تهافت الصهاينة

منذ 2020-09-01

عندما نتأمل في تاريخ الدول والشعوب فلن نجد أرضاً نجت من تكرار تغير هويتها عبر إحتلالها أو استيطانها من قبل مجموعات عرقية أو دينية أو سياسية في حقب متعددة من تاريخها...

عندما نتأمل في تاريخ الدول والشعوب فلن نجد أرضاً نجت من تكرار تغير هويتها عبر إحتلالها أو استيطانها من قبل مجموعات عرقية أو دينية أو سياسية في حقب متعددة من تاريخها. في بعض تلك الأحيان كانت هذه المجموعات تبيد السكان المحليين أو تهجرهم، وفي أحيان أكثر كانت تسود عليهم، بحيث يتحولون إلى مواطنين درجة ثانية في أرضهم، وفي غالبية الأحيان كانت تندمج معهم تدريجياً، حتى يصبحوا في نهاية المطاف شعباً واحداً، تتمازج فيه اللغات، أو تنصهر القوميات، أو يسود فيه دين الفاتحين. وفي كل تلك الأحيان السابقة يتكفل الزمن وتعاقب الأجيال بالاعتراف بالأمر الواقع، ثم بالتطبيع الكامل، بغض النظر عن الدماء التي أهرقت في الإحتلال.

ومن الأمثلة على ذلك ما تعرضنا له بشأن روسيا في مقال (غروب عصر الفايكنج) حيث امتزج السكان المحليون من السلافيين مع الغزاة الفايكنج الإسكندنافيين لينشأ عن ذلك الشعب الروسي. أو ما تعرضنا له بشأن إنجلترا في مقال (الدراما التاريخية بين الحقيقة والخيال) حيث امتزج السكان المحليين من البريتان والكلت مع الغزاة الانجليين والساكسونيين من ألمانيا، ثم النورمنديين (ذوي الأصول السويدية) من فرنسا، لينشأ عن ذلك كله إنجلترا الحالية بشعبها ولغتها وثقافتها، والتي ينظر إليها عالمياً على أنها من أرقى الدول وأنقاها عرقاً!

الاستثناء الوحيد لتلك السنة الكونية كان بيت المقدس وأكناف بيت المقدس. فخصوصية هذه الأرض بالذات كانت بقدسيتها التي أقرها الله جل جلاله في كتبه، فاقترن تبدل هويتها بتبدل شرائعه، حتى إستقرت تلك الهوية أخيراً في الشريعة الخاتمة، وصارت للمسلمين خاصة إلى يوم القيامة. فبالإضافة إلى كونها الأرض الوحيدة التي وصفها الله جل جلاله في القرآن الكريم بالمقدسة، وجعل مسجدها الأقصى أولى القبلتين وثالث الحرمين للمسلمين، فقد أسرى بنبيه صلى الله عليه وسلم  منها بالذات إلى السماء، والأهم أنه أم فيها قبل إسرائه جميع الأنبياء والرسل معلناً انتقال قدسيتها، وإلى الأبد، إلى أتباع الرسالة الخاتمة.

ولقد حاول أتباع كلا الشريعتين السابقتين اعادة تبديل هويتها، ولكن التدبير البشري لا يجدي نفعاً مع التدبير الإلهي. فقد شهدنا فشل المحاولة الأولى التي جيش بها النصارى جيوش أوربا في الحملة الصليبية الأولى (1096م - 1099م) لإحتلالها، فرغم نجاح الإحتلال، وقيام كيان صليبي في الأرض المقدسة تحت أسم "مملكة القدس اللاتينية"، واستمراره ثمان وثمانين سنة مع مدينة القدس، وأحدى وثمانين سنة أخرى بدون القدس (باستثناء سيطرة منقوصة في الفترة ما بين 1228م -  1244م) أي بمجموع حوالي مائة وسبعين سنة، ولكن ظلت هويتها عصية على التبديل، كما ظل المسلمون عصيين على التطبيع مع الكيان الغاصب، فظل المحتلين غرباء أجنبيين، حتى تحررت الأرض المقدسة من دنس إحتلالهم. 

ثم تكررت محاولة تبديل هوية الأرض المقدسة من قبل اليهود هذه المرة، ونجحوا هم أيضاً سنة 1948م باحتلالها، واستمر الكيان الذي أقاموه فيها تحت أسم "إسرائيل" إلى الآن إثنان وسبعون سنة. وكما حصل مع الكيان السابق استعصت هويتها على التبديل، واستعصى المسلمون على التطبيع مع الكيان الجديد، وسيبقى المحتلين غرباء أجنبيين منبوذين، إلى أن  تتحرر الأرض المقدسة من دنس الصهاينة، كما تحررت من دنس الصليبيين. وعلى عكس السنة الكونية التي جرت على الدول والشعوب، لم يكفل الزمن وتعاقب الأجيال لكلا الكيانين الغاضبين إلا من مزيداً من انعزالهما، وإمعاناً في عداء الوسط الشعبي المحيط لهما، مهما سالمتهما بعض حكوماتهم. ولم يكتسب الاحتلال بكلتا الحالتين أي صفة شرعية، في الوسط المحيط به، لا دينياً ولا سياسياً ولا حتى اجتماعياً، بل ظل إغتصاباً لأرض مقدسة يستحيل اعتباره طبيعياً بأي حال من الأحوال. فحتى التبادل السياسي، أو الشراكات التجارية، بل ومجرد المصاهرات ظلت في أدنى مستوياتها، وبحالات فردية شاذة، لم يكتب لها الاستمرار طويلاً.

وبمراجعة التاريخ نلاحظ تشابهاً كبيراً بين الكيانين، بل وتفوق الكيان الصليبي على الكيان الصهيوني من جهة المدة، والعدد، والعدة، والتمويل، ومساندة الغرب له. مما يقوي الأمل في قلوبنا بتهافت الكيان الصهيوني بأسرع مما تهاوى الكيان الصليبي.

بدايةً نرى أن الذريعة المعلنة لإنشاء الكيان الصهيوني كانت دينية بهدف استرداد "أرض الميعاد"، تماماً  كما كانت الذريعة المعلنة لإنشاء الكيان الصليبي دينية بهدف استرداد "الأماكن المقدسة التي ولد وصلب فيها الرب" حسب زعمهم. الغريب أنه رغم ذلك، فقد كان الحكم في كلا الكيانين مدنياً علمانياً، وليس دينياً! ولكن بالطبع دون التفريط بالحجج الدينية، ومكتسباتها.

وكما كان السبب غير المعلن لأوروبا لإنشاء الكيان الصهيوني هو التخلص من المشكلة اليهودية، وفي الوقت ذاته زرعهم ككيان موالي في منطقة معادية ذات أهمية بالغة، كان سبب أوربا غير المعلن لإنشاء الكيان الصليبي هو التخلص من طبقة المحاربين الذين أصبحوا بلا عدو لقتاله، بعد أن أصبحت أوربا كلها نصرانية (بعد تنصر الفايكنج والسلافيين والهنغاريين) فتحولوا إلى القتال فيما بينهم، وإلى النهب، وقطع الطرق، وترويع السكان الآمنين، مما أنتج حالة من الفوضى، كان لابد معها من التخلص من المشكلة، وتوجيه تلك الطاقة العسكرية كحرب مقدسة ضد العدو المسلم البعيد، والذي انشغلوا عنه لقرون في حروبهم مع كل من الآريوسيين والوثنيين الأكثر قرباً جغرافياً، لتحويلهم إلى الكاثوليكية.

وهكذا قام الكيان الصليبي، تماماً كالكيان الصهيوني لاحقاً، بمذابح يندى لها الجبين عند احتلال بيت المقدس، حتى أنهم قتلوا في ساحات المسجد الأقصى وحدها سبعين ألف مسلم. ولتوضيح التشابه بين العقيدتين العسكريتين للكيانين نقتبس من أحد عظات القديس برنار لفرسان الهيكل: "إن على المسيحي الذي يقتل غير المؤمن في الحرب المقدسة، أن يثق بما سينال من ثواب، وعليه أن يكون أشد وثوقاً من هذا الثواب إذا قتل هو نفسه، وإن المسيحي ليبتهج بموت الكافر لأن المسيح يبتهج بهذا الموت".

ولم تشهد فلسطين منذ بدء التاريخ بناء لجدران عازلة أو لأسوار حول المدن، مع ابراج مراقبة، أو غيرها من التحصينات، ومخازن الأسلحة كما حدث زمن الكيانين، إذ اعتبر ذلك أساس الحكم واستراتجيته، نظراً لاستحالة قبولهما من الوسط المحيط.

لذا كانت أغلب ميزانية الكيان الصليبي تذهب إلى الجيش، الذي يعد الضامن الأول لبقائه. وقد كان تجهيز الفارس يكلف الكيان مبلغاً ضخماً (زهاء ألفي دينار ذهبي آنذاك) ليتم على أعلى مستوى ممكن في ذلك العصر. وكان يجب أن يشتمل على: سيف، ورمح، وفأس، وقضيب تكسير الدروع، وقوس ونشابة، إلى جانب الترس والخوذة الحديديتن. هذا غير الأسلحة المتطورة التي لم يتوصل المسلمون آنذاك لسر صناعتها بعد، مثل النار الإغريقية التي كانت تقذف بالمنجنيقات، والمدقات، بالإضافة إلى الدبابات الخشبية لتسلق الأسوار.

وقد عانى كلا الكيانين من قلة عدد جيشيهما، وسعيا دوماً لتشجيع الهجرة إليهما من أوربا، كما اتجها إلى ما يعرف اليوم بنظام "جيش الإحتياط"، لتعويض النقص. حيث كانوا يدربون السكان زمن السلم، بما يعرف حالياً "بالخدمة الإلزامية"، ثم توزع عليهم الأسلحة زمن الحرب.

وغني عن الذكر أنه في كلا الكيانين لم يكن بذلك ليحدث لولا المساعدات المادية والعينية من الدول الأوربية، ولولا التبرعات السخية من الموسرين من اخوانهم بالدين هناك، إلى جانب عائدات قوافل الحجاج التي كانت تزور الأماكن المقدسة في فلسطين. مما جعل بقاء كلا الكيانين مرهون على الغرب، وبضمانة دوله القوية.

ولم تقف علاقة كلا الكيانين مع الغرب عند هذا الحد فحسب، بل كان الفائض السكاني في أوربا بالحالتين، كما أشرنا سابقاً، هو المصدر الرئيسي للخزان البشري للمستوطنين، فعلى الرغم من أن قيام الكيانين كان على أسس دينية، كما أسلفنا، إلا أن العنصر الأوربي كان هو المسيطر على العنصر الآسيوي، رغم اشتراكهما بنفس الدين.

ولم يقف التشابه عند هذا الحد فحسب، فكما يحصل حالياً في الكيان الصهيوني، قامت عمليات تنقيب منتظمة تحت المسجد الأقصى (الهيكل بزعمهما) أوكلت آنذاك إلى "فرسان الهيكل".

كما غابت في الحالتين السلطة المركزية في الأراضي الإسلامية المحيطة، والتي انقسمت إلى دويلات وإمارات وممالك متنافسة. تبع أغلبها أسمياً للخلافة العباسية السنية في بغداد، بينما تبع الباقي لما سمي بالخلافة الفاطمية الشيعية (الدولة العبيدية الإسماعيلية) في القاهرة، والتي كان زوالها وعودة رعاياها إلى المعسكر السني، وانتهاء التناكف الحاصل بين الطائفتين أهم عوامل بداية زوال الكيان الصليبي، بعد العودة إلى الله وإيقاظ الهمم في نصرة دينه.

وهكذا تمكن المسلمون في عام 1187م من تحرير القدس عاصمة الكيان الصليبي، الذي كان يعرف بمملكة القدس اللاتينية، ولكن الكيان استمر تحت نفس الاسم في بقية إماراته، التي سقطت تباعاً حتى تم فتح آخر أراضيها في قيسارية وعكا سنة 1291م من قبل المماليك. رغم تسيير سبع حملات صليبية أخرى بقيادة أكابر ملوك أوربا خلال تلك المدة، في محاولات دؤوبة لإعادة احتلال القدس، وإنقاذ بقية الإمارات الصليبية.

وهنا يظهر لنا جلياً تفوق الكيان الصليبي على الكيان الصهيوني. فرغم العلو الحالي لليهود وسيطرتهم على الإعلام والمصارف وأسواق المال، والتغير الجذري في المفاهيم المسيحية بعد الحركات الإصلاحية، التي حولت العداء التاريخي مع اليهود "قتلة الرب" إلى تحالف معهم، واعتبرت عودتهم إلى الأرض المقدسة تحضيراً لعودة الرب،

وما تبع عن ذلك كله من تأثير لايستهان به لليهود على السياسة العالمية. فإن ذلك كله لا يكفي بالطبع لتسيير حملات عسكرية لكبرى الجيوش الغربية لمحاربة المسلمين إلى جانبهم، ثم تقديم فلسطين لهم على طبق من فضة قبل العودة إلى ديارهم.

فكل ما يستطيع الغرب تقديمه للكيان الصهيوني هو الدعم السياسي الذي يضمن بقائهم في المجتمع الدولي رغم جرائمهم، والأسلحة المتطورة التي تضمن تفوق جيشهم رغم نقص عدده، والمساعدات المالية التي تضمن تسير كيانهم رغم نقص موارده. وهذا بالطبع ليس بالقليل، ولكنه بالتأكيد لن يستمر إلا ما لا نهاية، فقد بدأ الغرب فعلاً بالتملل، وقريباً لن يبقى لديهم أكثر ليقدموه، بعد كل تلك الفرص التي استفذها  الكيان الصهيوني بنجاحه بمجرد البقاء على قيد الحياة. بقاء هو أشبه ببقاء كلب محاط بأسود مخدرة، أو مقيدة بحبال الدعم السياسي والعسكري والمالي الذي يقدمه الغرب له، والتي لن تلبث أن تنقض عليه فور تقطع تلك الحبال.

لقد نفذت حجة "تمهيد الطريق أمام نفوس الضحايا المعذبة لكي ترتاح من آلامها الفظيعة" بسبب "الهولوكوست" التي حصل الكيان الصهيوني بموجبها على تعويضات ضخمة من ألمانيا الغربية بمعاهدة لكسمبورغ سنة 1952م، والتي شكلت جزءا كبيرا من موارد ميزانية الكيان الصهيوني لمدة 12 عاما. (أعلن عن ثلاثة مليارات مارك سنوية لمدة 12 سنة، بالإضافة إلى راتب شهري لكل اليهود الذين يثبتون تعرضهم للملاحقة في أوروبا من النظام النازي خلال الفترة الواقعة بين عامي 1933 و1945م) بالإضافة إلى حوالي 20 مليار مارك تعويض عن ممتلكات يهودية صودرت من النظام النازي. وبعد اتحاد الألمانيتين عقدت إتفاقية أخرى سنة 1991م، حصل الكيان بموجبها على الحصة المفروضة على ألمانيا الشرقية، التي امتنعت عن دفعها آنذاك. ثم وقعت إتفاقية ثالثة سنة 2012 ليستفيد منها بحسب البيانات المعلنة من وزارة المالية الألمانية 80 ألف يهودي لم يحصلوا على تعويضات لعدم معرفتهم بها! ولا توجد إحصائيات رسمية حول قيمة محددة للتعويضات التي دفعتها ألمانيا للكيان الصهيوني، إلا أن الحكومة الألمانية ذكرت في بيان مقتضب صدر في يونيو/ حزيران 2010 أن هذه التعويضات ناهزت 63 مليار يورو.

كما لا توجد أيضاً معلومات دقيقة عن كافة المساعدات الأمريكية للكيان الصهيوني. ولكن في مقال نشر مؤخراً للاقتصادي الأمريكي البارز توماس ستوفر الذي يعمل أستاذا في جامعتي هارفرد و جورج تاون بعنوان " تكلفة الصراع الإسرائيلي – الفلسطيني على دافع الضرائب الأمريكي ثلاثة تريليونات دولار " كشف من خلاله مجموعة من الحقائق حول التكلفة الحقيقية لتبني الولايات المتحدة للكيان الصهيوني منذ نشأته، سواء على مستوى المساعدات المباشرة، أو ما تكلفته الولايات المتحدة بسبب سياستها المتحيزة دائما للكيان الصهيوني. ولا يعلن عادةً إلا عن حزم المساعدات العقدية، حيث بلغت خطة الحزمة الثامنة والأخيرة (والتي على الأرجح لن تتمكن الولايات المتحدة من التزام بها كاملة) 38 مليار دولار للسنوات 2019- 2028م، بواقع 3 مليارات و800 مليون دولار سنوياً، بالإضافة إلى مبلغ خمسة مليارات دولار لدعم مشاريع مشتركة بين البلدين لتطوير صواريخ مضادة للصواريخ.

ومع استنفاذ حجج التعويضات الألمانية، وارتفاع أصوات دافعي الضرائب وبعض الساسة الأمريكيين المعترضين، واستحواذ العملاق الصيني، والنمور الآسيوية على أجزاء كبيرة من حصة الولايات المتحدة بالاقتصاد العالمي، وأخيراً وليس آخراً، أزمة الكورونا التي يعتبر الغرب أكبر الخاسرين فيها. نجد تبريراً لانقطاع، أو حتى تخفيض، المساعدات الغربية، والأمريكية خاصة، والذي سيكون بمثابة "حكم بالإعدام" على الكيان الصهيوني. خاصة إن إستمر فشله بالتطبيع مع الدول العربية والإسلامية، وهو المؤكد شعبياً إلى الآن، حتى مع تلك التي طبعت معه حكوماتها رسمياً.

وبفضل الله تعالى وتدبيره ستبقى هوية الأرض المقدسة إسلامية، وستظل بلاد الإسلام عصية على التطبيع مع الكيان الصهيوني الغاصب، وبأكثر مما استعصت في السابق على التطبيع مع الكيان الصليبي الذي فاقها في كل شي.

ولنفهم كيف يمكن أن يشكل التطبيع الحكومي والشعبي مع الدول الإسلامية طوق النجاة للكيان الصهيوني، دعونا نعدد باختصار بعض أهم المكاسب التي سيجنيها من ورائه، مثل استثمارات رؤوس أموال أغنياء المسلمين، والأيدي العاملة الرخيصة لفقرائهم. والفتح المتبادل للأسواق الذي سيصرف بضائعه التي تصدر حالياً إلى أسواق بعيدة بتكلفة عالية، ومنافسة قوية، كما سيؤمن استيراده لبضائعهم الأقرب والأرخص من تلك التي يستوردها من الخارج. هذا غير استقطابه للسواح من تلك الدول، وما يجر على الكيان من عائدات ضخمة تستحوذ عليه حالياً دولاً أقل جاذبية سياحية. والأهم هو إمكانية تخفيض فاتورة ميزانيته العسكرية المجهدة، بعد أن يخسر الفلسطينيين نهائياً دعم تلك الدول، كما خسروا قواعد عملياتهم في بعض أراضيها.

لذا نرى تسارع وتيرة تهافت الصهاينة بالآونة الأخيرة على التطبيع، باعتباره الأمل الأخير لإنقاذ الكيان الصهيوني، الذي أصبح هاجس عدم تخطيه "العقد الثامن" يؤرق حكامه، وكبار مفكريه، وحتى حاخاماته. الحكام من الناحية السياسية والاقتصادية والأمنية التي أشرنا إليها أعلاه، وكان آخر من ذكرها الوزير نفتالي بينيت المنتمي لتيار "الصهيونية الدينية"، ليس بصفته زعيم اتجاه ديني سياسي فحسب، بل كوزير للأمن، حيث قال خلال مؤتمر صحافي تحدث فيه عن التهديدات الأمنية التي تواجه الكيان الصهيوني، وفق ما نقلت صحيفة "ماكور ريشون"، "إننا داخل العقد الثامن لدولة إسرائيل، وفي تاريخنا كله، كان لنا دولتين هنا في أرض إسرائيل، (يقصد مملكة إسرائيل الموحدة، ومملكة الحشمونيين) لكن لم ننجح أبدا في عبور العقد الثامن كدولة موحدة وذات سيادة". ورئيس الحكومة بنيامين نتنياهو، الذي حاول أن يظهر أكثر تفاؤلاً خلال ندوة دينية كان قد استضافها هو وزوجته، سارة نتنياهو، في بيتهما، حيث كرر كلام وزير أمنه، ولكنه تفاخر بنجاح جهوده بالتطبيع (كما يعتقد) وأنه يعمل على ضمان نجاة دولة إسرائيل من المخاطر الوجودية لتتعدى الثمانين سنة وتصل إلى عمر 100 عام.

أما هاجس المفكرين فمن الناحية الاجتماعية، وكان آخر من عبر عنه هما مئير بن شاحر وجنرال احتياط النائب عوزي دايان في مقال مشترك لهما في صحيفة "معاريف" أعربا فيه عن مخاوفهما من أن يكون العقد الثامن "فتاكا بإسرائيل" وقد فسرا ذلك بأنه "في هذه اللحظة يدخل إلى الساحة الجيل الثالث؛ فزعماء إسرائيل والمجتمع اليوم هم الأبناء والأحفاد للآباء المؤسسين الذين عرفوا كيف يعقدون التسويات القيمية من أجل وجود إسرائيل، مثل اتفاق التعويضات والوضع الراهن في شؤون الدين والدولة، وسمحت تلك التسويات رغم احتقارها من جانب التيارات المختلفة، باستمرار الوجود المشترك"، وأضافا: "بالنسبة للجيل الثالث، فإن الدولة هي حقيقة قائمة، ويأخذونها كأمر مسلّم به، ولا يخافون على وجودها، وإلى جانب ذلك يحمل الأحفاد أحلام وإحباطات آبائهم، ويشعرون بواجب أن يخرجوا لحيز التنفيذ". مضيفين: "إلى داخل أزمة العقد الثامن هذا، زحف بهدوء تام وحش كورونا، ففي سنوات الخمسين ألمّ بإسرائيل، التي كانت بالكاد ذات مليون نسمة، وباء شلل الأطفال (البوليو) الذي أصاب آلاف الأطفال، فمات المئات، وبقي الكثير من المعوقين". مذكرين: "أن الأوبئة رافقت البشرية منذ الأزل، وأثارت الفزع والهستيريا، وبعد ذلك، في الغالب، عاد العالم لعادته، ولكن ليس دوما في الدول التي تعاني أزمات اجتماعية وسياسية، يمكن لفيروس صغير أن يضرم شعلة كبرى تغير وجه المجتمع". وأضافا: "حتى قبل نحو شهر كان يمكن، رغم أزمة العقد الثامن، الأمل بيقين عظيم في أن الزمن والديمقراطية سيفعلان فعلهما، والدولة والمجتمع سينجحان في التغلب على الأزمة السياسية من خلال الحسم في الانتخابات، وهذا لم يحصل، ووباء كورونا فاقم الوضع كثيرا". وأكدت أن "الفترة القريبة القادمة لا تسمح للأوهام، فكورونا يهدد الأساسين؛ الصحة والرزق، ونحن نفهم اليوم جميعنا، أن أزمة كورونا ستستمر، وستتسبب بأزمة اقتصادية، وبتعميق الاستقطاب الاجتماعي، لدرجة الخطر الحقيقي على مواصلة وجود إسرائيل مثلما نعرفها" ورأى أن "المطالبة بحكومة طوارئ، إن لم تكن وحدة، ليست بسبب الفيروس، بل بسبب الوباء الاجتماعي والسياسي الذي يحدثه"، مبينة أنه "في مرحلة معينة سيكون لقاح، وربما علاج للفيروس، ولكن ليس للصدوع في المجتمع الإسرائيلي".

وأما هاجس الحخامات فهو من جهة النبوءات التوراتية المتكررة، التي تشير إلى زوال الكيان الصهيوني في الفترة بعد سبعين سنة من قيامه، مثل "لإِكْمَالِ كَلاَمِ الرَّبِّ بِفَمِ إِرْمِيَا، حَتَّى اسْتَوْفَتِ الأَرْضُ سُبُوتَهَا، لأَنَّهَا سَبَتَتْ فِي كُلِّ أَيَّامِ خَرَابِهَا لإِكْمَالِ سَبْعِينَ سَنَةً." (سفر أخبار الأيام الثاني 36: 21). ولكن نظراً لطول وتشعب هذا الموضوع، فسنفرد له مقالاً مستقلاً إن قدرنا الله، وسنورد فيه ما يوافقه من تفسير القرآن الكريم والأحاديث النبوية الشريفة. الذين يشيرون جميعاً إلى قرب تهافت الكيان الصهيوني الغاصب. وسيريهم الله ما كانوا يحذرون.
_______________________

د. إيهاب عويص