صراع الدِّيَكة الهرِمَة...

منذ 2020-11-04

إن سقوط الرمز الأمريكي وانكشاف الضعف الداخلي وأنه كيان غير متماسك سيؤدي إلى فترة تنشغل فيها أمريكا بنفسها وعلى الجميع وضع هذا في الحسبان فالعالم يعيش مرحلة إعادة تموضع للقوى المؤثرة الجديدة والسابقة

الحمد لله ربِّ العالمين، والصَّلاة والسَّلام على نبينا محمَّد وعلى آله وصحبه، وبعد:

قبيل بدء الحملات الانتخابية تداولت وسائل الإعلام بكثافة صعوبة نزول ترامب للدرج في إحدى المناسبات، وكذلك عجـزه عن شرب الماء بيد واحدة واضطراره لاستعمال اليد الأخرى أيضاً في رفع الكأس إلى فمـه، وكَثُر الحديث: هل هي جلطة أو كِبَر سنٍّ؟ ومن جانب آخر نُشِرت صورتان واحدة لترامب يشرب بيديه، وأما الأخرى فلمنافسه الديمقراطي الذي يشرب بيد واحدة... نعم، إنه الأقوى والأكثر شباباً! ولكن نسُوا أنه كثر الحديث عن كثرة نسيان (بايدن) وأنه على أبواب الخرف!

وهو ما يجعلنا أمام حالة بائسة للنظام الديمقراطي عندما يفقد حيويته؛ فالناخب المسكين أمام خيارين أحلاهما مُرٌّ، فبينما ترامب ينحدر من عائلة ثرية من أصل ألماني تعمل في مجال صالات القمار وما يتبعها من تجارة الخمور والنوادي الليلية وهي بيئة كثيرة فيها المشاكل والصراعات؛ ولهذا نلاحظ القدرات الفطرية لترامب في مجال الملاسنات وكسر المنافسين، بل حتى سهولة التخلص من المساعدين الذين لا يروقون له؛ إذ إنه غالباً ما يختار الأشخاص لشغل المناصب المهمة على أساس تحقيق هدف مرحلي، ولذا ففـريق الرئيس عُرْضَةٌٌ للتغير المستمر؛ فمثلاً الرئيس ممكن أن نصفه بأنه عنصري أبيض هاجر جده إلى أمريكا ومع ذلك يرفع الراية ضد المهاجرين، وبالطبع فمجال عمله التجاري يؤكد أنه غير متدين ولديه نزعة فردية عالية ولذا فإذا رأيت أنه تزوج مهـاجرة أو أن في فريقه الإداري ملوناً أو نصرانياً متعصباً أو صاحب شخصية مستقلة فاعرف أن وجوده مؤقت واختير لغرض محدد؛ فعلى سبيل المثال اختار ترامب جون بولتون لمنصب مستشار الأمن القومي وهو من صقور تيار المحافظين الجدد وحتى نعرف الصفات التي أهَّلته لهذا المنصب الحساس يحسن بنا الرجوع للصفات التي أطلقها عليه ترامب بعد إقالته؛ من أنه كان «كارثة» في التعامل مع ملف كوريا الشمالية، و «خارج السياق» فيما يتعلق بفنزويلا، ولم يكن على توافق مع مسؤولين على قدر كبير من الأهمية.

وأضاف ترامب في حديثه مع صحفيين بالبيت الأبيض أن بولتون ارتكب أخطاءً منها الإساءة لزعيم كوريا الشمالية كيم جونغ أون، عندما طالبه بأن يحذو حذو «النموذج الليبي» ويسلِّم كلَّ أسلحته النووية. وقال ترامب: «جون بولتون كلفنا الكثير جداً عندما تحدث عن النموذج الليبي... يا للكارثة!»، وأضاف أن بولتون بأسلوبه المتعنت الفظ «لم يكن على توافق مع أناس أعتبرهم في غاية الأهمية في الإدارة». وقال أيضاً: «جون لم يكن يساير ما نفعله». والملاحظ أنه قبيل إقالته كانت المباحثـات مع طالبان وترتيب الخروج من أفغانستان تسير بوتيرة متسارعة وبما أن بولتون يعارض الانسحاب بصورة مطلقة فقد تم استبعاده من حضور الاجتماعات، وهو ما سبب الضيق الشديد له حتى أنه قابل ترامب مساءً وعرض عليه أنه يفكر بالاستقالة فرفض ترامب الفكرة وأوحى إليه أنه بحاجة إليه، وفي الصباح اكتشف بولتون تغريدة ترامب بإقالته لعدم أهليته أو لنقل انتهاء دوره. وكان رد بولتون بأن نشر كتاباً باسمه يهاجم فيه ترامب وأنه غير مؤهل لقيادة أمريكا وساق عدة مواقف تدل على ما يرى أنه جهل ترامب وعدم نزاهته، والمحصلة أن كل ما قاله معروف ومتداول ولكن رغبته بالانتقام من الإهانة ستُضعِف تأثير الكتاب.

وحالياً يعقد ترامب في أوكلاهوما أول اجتماع انتخابي في صالة مغلقة خوفاً من المتظاهرين ضد العنصرية؛ وكان أهم حدث وأكبر إنجاز هو شربه كأس ماء بيد واحدة، ووصف مناصريه الذين حضروا بالمحـاربين، والحقيقة أن الحملة الانتخـابية ستكون شرسة ولكنَّ خصمه الرئيسي هم المتظاهرون الذين سيلاحقونه في كل مكان وكذلك الإعلام المعادي له والمصيبة الكبرى التي يخاف منها الجمهوريون أن يفقد الرئيس قدرته على الاستمرار في الحملة من الناحية الصحية فحركة يده اليمنى ستكون تحت المجهر والمنقذ الوحيد له هو انكشاف تردي الحالة الصحية أو العقلية لغريمه جون بايدن الذي لا يجاري ترامب في قوة الشخصية والقدرة على التأثير؛ فهو على الحقيقة أكبر هدية لترامب؛ فاختيار الحزب الديمقراطي له كان خطأً فادحاً؛ فبايدن الذي فشل في التعرف على زوجته أمام الجماهير لن يكون ندّاً حقيقيّاً لترامب وسيكون الصراع الانتخابي الحالي مجتمعياً يشبه الانتخابات التي جرت قبيل الحرب الأهلية؛ فبدلاً من شعار تحرير العبيد أصبح الشعار الجديد «حياة السود تهمنا» وهو شعار يزعج التيار الداعم لترامب، وتهديد المتظاهرين باستخدام القوة ووصفهم بالكلاب لا يكفي للتصدي لهم وحتى استمرار البيض بالتلويح بالسلاح في هذه الظروف قد يؤدي إلى صبغ الانتخـابات الأمريكية باللون الأحمر وتحولها إلى ما يشبه صراع الديكة التي تنتهي عادة بموت أحد المتنافسين، والأخطر أن حال الهرمين قد لا تسمح لهما باستمرار النزال.

إن الحركة الاحتجاجية ضد العنصرية والإقصاء وعسكرة الشرطة لا يستوعبها طرح الحزبين؛ فلا بد من ظهور زعامات جديدة تدير المرحلة المقبلة والتي ستكون حاسمة في أمريكا الجديدة؛ وهل سيبقى لونها أبيضَ ناصعاً وهو ما يعني استمرار دورها الاستعماري العالمي، أم ستتلون بما يكفي لدخولها في مرحلة انكفاء لترتيب البيت الداخلي؟ والحل الأخير - وهو مستبعد - دخول الولايات المتحدة في مرحلة التفكك وانهيار النظام الفيدرالي.

إن سقوط الرمز الأمريكي وانكشاف الضعف الداخلي وأنه كيان غير متماسك سيؤدي إلى فترة تنشغل فيها أمريكا بنفسها وعلى الجميع وضع هذا في الحسبان فالعالم يعيش مرحلة إعادة تموضع للقوى المؤثرة الجديدة والسابقة، وسنكون أمام صراعات قيمية وعسكرية واقتصادية سيكون العالم الإسلامي فيها أمام مفترق طرق خطير؛ فالصراع سيكون فوق أرضه وعلى ثرواته وقيمه ومن ثَمَّ فنتائج هذا الصراع ستكون ملموسة ومشاهَدة، ومن لا ينجح في قراءة المرحلة وكيفية التعامل معها فستتجاوزه الأحداث وتجرفه. وإذا كانت الأمة باقية إلى قيام الساعــــة - وهذه فرصة تحول - فَلْيحرص كلُّ فرد أو جماعة أو كيان أن يكون في صف أمته التي بدأت ملامحها بالظهور. عن تَميم الداري رضي الله عنه قال: سمعتُ رسول الله # يقول: «ليَبْلغنَّ هذا الأمرُ ما بلغ الليلُ والنهارُ، ولا يترك اللهُ بيت مَدَر ولا وَبَر إلا أدخله الله هذا الدين، بعِزِّ عزيز أو بذُلِّ ذليل، عزاً يُعِزُّ الله به الإسلام، وذُلاً يُذل الله به الكفر». وكان تميم الداري يقول: قد عرفتُ ذلك في أهل بيتي، لقد أصاب مَن أسلم منهم الخير والشرف والعز، ولقد أصاب من كان منهم كافراً الذل والصَّغَار والجِزية[1].

 

 
 

 


[1] رواه أحمد.