُوا: ولا الجهادُ؟ قالَ: «ولا الجهادُ، إلاَّ رَجُلٌ خَرَجَ يُخاطِرُ بنفسِهِ ومالِهِ، فلَم يَرْجِع بشيءٍ» رواه البخاري.

 

قال القرطبيُّ: (يومُ عَرَفَةَ فضلُهُ عظيمٌ، وثوابُهُ جسيمٌ، يُكفِّرُ اللهُ فيهِ الذُّنوبَ العِظامَ، ويُضاعِفُ فيهِ الصالحُ من الأعمالِ) انتهى.

 

خامساً: أنه يومُ العتقِ من النار: قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «ما مِن يومٍ أَكثرَ من أنْ يُعتِقَ اللهُ فيهِ عبداً من النارِ مِن يومِ عَرَفَةَ، وإنهُ لَيَدْنُو ثُمَّ يُباهي بهِمِ الملائكةَ فيقُولُ: ما أرادَ هؤلاءِ» رواه مسلم، قال ابنُ رجبٍ: (يومُ عرفةَ هو يومُ العتقِ من النارِ، فيُعتقُ اللهُ من النارِ مَن وَقَفَ بعرفةَ ومَن لم يقف بها من أهلِ الأمصارِ من المسلمين، فلذلكَ صارَ اليومُ الذي يليه عيداً لجميع المسلمين في جميع أمصارهم، مَن شَهِدَ الموسمَ منهم ومَن لم يشهده لاشتراكهم في العتقِ والمغفرةِ يومَ عرفة) انتهى.

 

ومن أعظم الأسباب لنيل العتق: أن تُحقِّق كلمة الإخلاص، قال ابنُ رجبٍ: (فتحقيقُ كلمةِ التوحيدِ يُوجبُ عتقَ الرِّقابِ، وعتقُ الرِّقابِ يُوجبُ العتقَ من النارِ) انتهى.

 

سادساً: أن الدُّعاءَ فيه هو خيرُ الدُّعاءِ وأفضلُه وأجوَبُه، قال صلى الله عليه وسلم: (خيرُ الدُّعاءِ دُعاءُ يومِ عرفةَ، وخيرُ ما قُلتُ أنا والنبيُّونَ من قبلي: لا إلهَ إلاَّ اللهُ وحدَهُ لا شريكَ لَهُ، لهُ الملكُ ولهُ الحمدُ وهوَ على كُلِّ شيءٍ قديرٌ) رواه الترمذي وحسنه الألباني.

 

قال القاري: («خَيْرُ الدُّعَاءِ دُعَاءُ يَوْمِ عَرَفَةَ» لأنهُ أَجْزَلُ إثابَةً وأَعْجَلُ إجَابَةً) انتهى.

 

وقال ابن عبد البرِّ: (في الحديثِ.. دليلٌ على أنَّ دُعاءَ يومِ عَرَفَةَ مُجابٌ كُلُّهُ في الأغلَبِ) انتهى.

 

وقالَ أُسامةُ بنُ زيدٍ رضيَ اللهُ عنهما: (كُنتُ رَدِيفَ النبيِّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ بعَرَفَاتٍ فرَفَعَ يدَيْهِ يَدْعُو، فَمَالَتْ بهِ ناقَتُهُ فسَقَطَ خِطامُهَا، فتَنَاوَلَ الخِطَامَ بإحْدَى يدَيْهِ وهُوَ رافِعٌ يَدَهُ الأُخْرَى) رواه النسائي وجوَّد إسناده ابنُ حَجَر.

 

سابعاً: ليسَ من سُنةِ يومِ عرفةَ أن يجتمعَ الناسُ في مساجد بلدانهم بعد العصرِ للدُّعاءِ والذكرِ، فعن أبي حفصٍ الْمَدَنِيِّ قالَ: (اجتَمَعَ الناسُ يومَ عَرَفَةَ في مسجدِ النبيِّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ يَدْعُونَ بعدَ العَصْرِ, فخَرَجَ نافعٌ مولى ابنِ عُمَرَ مِن دارِ آلِ عُمَرَ فقالَ: أيُّها الناسُ، إنَّ الذي أنتُم عليهِ بدعَةٌ وليسَتْ بسُنَّةٍ, إنَّا أَدْرَكْنَا الناسَ ولا يَصْنَعُونَ مِثلَ هذا, ثُمَّ رجَعَ فلمْ يَجلِسْ, ثمَّ خرَجَ الثانيَةَ ففَعَلَ مثلَهَا, ثُمَّ رَجَعَ) رواه ابن وضَّاح في البدع والنهي عنها.

 

ثامناً: رجاءُ مغفرة الله لأهل عَرفاتٍ التبعات وهي مظالمُ العباد، قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «أتاني جَبرائيلُ عليهِ السلامُ آنِفاً فأقرأني من ربِّي السلام، وقالَ: إنَّ اللهَ عزَّ وَجلَّ غَفَرَ لأهلِ عَرَفَاتٍ وأهل المشعر، وضمن عنهُم التَّبعَات»، فقامَ عمرُ بن الخطاب رضي الله عنه فقالَ: يا رسول الله هذا لنا خاصَّة؟ قال صلى الله عليه وسلم: «هذا لكم ولمن أتى من بعدكم إلى يوم القيامة»، فقالَ عمرُ بن الخطاب رضي الله عنه: كَثُرَ خيرُ اللهِ وطاب) رواه ابن عبد البر، وقال الألباني: (صحيح لغيره).

 

قال ابن المبارك: (جئتُ إلى سفيان الثوري عشيةَ عرفةَ وهو جاثٍ على ركبتيهِ وعيناهُ تَهْمِلان، فقلتُ له: مَن أسوأُ هذا الجمع حالاً؟ قال: الذي يَظنُّ أن اللهَ لا يغفرُ لهم) انتهى.

 

تاسعاً: يومُ عَرَفةَ هو أغيظُ يومٍ يَمُرُّ على الشيطان، رُويَ عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ما رُئِيَ الشيطانُ يوماً هُوَ فيهِ أصغَرُ ولا أَدْحَرُ ولا أَحْقَرُ ولا أَغْيَظُ منهُ في يومِ عَرَفَةَ، وما ذاكَ إلاَّ لِما رَأَى مِن تَنَزُّلِ الرَّحمةِ، وتجاوُزِ اللهِ عنِ الذُّنوبِ العِظامِ، إلاَّ ما أُرِيَ يومَ بدرٍ»، قيلَ: وما رأَى يومَ بدرٍ يا رسولَ اللهِ؟ قالَ: «أمَا إنَّهُ قد رأَى جبرِيلَ يَزَعُ الملائكةَ)» رواه مالكٌ مرسلاً وحَسَّنه البيهقي، قال ابنُ عبد البرِّ: (هذا حديثٌ حَسَنٌ في فضلِ شُهُودِ ذلكَ الموقِفِ المُباركِ.. وفيهِ دليلٌ على أنَّ كُلَّ مَن شَهِدَ تلكَ المشاهِدَ يَغفِرُ اللهُ لهُ إن شاءَ اللهُ.. وفيهِ الخَبَرُ عن حَسَدِ إبليسَ وعداوتِهِ لعنَهُ اللهُ) انتهى.

 

عاشراً: أنَّ إدراكَ الحجِّ بالوقوفِ بعرفة: قال صلى الله عليه وسلم: «الْحَجُّ عَرفَةُ» رواه الترمذي وجوَّد إسناده ابن عيينة، وقال وكيعٌ: (هذا الحديثُ أُمُّ المناسِكِ) انتهى.

 

الحادي عشر: أن صومَهُ أفضلُ يومٍ يُصامُ تطوُّعاً، قال صلى الله عليه وسلم: «صيامُ يومِ عَرَفَةَ أحتَسِبُ على اللهِ أن يُكَفِّرَ السنةَ التي قَبْلَهُ، والسنةَ التي بَعْدَهُ» (رواه مسلم).

 

و(سُئِلَ صلى الله عليه وسلم عن صَومِ يومِ عَرَفَةَ؟ فقالَ: «يُكَفِّرُ السَّنةَ الماضِيَةَ والباقيَةَ» (رواه مسلم).

 

الثاني عشر: مُباهاةُ الله بأهلِ عَرَفاتٍ، قال صلى الله عليه وسلم: «إنَّ اللهَ يُباهي بأهلِ عَرَفَاتٍ أهلَ السماءِ، فيقُولُ لَهُمْ: انظُرُوا إلى عِبادِي جَاءُوني شُعْثاً غُبْراً» رواه البيهقي وصحَّحه النووي.

 

قال شيخُ الإسلامُ ابنُ تيمية: (فإنهُ من المعلُومِ أنَّ الْحَجِيجَ عَشِيَّةَ عَرَفَةَ يَنزِلُ على قُلُوبهِم من الإيمانِ والرَّحْمَةِ والنُّورِ والبرَكَةِ ما لا يُمكِنُ التعبيرُ عنهُ) انتهى.

 

قال ابن القيم رحمه الله في ميميَّتهِ:

وراحُوا إلى التعريفِ يَرجُونَ رَحمةً 

ومغفرةً مِمَّن يَجودُ ويُكرمُ 

فللهِ ذاكَ الموقفُ الأعظمُ الذي 

كموقفِ يومِ العَرضِ بل ذاكَ أعظمُ 

ويدنو به الْجبَّارُ جلَّ جلالُه 

يُباهي بهم أملاكَهُ فهو أكرَمُ 

يقولُ عبادي قد أتوني مَحبةً 

وإني بهم برٌّ أجودُ وأُكرمُ 

فأشهدُكُم أني غفرتُ ذنوبَهُم 

وأعطيتُهم ما أمَّلُوه وأُنعمُ 

فبُشراكُمُ يا أهلَ ذا الموقفِ الذي 

به يَغفرُ اللهُ الذنوبَ ويَرحَمُ 

فكم من عتيقٍ فيه كُمِّلَ عِتقُه 

وآخرَ يُستسعى وربُّكَ أرحمُ 

وراحُوا إلى جمعٍ فباتُوا بمَشعرِ الحرامِ 

وصَلُّوْا الفجرَ ثمَّ تقدَّمُوا 

إلى الجمرةِ الكُبرى يُريدون رميها 

لوقتِ صلاةِ العيدِ ثمَّ تيمَّمُوا 

منازلَهُم للنحرِ يبغُون فضلَه 

وإحياءَ نُسْكٍ من أبيهم يُعظَّمُ 

ولَما تَقَضَّوا ذلك التَّفَثَ الذي 

عليهم وأوفَوا نذرَهم ثمَّ تَممَّوا 

دَعاهُمْ إلى البيتِ العتيقِ زيارةً 

فيا مرحباً بالزائرين وأكرَمُ 

وعادُوا إلى تلك المنازلِ من مِنَى 

ونالُوا مُناهُم عندها وتنعَّمُوا 

أقامُوا بها يوماً ويوماً وثالثاً 

وأُذِّنَ فيهم بالرَّحيلِ وأُعلِمُوا 

وراحُوا إلى رمي الجِمارِ عشيةً 

شعارُهُمُ التكبيرُ واللهُ مَعْهُمُ 

ولَما تَقَضَّوا من منىً كلَّ حاجةٍ 

وسالت بهم تِلكَ البطاحُ تَقَدَّمُوا 

إلى الكعبةِ البيتِ الْحَرامِ عشيةً 

وطافُوا بها سَبْعَاً وصَلَّوا وسَلَّمُوا 

ولَما دَنَا التوديعُ منهم وأيقَنُوا 

بأنَّ التداني حَبلَهُ مُتصرِّمُ 

ولم يبقَ إلا وَقفةً لِمودِّعٍ 

فللهِ أجفانٌ هُناك تُسجَّمُ 

فلم ترَ إلا باهتاً مُتحيِّراً 

وآخَرُ يُبدي شجوَهُ يَترنَّمُ 

 

أسألُ اللهَ تعالى لي ولكم ووالدينا وأهلينا حُسنَ الخاتمةِ المقرُونةِ بقَبُولِ التوبَةِ، وحُسْنَ العَمَلِ الْمُوجِبِ للمَثُوبَةِ من غيرِ سَبْقِ العُقُوبةِ، آمين.

 

الخطبة الثانية

إِنَّ الحمدَ للهِ، نَحمَدُه ونستعينُه، مَن يَهدِه اللهُ فلا مُضِلَّ له، ومَن يُضلل فلا هاديَ له، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، وأنَّ مُحمَّداً عبدُه ورسولُه.

 

أمَّا بعدُ: فيا عباد الله: لئن شطَّت بكم عوائقُ عن مقامِ أهلِ عَرَفَةَ، فقد شاركتموهم في الإسلام والإيمان، وشُرِعَ لكم اجتماعٌ بصلاة العيدِ يُقاربُ اجتماعَهُم، ولئن اجتمعَ الْحُجَّاجُ بمنىً يومَ العيدِ يستكملون مناسكَ الحجِّ، ويتقرَّبون إلى الله بالعجِّ والثجِّ، فقد شَرَعَ اللهُ لكم الخروج إلى صلاة العيد والتقرُّب إليه بذبح الأضاحي، فأحيُوا سُنةَ أبيكم إبراهيمَ بإهراقِ الدِّماءِ في ذلك اليوم العظيم، فإنَّ الله ابتلاهُ بأن أَمَرَهُ بذبح وَلَدِه وفلْذَةِ كَبِدِه الذي أتاه على كِبَر، وهُوَ بِكْرُهُ ووَحِيدُهُ الذي ليسَ لهُ غيرُهُ، ليُسلِمَ قلبَهُ للهِ ولا يكونُ فيه شِرْكةٌ لسواه، فإنَّ العبادَ لذلكَ خُلِقُوا، وبه أُمروا، فامتثلَ أمرَ ربِّه طائعاً، وخَرَجَ بابنه مُسارعاً، ثُمَّ عَرَضَ ذلكَ على وَلَدِهِ ليكُونَ أَطْيَبَ لقلبهِ وأَهْوَنَ عليهِ مِن أنْ يَأْخُذَهُ قَسْراً وَيَذْبَحَهُ قَهْراً، {قَالَ يَابُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى} [الصافات: 102]، فَبَادَرَ الغُلامُ الحليمُ يَبَرُّ والدَهُ الخليلَ إبراهيمَ، لا مُتوقِّفاً ولا مُتفكِّراً، {يَاأَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ} [الصافات: 102]، فاستسلما جميعاً للقضاءِ المحتوم، وسلَّما أمرَهُما للحيِّ القيوم، {وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ} [الصافات: 103]، قال ابنُ كثير: (والمعنَى تَلَّهُ للجبينِ أيْ ألقَاهُ على وَجْهِهِ، قيلَ: أرَادَ أنْ يَذبَحَهُ مِن قَفَاهُ لئلاَّ يُشاهدَهُ في حالِ ذبحِهِ، قالهُ ابنُ عبَّاسٍ ومجاهدٌ وسعيدُ بنُ جُبيرٍ وقتادةُ والضَّحَّاكُ، وقيلَ: بلْ أَضْجَعَهُ كمَا تُضجَعُ الذَّبائِحُ، وبَقِيَ طَرَفُ جبينِهِ لاصِقاً بالأرضِ، وأَسْلَمَا، أَيْ سَمَّى إبراهيمُ وكَبَّرَ، وتَشَهَّدَ وسَلَّمَ الوَلَدَ للْمَوْتِ) انتهى، عند ذلكَ أدركَتُه رحمةُ أرحمِ الراحمينَ، ونُوديَ: {أَنْ يَاإِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ} [الصافات: 104 - 106]، وأُتيَ بكبشٍ من الجنةِ فذبَحَهُ فِداءَ وَلَدِه، فأحيا نبيُّكُم محمدٌ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ هذه السُّنةَ وعظَّمها، فأهدى في حِجَّته مائةَ بدنةٍ، و(ضحَّى النبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ بكبشَيْنِ أمْلَحَيْنِ أقْرَنَيْنِ، ذبَحَهُمَا بيدِهِ، وسَمَّى وكَبَّرَ) متفقٌ عليه.

 

فبادروا رحمني الله وإياكم إلى إحياء سُننِ الْمُصْطَفَيْنَ الأخيار، ولا تكونوا ممن بخل وآثرَ كنْز الدَّراهمِ على طاعةِ الْملِكِ الغفَّارِ، فأكثرُ العلماءِ على أنها سُنةٌ مؤكَّدةٌ، وبعضهم يَرى الوُجوبَ على القادرِ، وأفضلُها: أكرَمُها وأسمَنُها وأغلاها، وتُجزي الشاةُ عن الرَّجُلِ وأهلِ بيتهِ، والبَدَنةُ عن سَبْعِ شِياهٍ، والْمُجْزي من الضأنِ ما تَمَّ له ستةُ أشهرٍ، ومن الإبلِ ما تَمَّ له خمسُ سنين، ومن البقرِ ما تَمَّ له سَنَتان، ومن الْمَعْزِ ما تَمَّ له سنةٌ، ولا تُجزئُ العَوْرَاءُ البيِّنُ عَوَرُها، ولا العَرْجاءُ البيِّن ظَلْعُها، ولا الْمَرِيضةُ البيِّنُ مَرَضُها، ولا الهزيلةُ التي لا تُنقي، قال صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: «لا يُضَحَّى بالعَرْجَاءِ بَيِّنٌ ظَلَعُهَا، ولا بالعَوْرَاءِ بَيِّنٌ عَوَرُها، ولا بالمريضةِ بَيِّنٌ مَرَضُها، ولا بالعَجْفَاءِ التي لا تُنْقِي» رواه الترمذي وصحَّحه، وقال: (والعَمَلُ على هذا الحديثِ عندَ أهلِ العِلْمِ) انتهى.

 

ويُكره العضباءُ التي قُطعَ أكثرُ أُذُنِها أو قرنها.

ويُستحبُّ أن تأكل منها وتتصدَّق، لعموم قولِ الله تبارك وتقدَّس: {فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ}، ولقوله صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: {فَكُلُوا وادَّخِرُوا وتصَدَّقُوا} رواه البخاري ومسلم واللفظ لمسلم، ووقتُ الذبح من انقضاءِ صلاةِ العيدِ إلى آخرِ اليوم الثالثِ من أيام التشريق.

 

اللهُمَّ أدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين، ولا تجعلنا عن بابك مطرودين، ولا من فضلك محرومين، ولا تجعل مصيبتنا في الدِّين، أنتَ وليُّنا فاغفر لنا ولوالدينا وأهلينا وارحمنا وأنت خيرُ الغافرين، اللهُمَّ آمين.
____________________________________________________
الشيخ عبدالرحمن بن سعد الشثري