التحذير من مناهج الإلحاد والاعتزال

منذ 2020-09-14

أتحدث إليكم اليوم عن موضوع هام وخطير جدًّا جدًّا، عن موضوع ماكنت أتوقع في يوم من الأيام أن يأتي يوم ونتحدث فيه عن مثل هذه المواضيع، نتحدث اليوم عن ظاهرة خطيرة وحالة مريرة غير متوقعة.

عباد الله: أتحدث إليكم اليوم عن موضوع هام وخطير جدًّا جدًّا، عن موضوع ماكنت أتوقع في يوم من الأيام أن يأتي يوم ونتحدث فيه عن مثل هذه المواضيع، نتحدث اليوم عن ظاهرة خطيرة وحالة مريرة غير متوقعة.

 

إنني أخشى في كلامي هذا أن يتهمني البعض بالمبالغة والتضخيم، لكنها والله الحقيقية بل وعين الحقيقة.

 

لقد انتشرت بين بعض الشباب وللأسف ظاهرة الإلحاد وإنكار الرب جل وعلا.

 

وبعضهم - وهم أكثر هؤلاء لا ينكرون وجود الرب - ولكنهم يعتقدون أن سبب تخلفنا نحن المسلمين هو الدين وأن سبب ضياعنا هو التمسك بخيار الإسلام، وأن العلمانية في اعتقادهم هي الحل!

 

ويقول بعضهم أن سبب الاختلافات اليوم في الأمة هي أساسًا عالقة في الاختلافات الدينية والمذهبية، لذلك فإن الأجدر بنا - في نظرهم - أن نترك الدين ونبتعد عنه، أو يختار المرء ما شاء من الأديان والمعتقدات دون أن ينكر أحد على أحد.

 

وبعض هؤلاء الشباب اتجه نحو المنهج المعتزلي العقلاني، فيرى أن العقل يُقدم على الدين والنقل وإذا لم تتقبل عقولهم شيئًا من أمور الدين أنكروه بكل جرأة وبذاءة، بحجة أنه يخالف العقل ويتناقض معه، فجعلوا عقولهم حاكمة على الشريعة ومحاسبة لها.

 

وعلى منوال ذلك أنكروا عذاب القبر، وقالوا أنه غير معقول، وأنكروا أشياءَ كثيرة من مسائل الدين وأحكامه، بحجة أنها تخالف العقول وتناقض المعقول، أو تعارض الطب أو علم الفلك أو غير ذلك، فأنكروا حديث الذبابة، وأن في أحد جناحيه داءً، وفي الآخر دواءً، وأنكروا خروج المهدي وخروج مسيح الضلالة - المسيح الدجال - وأنكروا نزول عيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام إلى غير ذلك.

 

ربما يستغرب البعض منكم هل فعلًا يوجد من شبابنا من ينكر عذاب القبر وخروج المسيح عيسى ابن مريم؟ نقول: نعم وإن كانوا أفرادًا قلائلَ، إلا أنه يخشى على بعض شبابنا أن ينجذبوا وراء هذه الأفكار، وينساقوا خلف هذه المعتقدات والتيارات التي تزين الباطل، وتأتي بكلام يوافق أصحاب العقول المذبذبة والإيمان الضعيف، خاصة في ظل غياب العلم الشرعي وضعف الإيمان، وكثرة الفرق والاختلافات بين المسلمين.

 

إن التفرق الموجود بين المسلمين ليس حجة لأحد من المسلمين بالتنصل عن الدين؛ لأن الاختلاف طبيعة الحياة وسنة الكون؛ كما قال الله سبحانه وتعالى: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} [هود 118: 119].

 

فإذا كان من المسلمين من انحرفوا عن الصراط المستقيم، وتفرَّقوا في الدين فرقًا وأحزابًا، فإن الخلل فيهم وليس في الدين.

 

إن الخلل في عقولهم وفَهمهم للدين، وليس في الدين نفسه، ولذا فإن من ظلمهم لأنفسهم أن يحملوا الدين مسؤولية أفهامهم وأخطائهم.

 

إن تاريخ المسلمين والحقائق من حولهم تثبت أن المسلمين عندما تمسكوا بالإسلام، عاشوا في خير وعدل وسيادة وعزة، وعندما ابتعدوا عن دينهم، عاشوا في هوان وسقوط ومذلة، فكيف يأتي بعض الشباب اليوم، وينكر هذه الحقائق التاريخية المعلومة التي اعترف بها العقلاء والمنصفون من المؤرخين الغربيين قبل غيرهم، والحق ما شهدت به الأعداء.

 

إن الخلل عند هؤلاء الشباب أنهم قاسوا حال المسلمين على حال الغربيين، فظنوا أن الغرب عندما تركوا الدين وهجروه وثاروا عليه، تطوروا وشيدوا المصانع، وتفوقوا في العلم وبرعوا في العلوم، ونسوا أن هؤلاء الغربيين ثاروا على دين باطل يحارب العلم ويقتل العلماء ويأكل أموال الناس بالباطل، ويجعل من تعاليم رهبان الكنيسة وطواغيتها نصوصًا مقدسة عليها معقد الولاء والبراء.

 

فكيف يأتي هؤلاء الشباب ويقيسون دين الإسلام الذي يحث على العلم، ويشجع عليه على أحوال تلك الديانات المنحرفة؟

ألم يأخذ الغرب نهضتهم العلمية من المسلمين؟ ألم يترجموا كتب المسلمين ويدرسوا منها؟ ألم يعترف بعض كبراؤهم ويقر بعض عقلائهم بأنهم بنوا حضارتهم على ضوء الحضارة الإسلامية، واعتمدوا في تطوير العلوم على كتب المسلمين ومؤلفاتهم؟ فكيف يأتي اليوم من شبابنا نحن المسلمين ومن أبناء المسلمين من يعكس الحقائق ويظن أننا نحن الفرع وهم الأصل؟!

 

أما الإلحاد فهو الكفر بعينه، وهو الظلم العظيم بذاته، فكيف ينكر الإنسان وجود الرب أو الدين والفطر والعقول مجبولة على وجود الله وعلى التأله والتدين، وكل نفس بشرية تجد في نفسها ميولًا نحو التدين، سواء كان باتباع دين سماوي أو أرضي، فكيف يأتي من ينكر الدين والتدين من أساسه؟!

 

إن شبهات الشيطان ووساوسه التي يُلقيها على بعض هؤلاء الشباب هي شبهات باطلة فبعضهم يلقي الشيطان في باله سؤالا حول وجود الله، فيقول له: مَن خلق الله؟ أو من كان قبل الله، وجواب هذه الشبهة يكون بنفس الطريقة، فإذا كانوا يعتقدون أن أحدًا قبل الله، فنقول لهم: ومن قبل هذا الذي تعتقدون أنه قبل الله؟

 

فإن قالوا: الطبيعة، نقول لهم: ومن قبل الطبيعة؟ وإن قالوا ما قالوا، فمن قبل هذا الشيء الذي يذكرونه وهَلُمَّ جرًّا!

 

إن من يزعم ويُصر على أن هناك شيئًا قبل الله نقول له: ما هو الرقم الذي قبل الرقم واحد؟ فإن قال: الصفر، نقول له: وما الذي قبل الصفر؟ فإن قال: سالب واحد، نقول له: وما الذي قبل السالب واحد، وهكذا، وهنا لا يستطيع أن يقول مَن قبل الله!

 

ثم إن السؤال عمن خلق الله هو سؤال متناقض في ذاته، فالله سبحانه وتعالى هو الخالق فكيف يأتي سائل فيقول من خلق الخالق؟ هو خالق فكيف يقول من خلقه؟! هذا كلام متناقض، فإذا كان السائل يعتقد أن الله هو الخالق، فكيف يقول من خلقه وهو الخالق؟ وإذا كان يعتقد أنه ليس بخالق وأن غيره خالق، فنقول له: ومن خلق هذا الذي تعتقد أنه خالق؟

 

فالحذر الحذر من هذه الجدليات الباطلة والأفكار الضالة المتناقضة التي يُزينها الشيطان للإنسان، ويوسوس بها في صدور الناس، فإن وجود الرب وإثباته لا يحتاج إلى دليل؛ لأننا نرى أناسًا يدعونه بدعوات خاصة، فيستجيب لهم، وآخرين يستسقونه ويطلبون المطر منه، فيمطرهم ويغيثهم سبحانه وتعالى.

 

ولنحذر من الإلحاد بكل أشكاله وألوانه، فإن في ذلك محاداة لله ومناقضة للنفس والفطرة ومخالفة للكون كله: {إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَمَا كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَقَدْ أَنْزَلْنَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ} [المجادلة: 5].

 

بارك الله لي ولكم.

 

الخطبة الثانية

أما من يستدلون بالعقل ويقدمونه على النقل، فنقول لهم: إذا كنتم تقدمون العقل على النقل، فأي عقل نقدِّم؟ وإلى عقل من نحتكم؟ لأن العقول تتفاوت وتختلف، وما يراه فلان بأنه يخالف العقل، فقد يراه غيره أنه يوافق العقل.

 

ثم كيف تجعلون عقولكم وآراءكم حاكمة على دين الله وشرعه المنزَّل الذي لا ينطق عن الهوى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى * عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى} [النجم 3: 5].

 

وإذا كنتم تنكرون بعض المسائل الدينية بحجة أنها تخالف العقل أو الطب، فإن عقولكم توهمت ذلك التعارض، وإلا فالحقيقة أنها لا تخالف العقل ولا تناقضه، بل هي عين الصواب والحقيقة، وقد أثبت الطب والعلم الحديث صحة ما تنكرونه كحديث الذبابة الذي جاء الطب الحديث وأثبت فعلًا أن في أحد جناحيه داءً وفي الآخر دواءً.

 

فاتقوا الله وارجعوا إلى دينكم واحتكموا إلى شريعة ربكم، وما التبس عليكم من أمر من أمور الدين أو مسألة من مسائل الشريعة، فلا تتعجلوا في ردِّها بحجة مخالفتها لعقولكم، فإن عقولكم قد لا تستوعب حتى بعض الأمور الدنيوية والاكتشافات الجديدة، فكيف تستوعب الدين كله والأحكام كلها، ولكن اسألوا أهل العلم والاختصاص عما استشكل عليكم؛ كما قال الله سبحانه وتعالى في آيتين من كتابه العزيز: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [النحل: 43].

 

يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «أَلَا سَأَلُوا إِذْ لَمْ يَعْلَمُوا فَإِنَّمَا شِفَاءُ الْعِيِّ السُّؤَالُ»؛ أي علاج الجهل بشيء السؤال عنه ومعرفة كُنهه، وحقيقته وفهم حكمه، وليس بإنكاره ورده.

 

نسأل الله أن يهدي شبابنا، ويُصلح أولادنا، ويبعدهم عن فتن الأهواء والشبهات وحبائل الشيطان.

 

هذا وصلوا وسلموا.

____________________________
د. مراد باخريصة