أحب الأوقات إلى الله تعالى في صيام التطوع

منذ 2020-08-24

أحب الأوقات إلى الله تعالى في صيام التطوع، مع خلاصة الأحكام العقدية والفقهية لشهر الله المحرم

أحبُّ الأوقاتِ إلى اللهِ في صيامِ التطوُّع،

وخُلاصة الأحكام العقدية والفقهية لشهر الله المحرَّم

 

الحمدُ للهِ حمدًا كثيرًا طيِّبًا مُباركًا فيهِ، كما يُحِبُّ ربُّنا أنْ يُحْمَدَ ويَنْبَغِي لَهُ ويَرْضَى، والحمدُ للهِ بمحامده التي حَمِدَ بها نفْسَهُ، وحَمِدَهُ بها الذينَ اصْطَفَى، حَمْدًَا طيِّبًا مُبَاركًا فيهِ كَمَا يُحبُّ ربُّنا ويَرْضى، وصلَّى اللهُ على سيِّدنا محمدٍ النبيِّ الأُمِّيِّ وآلهِ وصَحبهِ وسَلَّمَ.

أما بعد: أيها الناسُ اتقوا الله تعالى، واحْمَدُوهُ على أنْ بلَّغَكُمْ شَهْرَهُ الْمُحرَّم، الذي عظَّمَهُ وجَعَلَهُ من الأشهُرِ الأربعةِ الْحُرُمِ، فقال تعالى: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ} [التوبة: 36]. 

وقال صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ:  «السنةُ اثنا عَشَرَ شَهْرًَا، منها أربَعَةٌ حُرُمٌ: ثلاثةٌ مُتوالياتٌ: ذُو القَعْدَةِ، وذُو الْحِجَّةِ، والْمُحرَّمُ، ورَجَبُ مُضَرَ الذي بينَ جُمَادَى وشَعْبانَ»  متفقٌ عليه، وعَظَّمَهُ النبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ بأنْ نَسَبَهُ إلى ربِّهِ عَزَّ وجلَّ، فقال: «أفضَلُ الصيامِ بعدَ رمَضَانَ: شَهْرُ اللهِ الْمُحَرَّمُ» (رواه مسلم).

 

فعظِّموا أيها المسلمونَ ما عظَّمَهُ اللهُ ورَسُولُه صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ، واحذروا الظُّلْمَ بأنواعهِ، وخاصةً في الأشهرِ الْحُرُم، فاللهُ يقولُ: {فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ} [التوبة: 36]، قال الواحِدِيُّ: "قال ابنُ عبَّاسٍ: يُريدُ: تحفَّظُوا على أنفُسِكُم فيها واجتنبُوا الخطايا، فإنَّ الحسناتِ فيها تُضاعَفُ والسيِّئاتُ فيها تُضاعف" انتهى، وقال قَتَادَةُ رحمَهُ اللهُ: "إنَّ الظُّلْمَ في الأشهُرِ الْحُرُمِ أعظَمُ خطيئةً ووِزْرًا من الظُّلْمِ فيما سِواها، وإنْ كانَ الظُّلْمُ على كُلِّ حالٍ عظيمًا، ولكنَّ اللهَ يُعظِّمُ منْ أَمرِهِ ما شاءَ" رواه ابن جرير، وقال الشيخُ ابنُ عثيمينَ: "لا شكَّ أن الذنوبَ في الأشهرِ الْحُرُمِ أعظَمُ" انتهى.

 

وفي العاشرِ من المحرَّم نَجَّى اللهُ موسى صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ وقومَه، وأغرق فرعونَ وقومَه، فصامَهُ مُوسى والأنبياءُ مِن بعده، وأوجَبَ صيامَهُ نبيُّكم صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ في ابتداءِ الإسلام، فاجتهدوا رحكم الله بحفظ صَوْمِه وصُومُوا مَعَهُ التاسعَ، فقد قال صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: "لَئِنْ بَقِيتُ إلى قابلٍ لأَصُومَنَّ التاسِعَ" رواه مسلم، مُخالفةً لليهودِ، فلم يَبْقَ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ إلى العامِ القابلِ حتى انتقَلَ إلى الرَّفيقِ الأعلى.

أيها المسلمون: من الأحكام المتعلِّقة بهذا الشهر:

أولًا: لم يَرِدْ في فضلهِ حديثٌ صحيحٌ غيرَ أنه مِن الأشهرِ الْحُرُمِ، وأنه أفضَلُ الصيامِ بعدَ رمَضَانَ، وفضل صوم العاشر منه، قال النوويُّ: "قولُهُ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: «أفْضَلُ الصِّيامِ بعْدَ رمَضَانَ شَهْرُ اللهِ الْمُحَرَّمُ» تَصْرِيحٌ بأنهُ أفْضَلُ الشُّهُورِ للصَّوْمِ" انتهى، قال ابنُ رجب: "يحتمل أن يراد: أنه ‌أفضل ‌شهر ‌تطوع ‌بصيامه كاملا بعد رمضان"، وقال الشيخ ابن باز: "فإذا صامه كُلَّه فهو طَيِّبٌ" انتهى.

 

وأمَّا قولُه صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: «أَحَبُّ ‌الصِّيَامِ ‌إلى ‌اللهِ صِيَامُ دَاوُدَ، كانَ يَصُومُ يَوْمًا ويُفْطِرُ يَوْمًا» رواه البخاريُّ، فقد قال الطَّحَاويُّ: "إنَّ أَحَبَّ الصوْمِ إلى اللهِ عزَّ وجلَّ صَوْمُ يوْمٍ وإفطَارُ يوْمٍ لِدَوَامِ الذي مَعَهُ، وأنَّ أَحَبَّ الأوقاتِ إلى اللهِ عزَّ وجلَّ الذي يُتَطَوَّعُ بالصومِ لهُ فيها هُوَ الْمُحَرَّمُ" انتهى.

 

وقال ابن القيِّم: "قالَ شَيْخُنا: ويُحْتَمَلُ أنْ يُرِيدَ بشَهْرِ اللهِ الْمُحَرَّمِ أَوَّلَ العَامِ، وأَنْ يُرِيدَ بهِ الأشْهُرَ الْحُرُمَ، واللهُ أعْلَمُ" انتهى.

 

ثانيًا: يُستحبُّ صيامُ اليومِ العاشرِ منهُ، لقولِهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: «صيامُ يومِ عاشُورَاءَ أحتَسِبُ على اللهِ أنْ يُكَفِّرَ السنةَ التي قبلَهُ» (رواه مسلم)، ويُسْتَحَبُّ صَوْمُ التاسِعِ مَعَهُ، لقوله صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: «لَئِنْ بَقِيتُ إلى قابلٍ لأَصُومَنَّ التاسِعَ» (رواه مسلم)، قالَ ابنُ عباس: "فلَمْ يَأْتِ العامُ الْمُقبلُ حتَّى تُوُفِّيَ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ" رواه مسلم، قال النوويُّ: "قالَ الشافعِيُّ وأصْحَابُهُ وأَحْمَدُ وإسحَاقُ وآخَرُونَ: يُسْتَحَبُّ صَوْمُ التاسِعِ والْعَاشِرِ جَمِيعًا، لأَنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ صَامَ العاشِرَ ونَوَى صِيَامَ التَّاسِعِ" انتهى.

 

الخطبة الثانية

‌الحمدُ ‌للهِ ‌وكَفَى، وصَلَوَاتُ اللهِ وسلامُهُ على عَبْدِهِ المصْطَفَى، نَبيِّنا محمدٍ وعلى آلهِ وصحبهِ أَهْلِ الْوَفَى، وسَلَّمَ تسليمًا كثيرًا.

 

أما بعد: ومَعَ هذهِ الفضائل لشهرِ اللهِ الْمُحرَّمِ فليُعْلَمْ أنه ليسَ لأَوَّلِ يومٍ وأولِ جُمُعَةٍ منهُ نصٌّ شرعيٌ يُثبتُ تَخصيصهما بالذكرِ والدُّعاءِ والعُمْرةِ والزِّيارةِ والصَّدَقةِ والصِّيامِ.

 

قال أبو شامة رحمه الله: "ولم يَأْتِ شيءٌ في أولِ ليلَةِ المحرَّمِ، وقد فتَّشتُ فيما نُقلَ من الآثارِ صحيحًا وضعيفًا وفي الأحاديثِ الموضُوعَةِ فلم أَرَ أحدًا ذكَرَ فيها شيئًا، وإني لأتخوَّفُ والعِياذُ بالله مِنْ مُفْتَرٍ يَختلقُ فيها" انتهى.

 

ومن الْمُحْدَثات: الاحتفالُ برأس السَّنَةِ الهجريةِ، وأولُ مَن أحدَثَهُ العُبيديون.

 

ومن الْمُحْدَثات: الاحتفال بذكرى الهجرة، مَعَ أنَّ هجرتَهُ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ كانت في شهرِ ربيعٍ الأول، وأمَّا الأولُ مِن شهر الله المحرَّم فهو كما قال ابنُ كثير: "أَوَّلُ التاريخِ الإسلامِيِّ، كَما اتفَقَ عليهِ الصَّحابةُ في الدَّوْلَةِ العُمَرِيَّةِ" انتهى، وإنما ‌أَخَّرُوهُ ‌مِنْ ‌ربيعٍ الأوَّلِ إلى الْمُحَرَّمِ كَمَا قالَ ابنُ حَجَرٍ: "لأَنَّ ابتِدَاءَ العَزْمِ على الهجرَةِ كانَ في الْمُحَرَّمِ، إذِ البَيْعَةُ وَقَعَتْ في أثْناءِ ذِي الحِجَّةِ، وهِيَ مُقَدِّمَةُ الْهِجْرَةِ، فكانَ أَوَّلُ هِلالٍ اسْتَهَلَّ بعْدَ البَيْعَةِ والعَزْمِ على الهجْرَةِ هِلالُ المحرَّمِ، فَناسَبَ أنْ يُجْعَلَ مُبْتَدًَا، وهذا أَقْوَى ما وَقَفْتُ عليهِ مِنْ مُناسَبَةِ الابتداءِ بالْمُحَرَّمِ" انتهى.

 

والأصلُ في منع الْمُحدَثاتِ في الدِّينِ قولُ اللهِ تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3]، وقولُ النبيِّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم: "مَن عَمِلَ عَمَلًا ليسَ عليهِ أمْرُنا فهُوَ رَدٌّ" متفق عليه.
________________________________________
الشيخ: عبدالرحمن بن سعد الشثري