عفة الألفاظ وحشمتها في الحديث النبوي

منذ 2020-09-12

مع شهرة الحديث التالي لم أجد من لفت النظر لأبرز دلائله الأخلاقية، وسماته الراقية، وألفاظه السامية، ما يعكس تناقضاً ملموساً!

مع شهرة الحديث التالي لم أجد من لفت النظر لأبرز دلائله الأخلاقية، وسماته الراقية، وألفاظه السامية، ما يعكس تناقضاً ملموساً!

أعني الحديث المشهور عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه، قَالَ:

«كَانَ ابْنٌ لِأَبِي طَلْحَةَ يَشْتَكِي، فَخَرَجَ أَبُو طَلْحَةَ، فَقُبِضَ الصَّبِيُّ. فَلَمَّا رَجَعَ أَبُو طَلْحَةَ؛ قَالَ: مَا فَعَلَ ابْنِي؟

قَالَتْ أُمُّ سُلَيْمٍ: هُوَ أَسْكَنُ مَا كَانَ، فَقَرَّبَتْ إِلَيْهِ العَشَاءَ فَتَعَشَّى، ثُمَّ أَصَابَ مِنْهَا، فَلَمَّا فَرَغَ قَالَتْ: وَارُوا الصَّبِيَّ، فَلَمَّا أَصْبَحَ أَبُو طَلْحَةَ أَتَى رَسُولَ اللَّهِ فَأَخْبَرَهُ.

فَقَالَ: «أَعْرَسْتُمُ اللَّيْلَةَ»؟

قَالَ: نَعَمْ.

قَالَ: اللَّهُمَّ بَارِكْ لَهُمَا. فَوَلَدَتْ غُلاَماً.

قَالَ لِي أَبُو طَلْحَةَ: احْفَظْهُ حَتَّى تَأْتِيَ بِهِ النَّبِيَّ، فَأَتَى بِهِ النَّبِيَّ وَأَرْسَلَتْ مَعَهُ بِتَمَرَاتٍ، فَأَخَذَهُ النَّبِيُّ.

فَقَالَ: «أَمَعَهُ شَيْءٌ»؟

قَالُوا: نَعَمْ، تَمَرَاتٌ، فَأَخَذَهَا النَّبِيُّ فَمَضَغَهَا، ثُمَّ أَخَذَ مِنْ فِيهِ، فَجَعَلَهَا فِي فِي الصَّبِيِّ وَحَنَّكَهُ بِهِ، وَسَمَّاهُ عَبْدَ اللَّهِ»[1].

لن نتناول الحديث من الأبواب التي ترجم له العلماء بها، وهي أبواب: تحنيك المولود، وتسميته، والخميصة السوداء، ووسم الحيوان، والفضائل، وغيرها من الأبواب الجليلة؛ فقد شاء الله سبحانه وتعالى أن يبهرني الحديث من جانب لم أجد أعظم منه رقيّاً، وهو رقي الألفاظ المستخدمة، والتي تشير إلى أخص أنواع العلاقة الزوجية، والتي سترها الله سبحانه وتعالى حتى عن أقرب المقربين من الآباء والأمهات، والبنين والبنات، فلا يعلم بها غير رب الأرض والسماوات تعالى شأنه وجل عن الزلات والهفوات.

فانظر إلى التعبيرات الراقية في الحديث والمستخدمة للكناية عن الجماع، وتأمل رزقني الله وإياك الحياء في تعبير أنس رضي الله عنه مشيراً للجماع بقوله: «ثُمَّ أَصَابَ مِنْهَا»! وهي لفظة جمعت في مرادها بين الرِّقَّة والدِّقَّة، وفي سياقها بين الخفاء والنقاء، فنِعْمَ المراد من نِعْمَ المريد رضي الله عنه!

ثم تأمَّل رزقني الله تعالى وإياك الحياء في تعبير أبي طلحة رضي الله عنه عن الجماع بقوله: «تَلَطَّخْتُ». والتَّلطخ: هو أن يتعلق بالرجل شيءٌ من الطِّيب الذي تطيبت به زوجه وهي تتزين له، فكنَّى رضي الله عنه عن الجماع بالطِّيب والعِطْر! ألا فما أطيبها من كناية أطيب من كل طِيبٍ!

ثم تأمل رزقني الله وإياك الحياء في تعبير النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وإشارته إليه بقوله صلى الله عليه وسلم: «أَعْرَسْتُمُ اللَّيْلَةَ؟»، والتَّعريس: هو نزول القوم في السفر من آخر الليل في مكان ما للنوم[2]، فعبَّر النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عن الجماع بكناية رقيقة، وهي النوم في السفر، وهي كناية عن الشيء بزمانه، ومكانه بغير التطرق لأصله وبيانه!

فإليك يا طالب الخلق الحسن ثلاثة تعبيرات مختلفة عن شيء واحد وهو الجماع؛ عَلَّنَا بذلك نتعلم الأخلاق الفضيلة، والكلمات الطاهرة من خير السلف رضي الله عنهم، لنكون لهم بعون الله عز وجل خير خلف.

وعندما ألقى الله سبحانه وتعالى في روعي مقارنةً بين هذا الحديث الرقيق، وذلك الموقف الدقيق، وما تَمَيَّزَ به من السياق الرَّاقي، والتعبير السَّامي؛ وما يصم الأذن من الألفاظ الفجَّة، والتعبيرات الممجوجة حتى توشك الأذن أن تتقيأ ما تسمع، تلك التي يستخدمها بعض الناس، طُرِحَ على خاطري سؤال خطير، وهو:

ما سبب هذه المفارقة العجيبة في الأسلوب، وذلك التباين الرهيب في السياق؟

فإذا بقوله سبحانه وتعالى يلوح في الأفق: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ} [النساء: 82].. نعم إنَّ الفرق بين رُقِيِّ ألفاظهم، وانحطاط أسلوب الكثيرين يكمن في تدبر القرآن لا غير!

وذلك أنَّ منهج الصحابة رضي الله عنهم في تعلم القرآن وأخذه لم يكن قائماً على إتقان الألفاظ، وتجميل الأصوات، وحصد الجوائز كما هو أخذ الكثيرين اليوم، بل كان قائماً على التدبر والتفهم والعمل والاقتداء.

فلا نعجب إذن أن نسمع هذه التعبيرات الراقية، والكنايات السامية من الجيل القرآني الذي تربى على القرآن، وأنَّى لنا العجب وقد استقى هذا الجيل القرآني معجمه المستعمل من التعبيرات القرآنية السامية!

وتأمل إن شئت بعض التعبيرات القرآنية عن «الجماع» لتعلم الأثر القرآني على جيل الصحابة:

فمن هذه الكنايات الإلهية عن الجماع:

 «الإتيان» في قوله تعالى: {فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} [البقرة: 223].

 «الدخول» في قوله تعالى: {مِّن نِّسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُم بِهِنَّ فَإن لَّمْ تَكُونُوا دَخَلْتُم بِهِنَّ} [النساء: 23].

 «الاقتراب» في قوله تعالى: {وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} [البقرة: 222].

 «المباشرة» في قوله تعالى: {وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْـمَسَاجِدِ} [البقرة: 187].

 «الإفضاء» في قوله تعالى: {وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إلَى بَعْضٍ} [النساء: 21].

  «المس» في قوله تعالى: {وَإن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ} [البقرة: 237].

 «الملامسة» في قوله تعالى: {أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ} [النساء: 43].

 «الاستمتاع» في قوله تعالى: {فَمَا اسْتَمْتَعْتُم بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [النساء: 24].

 «التغشي» في قوله تعالى: {فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفًا} [الأعراف: 189].

ويكفيك أن تقرأ الحكاية الإلهية بأسلوبها الرباني الراقي عن سقوط امرأة في قاع القاع من الشهوة البهيمية لتتأكد بنفسك أنك أمام الكتاب الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وذلك في قصة امرأة العزيز!

فقد يكون في جيلنا من حفظة القرآن أضعاف حفظة جيل الصحابة رضي الله عنهم، ولكن أبداً لن تجد من هو أعظم منهم تدبراً، وأجل استقامة على منهجه السامي الحميد!

وهذه أعظم سمات هذا الجيل القرآني الفريد! أنه جيل تربى على القرآن كمنهج وليس كمقرر دراسي، أو لمجرد التلاوة اللفظية!

وهكذا كان صلى الله عليه وسلم يُكَنِّي دائماً عن الأمور الحرجة، ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: «حَتَّى تَذُوقِي عُسَيْلَتَهُ، وَيَذُوقَ عُسَيْلَتَكِ» [3]، فكنَّى صلى الله عليه وسلم عن الجماع بالعسيلة، وذلك لامرأة رفاعة إذ أرادت الرجوع لزوجها الأول.

ومن كنايته النبوية عن العورات الحساسة ما جاء عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ رضي الله عنهما؛ قَالَ: «كَسَانِي رَسُولُ اللَّهِ  قُبْطِيَّةً [ثوب أبيض شديد البياض] كَثِيفَةً مِمَّا أَهْدَاهَا لَهُ دِحْيَةُ الْكَلْبِيُّ، فَكَسَوْتُهَا امْرَأَتِي.

فَقَالَ: «مَا لَكَ لَمْ تَلْبَسِ الْقُبْطِيَّةَ» ؟

قُلْتُ: كَسَوْتُهَا امْرَأَتِي.

فَقَالَ: «مُرْهَا فَلْتَجْعَلْ تَحْتَهَا غِلَالَةً [الثوب يكون تحت الدرع]، فَإِنِّي أَخَافُ أَنْ تَصِفَ عِظَامَهَا» [4].

فانظر رحمني الله وإياك قمة السمو النبوي.. إنَّ الثوبَ الشفافَ يصف المحاسن اللينة للمرأة، ويكشف عوراتها عياذاً بالله، ولكنَّ النبي صلى الله عليه وسلم كنَّى عن العورات، والأعضاء اللينة بلفظ العظام! وهو لفظ مليء بالوقار والاحتشام بعيد عن أي لفظ محرج، أو تعبير خادش للحياء!

واليوم، على العكس من ذلك تماماً، تجد مذيعاً يستضيف طبيبة على الهواء لتتحدث فيما يُظَنُّ أن إبليس يستحيي منه، ومذيعة تستضيف طبيباً على الهواء لتحدثه فيما لا يجوز أن تتحدث فيه مع أمها!

وشر من هذا وذاك متسربلون بسربال الدعوة يتخيرون أقذع الألفاظ، وأفحش التعبيرات! وشر من هذا كله أنهم يستدلون على فحشهم بنصوص صحيحة لها قرائنها التي توجب التوضيح مكان التلميح، وتفرض العبارة مكان الإشارة، وذلك لخطورة موقف عظيم اضطُرُّوا لخطره إلى البيان صراحة إذ لم يف خفاء الكناية!

وهذا ما لا يتجاسر أحد على إنكاره؛ كمواطن الشهادة، والقضاء، وما لا تتحقق المصلحة بغيره من التصريح والبيان. ولكنَّ هذا التَّمحك في الدين، ونسبة الفحش لسيد المرسلين صلى الله عليه وسلم إنَّما يشير إلى الهوى في انتقاء الأدلة، والانتكاس في فقه الاستدلال، وطمس في نور البصيرة!

ألا وقد أشار نبينا صلى الله عليه وسلم لهؤلاء المنكوسين بقوله صلى الله عليه وسلم: «رُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ لَيْسَ بِفَقِيهٍ» [5]، نعوذ بالرحمن الرحيم من الزيغ والهوى وطمس البصيرة! أما سمعوا قوله صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفُحْشَ، وَلَا التَّفَحُّشَ» [6]. ألا فإنَّ الفحش من علامات النفاق، وآيات المنافقين عياذاً بالله.

وكما أن التعفف في الألفاظ من سمات الشخصية القرآنية التي تهذبت على آداب القرآن! فعلى النقيض تماماً نجد التفحش من أبرز سمات المنافقين أعاذنا الله منهم.

وذلك كما جاء عنه صلى الله عليه وسلم إذ يقول: «إِنَّ الْحَيَاءَ، وَالْعَفَافَ، وَالْعِيَّ، عِيَّ اللِّسَانِ، لَا عِيَّ الْقَلْبِ، وَالْفِقْهَ مِنَ الْإِيمَانِ. وَهُنَّ مِمَّا يَزِدْنَ فِي الْآخِرَةِ، وَيُنْقِصْنَ مِنَ الدُّنْيَا، وَمَا يَزِدْنَ فِي الْآخِرَةِ أَكْثَرُ. وَإِنَّ الْبَذَاءَ، وَالْجَفَاءَ،  وَالشّحَّ مِنَ النِّفَاق، وَهُنَّ مِمَّا يَزِدْنَ فِي الدُّنْيَا، وَيُنْقِصْنَ فِي الْآخِرَةِ، وَمَا يُنْقِصْنَ فِي الْآخِرَةِ أَكْثَرُ» [7].

وَمن ذلك أيضاً ما جاء عَنْ أَبِي بَكْرَةَ رضي الله عنه؛ عَنِ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «الْحَيَاءُ مِنَ الْإِيمَانِ، وَالْإِيمَانُ فِي الْجَنَّةِ، وَالْبَذَاءُ مِنَ الْجَفَاءِ، وَالْجَفَاءُ فِي النَّارِ» [8].

ومن ذلك ما جاء عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه؛ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «الْحَيَاءُ مِنَ الْإِيمَانِ، وَالْإِيمَانُ فِي الْجَنَّةِ، وَالْبَذَاءُ مِنَ الْجَفَاءِ، وَالْجَفَاءُ فِي النَّارِ» [9].

والخلاصة: إنَّ انتقاء أرق الألفاظ، وانتخاب أسمى العبارات، واختيار أرقى التعبيرات للإشارة عن الأمور المحرجة من دلائل الإيمان.

وكذلك فإن التفحش في الألفاظ، وذكر العورات، والحديث عن أمور النساء بغير المنهج الشرعي من دلائل النفاق عياذاً بالله!

فالحمد لله الذي أنعم علينا، وعلَّمنا أرقى الكلمات، وأسمى التعبيرات، وأنقى العبارات بالكتاب والسنة، ويا لها من نعمة تستوجب الشكر من خلال تعلمها، وتدبرها، والعمل بها، إذ الرقي في الأسلوب بعض ثمرات التدبر للكتاب المجيد.

اللهم بحق وجهك الكريم نسألك أن تجعلنا ممن زكيتهم بقولك العزيز: {وَهُدُوا إلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إلَى صِرَاطِ الْـحَمِيدِ} [الحج: 24].


[1] صَحِيحٌ: رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ (12028)، وَالْبُخَارِيُّ (5470)، وَمُسْلِمٌ (2144).

[2] انظر: العين (1/ 328).

[3] صَحِيحٌ: رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ (24058)، وَالْبُخَارِيُّ (2639)، وَمُسْلِمٌ (1433).

[4] حسنٌ: رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ (21788).

[5] صَحِيْحٌ: رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ (21590)، وَأَبُوْ دَاوُدَ (3660)، وَالتِّرْمِذِيُّ (2656)، وَالنَّسَائِيُّ بِالْكُبْرَى (5816)، وَابْنُ مَاجَه (230).

[6] صَحِيحٌ: رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ (25029)، وَالْبُخَارِيُّ (6395)، وَمُسْلِمٌ (2165).

[7] صَحِيحٌ: رواه الدارمي (526).

[8] صَحِيحٌ: رواه البخاري بالأدب المفرد (1314)، وابن ماجه (4184).

[9] حسنٌ: رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ (10512)، والترمذي (2009).

___________________________________________________________
بقلم: محمد فريد فرج فراج