كي تستمر المشاريع التربوية العامة
انفصلتُ ذهنيًا عن المحاضر والحاضرين ورحت أتساءل: لماذا الإصرار على الضرب كوسيلة لتعليم وتأديب الصغار؟، لماذا تستمر الظاهرة رغم الحملة الشديدة عليها؟
لساعات طوال ظلَّ أستاذ "التنمية البشرية" يحاول ثني عددٍ من العاملين في "مراكز تحفيظ القرآن الكريم" عن استخدام الضرب كوسيلة عقاب ويرشدهم إلى عشراتٍ من وسائل العقاب والتحفيز الفعالةغير الضرب. انفصلتُ ذهنيًا عن المحاضر والحاضرين ورحت أتساءل: لماذا الإصرار على الضرب كوسيلة لتعليم وتأديب الصغار؟، لماذا تستمر الظاهرة رغم الحملة الشديدة عليها؟
ربما لأن الضرب يؤدي إلى نتيجة سريعة، فإن الطفل- وغير الطفل- حين يضرب ويهان (يقمع) يستجيب سريعًا دفعًا للضرب والإهانة، وحين يضرب ويهان (والضرب في حد ذاته إهانة) أكثر من مرة يتم القضاء على قدرته على الاختيار بين البدائل ويصبح محكومًا بإرادة من يقمعه (يضربه ويهينه) وبالتالي يصير تابعًا ذليلًا، وهذا يُرضي بشكل جيد الآباء وأهل النفوذ، ويُفسر على أنه برّ و"حسن خلق". وتحتاج هذه النقطة لنقاش مستقل، ولم آت لها، ولذا دعني أمر للتي بعدها.
وربما يكمن السبب الرئيسي في استمرار الضرب في المحافل التربوية في ثلاثية تجتمع في كل محفل تربوي، وخاصة الكتاتيب في نموذجها القديم والحديث (ما يقال له دور تحفيظ، ويلحق بهما الدروس الخصوصية في الريف والمدن الصغيرة)، وهذه الثلاثية هي: التكدس، ومحدودية ساعات العمل، وثباتها. فالمعلم لا يستطيع تطبيق توصيات أهل "التنمية البشرية" وهو يُعلِّم عشرات من الطلاب في مكانٍ ضيق وفي وقتٍ ثابت قد لا يناسب نشاط الصغير، وفي ساعات قليلة (إذا قسمنا عدد ساعات التعليم على عدد الأطفال يكون حظ كل طفل من الرعاية الخاصة دقائق معدودة).
وربما يكون الحل في أن تتحول العملية التعليمية إلى البيوت، وبجوار تفعيل البيت تتخصص مراكز التعليم. فالبيت يعلم شيئًا محددًا، غالبًا ما يكون غرس القيم العقدية والسلوكية، ويراقب العملية التعليمية ويدعمها بلسانه ويده. وهذا يتطلب بداهةً تبني برامج لإعادة تأهيل الأمهات. ونسعى لإنشاء مراكز تعليم متخصصة، فالمركز يعلم شيئًا محددًا (حفظ/ تلاوة-تجويد/ سيرة، تاريخ/ حساب..)، والخطوة التي تسبق هذه، وهي خطوة بديهية: تكثيف برامج إعداد الأباء والأمهات، وخاصة الأمهات، ولك أن تستحضر أن كثيرًا من مراكز التعليم تقوم بغير متخصصين، أو شبه متخصص.
ومن الأسباب الخفية لثبات العملية التعليمية الموازية، أعني تلك التي تتعلق بالأطفال تحديدًا، هو تحولها لمصدر دخل. فالمنتسبين للتنمية البشرية قبل غيرهم يدركون جيدًا أنهم يوزعون العطور الفاخرة على الجوعى والمرضى، يدركون أنهم ينسجون أحلامًا عن رياضٍ عطرة للغارقين في المستنقعات الآسنة، يدركون جيدًا أن محاضراتهم لا تعدوا تقديم أشخاصهم هم للحضور، وربما بعض المكاسب المادية، أما النتيجة العملية فتحتاج لجهدٍ آخر يتجه لصحوة تنقل العملية التربوية للبيوت تمامًا كما فعلت أنا في تجربيتي وقد شرحتها في ستة مقالات على هذا الموقع. ومن شاء يراسلني على البريد وأرسلها له (mgelkassas@gmail.com)
وربما يكمن الحل في تكثيف عدد المعلمين، فهذا الإقبال على التعلم في الأماكن العامة لابد أن يوازيه عدد أكبر من المعلمين، بمعنى أن يعطى إعداد معلم/ معلمة متخصص مساحة أكبر من الاهتمام حتى يكون لكل خمسة من المتعلمين معلمًا خاصًا. كأن فصول الدراسة بيوت. وهذا يدفعنا لأم الأسباب التي حطت من شأن العملية التعليمية وهي أن العملية التعليمة أصبحت مصدر تربح، أو مصدر لأكل العيش، ولا يكون، أو لا ينبغي أن يكون فإن التعليم يُنفق عليه، ولا ينبغي أن يكون سببًا لتحصيل المال، بمعنى أن العلمية التعليمية لابد أن تكون مناصفة بين أصحاب المال والمختصين في التعليم.
تفاعلات الناس مثل تفاعلات الأشياء، تظل على حالتها ما لم يأتها مغير قوي من خارجها يؤثر على حركتها ويدفعها، وأعتقد أن المؤثر الأقوى لإحداث نقلة نوعية في الاهتمام بالنشأ هو تقسيم العملية التعليمية بين أهل المال وأهل التخصص. وليتنا نعيد الأوقاف
أبو جلال محمد جلال القصاص
صفر 1442
أكتوبر 2020
- التصنيف: