ذوق الصلاة في كلام العلماء الربانيين (4)

منذ 2020-10-12

وكان الملك الحق المبين، الذي كل شيء هالك إلا وجهه سبحانه أولى بالتحيات كلِّها من جميع خلقه، وهي له بالحقيقة وهو أهلها؛ ولهذا فُسرت التحيات بالملك، وفسرت بالبقاء والدوام، وحقيقتها ما ذكرته، وهي تحيات المُلك والمَلِك والمليك.

{بسم الله الرحمن الرحيم }

السجدة الثانية

ثم شرع له أن يعود ساجدا كما كان ولا يكتفي منه بسجدة واحدة كما الركوع وذلك لفضل السجود وشرفه وموقعه من الله، فأقرب ما يكون العبد من الله تعالى وهو ساجد، وهو أدخل في العبودية وأعرق فيها من غيره، ولهذا جعل خاتمة الركعة وما قبله مقدمات.

فمحله من الصلاة محل طواف الزيارة، وكما أن العبد أقرب ما يكون من الله وهو ساجد كذلك يكون أقرب في المناسك وهو طائف

ولهذا قال بعض الصحابة لمن كلمه وهو في طوافه بأمر من الدنيا: "أتقول هذا ونحن نتراءى لله في طوافنا"

جلوس التشهد

فلما قضى الصلاة وأكملها ولم يبق إلا الانصراف شرع له الجلوس بين يديه مثنيا عليه بأفضل «التحيات» التي لا تصلح إلا له ولا تليق بغيره

التحيات لله

عن ابن مسعود رضي الله قال: «"عَلَّمَنِي رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَكَفِّي بين كَفَّيْهِ «التَّشَهُّدَ» كما يُعَلِّمُنِي السُّورَةَ من الْقُرْآنِ: التَّحِيَّاتُ لِلَّهِ وَالصَّلَوَاتُ وَالطَّيِّبَاتُ، السَّلَامُ عَلَيْكَ أَيُّهَا النبي وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ، السَّلَامُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ، أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إلا الله وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وهو بين ظَهْرَانَيْنَا فلما قُبِضَ قُلْنَا السَّلَامُ يَعْنِي على النبي صلى الله عليه وسلم"» [البخاري ومسلم]

وفي رواية: "فإنه إذا قال ذلك [يعني: السَّلَامُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ] أَصَابَ كُلَّ عَبْدٍ صَالِحٍ في السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ".

** قوله: "التحيات" يحتمل عدة معاني هي:

أ ـ المُلك وهذا من التفسير باللازم لأنه التحية للملوك، ولم يكن يحيا بها غير الملوك.
ب ـ البقاء، لأنها من الحياة.

ج ـ السلامة، أي السلامة من الآفات والنقائص.

د ـ العظمة.

وقيل: "إنها تجمع ذلك كله، وما كان بمعناه وهو أحسن" قاله ابن رجب رحمه الله.

وفي هذا من تعظيم الله ما يُرهب قلب المؤمن خشيةً لربه، فاجتمع في قلب المؤمن من تعظيمه لربه الهيئة واللفظ.

فالهيئة هي جلسة التشهد، فهي جلسة العبد بين يدي سيده، وهي تحمل في هيئتها من الذل والانكسار ما يليق بالعبد المذنب، كما تحمل من التعظيم لمن هو بين يديه ما يستحقه الله سبحانه وأكثر من ذلك.

** جُمِعَ لفظ "التحيات" لأن الجمع أليق بمخاطبة الملوك، والله ملك الملوك سبحانه وتعالى، وليدخل في ذلك كل تحية في الوجود، فالله أولى بها سبحانه.

** ابتدأ بالتحية قبل ذكر الصلوات فقال: "التحيات لله والصلوات" فقدم ذكر التحيات على الصلوات؛ لأن التحية تتقدم على غيرها من عبارات الثناء والتمجيد.

** قوله: "لله" أي الله مختص بها، ومستحق لها سبحانه، وهي تفيد وجوب إخلاص العبادة له وحده، ولهذا -والله أعلم- قدمت بعد قوله "التحيات" فقال:" لله " ثم عطف عليها غيرها من "الصلوات والطيبات"، فَسِرُ هذا التقديم يكمن في وجوب الإخلاص وأهميته.

يقول الإمام ابن القيم

ولما كان من عادة الملوك أن يحيوا بأنواع التحيات من الأفعال والأقوال المتضمنة للخضوع لهم، والذل، والثناء عليهم وطلب البقاء، والدوام لهم، وأن يدوم ملكهم.

فمنهم: من يحيّي بالسجود، ومنهم من يحيي بالثناء عليه، ومنهم من يحيي بطلب البقاء والدوام له، ومنهم من يجمع له ذلك كلّه فيسجد له، ثم يثني عليه، ثم يدعي له بالبقاء والدوام.

وكان الملك الحق المبين، الذي كل شيء هالك إلا وجهه سبحانه أولى بالتحيات كلِّها من جميع خلقه، وهي له بالحقيقة وهو أهلها؛ ولهذا فُسرت التحيات بالملك، وفسرت بالبقاء والدوام، وحقيقتها ما ذكرته، وهي تحيات المُلك والمَلِك والمليك.

فالله سبحانه هو المتصف بجميع ذلك، فهو أولى به فهو سبحانه المَلك، وله المُلك، فكل تحية تحي بها ملك من سجود أو ثناء، أو بقاء، أو دوام فهي لله على الحقيقة؛ ولهذا أتى بها مجموعة معرَّفة بالألف واللام إرادة للعموم، وهي جمع تحية، تحيا بها الملوك، وهي "تُفعُلة" من الحياة فإذا كان أصلها من الحياة، والمطلوب منها لمن تحي بها دوام الحياة، فذلك جميعه لا ينبغي إلا لله الحي القيوم الذي لا يموت.

 

جمع وترتيب

د/ خالد سعد النجار

alnaggar66@hotmail.com

 

خالد سعد النجار

كاتب وباحث مصري متميز