رحل عنا المحدِّث البارع والعالم الصادق

منذ 2020-08-14

وما تأثرث لموت أحد في هذه الجائحة كما تأثرت لفراق الشيخ ساعد  غازي رحمه الله.

أبو نجيد إسماعيل سيدعلي

اللهم اغفر لعبدك الشيخ ساعد غازي وارحمه واجعله من أهل الجنة مع النبيين والصديقين والصالحين والشهداء وحسن أولئك رفيقا..

لقد نزل هذا الخبر على قلبي كالصاعقة والله!
وما تأثرث لموت أحد في هذه الجائحة كما تأثرت لفراق الشيخ ساعد  غازي رحمه الله.

لقد عرفت الشيخ أبا عمر رحمه الله في رحلتي إلى الرياض قبل عشرين سنة في أواخر سنة 1998 ، لأعمل في بعض مكاتب التحقيق والبحث العلمي.
فدخلتها وأنا غريب الدار ليس له أهل ولا أصحاب، قد تجرّعت مرارة الاغتراب حتى أزعمت على الإياب إلى الديار ؛ لولا أن الله الحكيم لطف بي فجمعني بالشيخ ساعد رحمه الله الذي كان أول من استقبلني في المكتب ورحّب بي أحسن ترحيب وغمرني بشريف أخلاقه وجميل أوصافه ...

كان رحمه الله أول من فتح لي قلبه في رحلتي إلى الرياض وكان لي بمنزلة الأخ الكبير .
الأمر الذي أنساني غربتي وأزال وحشتي وآنسى وحدتي ...
قد قضيت مع الشيخ رحمه الله ست سنوات تقريبا نمكث مع بعض في مكتب واحد في البحث والعلم والمذاكرة والنقاش ... أكثر من عشر ساعات .

لي معه ذكريات جميلة لا أنساها ما حييت... حكى لي أسراره وما حصل له في حياته الدعوية والعلمية من المحن وغيرها لا زالت إلى الآن محفورة في ذاكرتي .

أذكر منها - وأنا أعدّها كرامة من الله وتأييدا منه لهذا العبد الصالح - أنه ذكر لي أنه أُخذ من طرف أمن الدولة - زمن الاعتقالات -ولما أدخلوه غرفة التحقيق ضربوه وعذّبوه ! ثم اجتمع منهم أربعة أو خمسة وكانوا ضخاما شدادا، فأردوا نزع ثيابه .... بالقوّة والقهر !!
يقول لي : فقاومتهم وتعاركت معهم، وكانوا كلما أسقطوني أرضا نهضت مرة أخرى بسرعة !
يقول: فأحسست أن الله أعطاني في تلك الساعة قوّةً وثباتا ما جعل أولئك يعرضون عن الأمر في حيرة ودهشة وخزي !!!

وما هذه إلا كرامة لهذا الرجل الصالح رحمه الله تعالى.

ولي معه من المباحث العلمية والمراجعات الحديثية الشيء الكثير تمتد إلى خارج المكتب، ومما ساعد على هذه العلاقة وزاد في توثّقها أننا وجدنا أنفسنا نلتقي إلى حد بعيد في التصور والرؤية في القضايا  المعروفة..

كانت له فطنة عجيبة في علم الحديث ورجاله ودقائقه يفوق بها الكثير ممن له شهرة واسعة في هذا العصر..

وله تعقبات عديدة كثيرة على المشتغلين بالحديث في هذا العصر من الإمامين أحمد شاكر والألباني رحمهما الله وأنت نازل ...

وله أيضا تعليقات بديعة وتنبيهات في غاية النفاسة بخط يده على هوامش الكتب ...
وأنا أجزم لو أنها جُمعت كلُّها في مصنَّف لجاءت في عدّة مجلّدات ولقيت مكانتها عند أهل الحديث.

وله بحوث في صناعة الحديث بخط يده سلمني إياها قبل مغادرتي الرياض وهي محفوظة عندي إلى الآن في مكتبتي.

كان رقيق القلب، سريع التأثّر، صلبا في دينه، حريصا على السّنّة، محبا لإخوانه متواضعا، مؤثرا للخمول ويكره الظهور ..

كانت له حدّة ظاهرة في النّقاش وذلك إذا طال، لكن سرعان ما يعتذر ويتودد ...

نبّه رحمه الله جماعةً كبيرة من المصنفين في الحديث على أشياء دقيقة وأخطاء وقعت لهم في التخريج والحكم على الأحاديث.. فصححوها وتركوا الخطأ وأثبوا الصواب الذي دلّهم عليه ...
لكن قليل جدا من أشاد به ونوّه بتنبيهه، وأشار إلى صاحب الفضل في ذلك !!
ولا زلت أحفظ نماذج منها ولولا الحرج لذكرتها وأشرت إلى مواضعها في كتب بعض المشايخ المطبوعة!

كان رحمه الله إذا وقع على فائدة نفيسة عزاها لصاحبها ولو كان من المغمورين ، وما عرفت عنه خلال تلك المدة التبجّح ولا الكلام عن علمه ونفسه ولا التعالي على غيره ولو كان دونه..

كان عنده صبر وجلد منقطع النّظير على البحث وتتبّع المسألة من أصلها، ولا يتركها حتى يقتلها بحثا، وهذا في وقت لم تكن هناك المكتبة الشاملة ولا غيرها، إنما كان تعامله مع بطون الكتب مباشرة..

رحمك الله أبا عمر وغفر لك وجعل الجنة دارك والنبيين والصديقين جيرانك..
رحمك الله أيها المحدث البارع والعالم الصادق ...

كتبت هذا على عجل وهو نزر يسير جدا في حقّ الشيخ الحبيب الغالي تغمده الله برحمته وأسكنه فسيح جنته..
آمين.

أبو نجيد إسماعيل سيد علي
الجمعة 3 ذو الحجة 1441
24 جولية 2020