ملامح من الإعجاز البياني في ضوء القراءات القرآنية
منذ 2020-11-24
لا يخفى على أحدٍ منَّا وفرة الدراسات البيانيَّة التي تناولت إعجاز القرآن من حيث نظمُه وأداؤه التعبيري. وأود في هذا البحث أن ألفت أنظار الباحثين والمهتمين بدراسات إعجاز القرآن إلى جانب عَزّتْ فيه الدِّلاء، ونَدَرَت الأقلام، وقَلّت التأملات، وهو جانب الإعجاز البياني في ساحة القراءات القرآنية المتواترة
لا يخفى على أحدٍ منَّا وفرة الدراسات البيانيَّة التي تناولت إعجاز القرآن من حيث نظمُه وأداؤه التعبيري. وأود في هذا البحث أن ألفت أنظار الباحثين والمهتمين بدراسات إعجاز القرآن إلى جانب عَزّتْ فيه الدِّلاء، ونَدَرَت الأقلام، وقَلّت التأملات، وهو جانب الإعجاز البياني في ساحة القراءات القرآنية المتواترة، ولا سيما أن علماءنا كافة يقرون بسلامتها، وصحة سندها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وإذا كان علماء البيان، قد خدموا جوانب الإعجاز التعبيري المختلفة، التي تلتقي عليها القراءات القرآنية المتواترة، وذلك في الدراسات السالفة والمعاصرة، وكتبوا في روعة نظمها وأسلوبها وأسرار اختيار الحروف والكلمات، إذا كان علماء البيان قد فعلوا كل ذلك فإن مجال الكتابة والتأمل على ضفاف الجانب الجمالي الأدبي في القراءات كلٍ على حِدَة هو لون جديد من ألوان إعجاز هذا الكتاب الخالد؛ لأنه إذا كان معجزاً في بيانه الراقي عندما تلتقي القراءات على أداء ألفاظ الآية فإن هذا الاعجاز الجمالي يمتد ويمتد، حتى إنه ليدخل في نسيج كل قراءة بمفردها. وحبذا لو عُني المتخصصون بإبراز هذا الجانب الذي يتصل بأغوار اللغة والبلاغة أكثر ممَّا يتصل باختلاف اللهجات العربية.
وإذا كانت هذه القراءات كلها في الأصل للتيسير على العرب الذين تلقَّوا هذا القرآن، حيث كانوا ذوي لهجات ولغات متعددة، فإن حكمة الله قد اقتضَتْ أن يكون في هذه القراءات حِكَمٌ أخرى كثيرة، منها في هذا المقام أن تدلَّ من ناحيةٍ على صيانة كتاب الله وحفظه من أي تحريف وتبديل، مع كونه يتلى على أوجهٍ كثيرة. ومَنْ يطالعْ في كتب القراءات يعجبْ لهذه الدقة، والإحاطة برواياته وأدائه، على الرغم من تنوُّع طرق الأداء فيه، فقد سُجِّلَتْ هذه الطرق ووُصِفت على نحوٍ دقيق مبوب منظم. أليس في هذا دليل على أفق من آفاق الآية الكريمة: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [1] ومن ناحية ثانية اقتضت حكمة الله أن يكون مع هذا الاختلاف في الأداء والقراءة ضروبٌ جديدة من الجمال والبلاغة يمتلكها كلُّ وجه من وجوه هذه القراءة، فيمتد الإعجاز وتتعاظم صوره، ويومئذ يفرح المؤمنون بهذا العطاءِ الرحبِ الفسيح وتطمئن قلوبُهم به.
وأودّ هنا أن أنبه إلى ضابطين ضروريين في هذا السياق وهما:
وإذا كان علماء البيان، قد خدموا جوانب الإعجاز التعبيري المختلفة، التي تلتقي عليها القراءات القرآنية المتواترة، وذلك في الدراسات السالفة والمعاصرة، وكتبوا في روعة نظمها وأسلوبها وأسرار اختيار الحروف والكلمات، إذا كان علماء البيان قد فعلوا كل ذلك فإن مجال الكتابة والتأمل على ضفاف الجانب الجمالي الأدبي في القراءات كلٍ على حِدَة هو لون جديد من ألوان إعجاز هذا الكتاب الخالد؛ لأنه إذا كان معجزاً في بيانه الراقي عندما تلتقي القراءات على أداء ألفاظ الآية فإن هذا الاعجاز الجمالي يمتد ويمتد، حتى إنه ليدخل في نسيج كل قراءة بمفردها. وحبذا لو عُني المتخصصون بإبراز هذا الجانب الذي يتصل بأغوار اللغة والبلاغة أكثر ممَّا يتصل باختلاف اللهجات العربية.
وإذا كانت هذه القراءات كلها في الأصل للتيسير على العرب الذين تلقَّوا هذا القرآن، حيث كانوا ذوي لهجات ولغات متعددة، فإن حكمة الله قد اقتضَتْ أن يكون في هذه القراءات حِكَمٌ أخرى كثيرة، منها في هذا المقام أن تدلَّ من ناحيةٍ على صيانة كتاب الله وحفظه من أي تحريف وتبديل، مع كونه يتلى على أوجهٍ كثيرة. ومَنْ يطالعْ في كتب القراءات يعجبْ لهذه الدقة، والإحاطة برواياته وأدائه، على الرغم من تنوُّع طرق الأداء فيه، فقد سُجِّلَتْ هذه الطرق ووُصِفت على نحوٍ دقيق مبوب منظم. أليس في هذا دليل على أفق من آفاق الآية الكريمة: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [1] ومن ناحية ثانية اقتضت حكمة الله أن يكون مع هذا الاختلاف في الأداء والقراءة ضروبٌ جديدة من الجمال والبلاغة يمتلكها كلُّ وجه من وجوه هذه القراءة، فيمتد الإعجاز وتتعاظم صوره، ويومئذ يفرح المؤمنون بهذا العطاءِ الرحبِ الفسيح وتطمئن قلوبُهم به.
وأودّ هنا أن أنبه إلى ضابطين ضروريين في هذا السياق وهما:
1 – ليس من منهجنا عَقْدُ العزم على تفضيل قراءة متواترة على غيرها، تفضيلاً يغضُّ من شأن الأولى أو الثانية، التي نعرض لأسرار أدائها. وقد رُوي عن الإمام أبي العباس ثعلب أنه قال:
"إذا اختلف الإعراب في القرآن عن السبعة لم أُفَضِّلْ إعراباً على إعراب في القرآن، فإذا خرجْتُ إلى كلام الناس فضَّلْتُ الأقوى"[2].
ونودُّ أن نكشف عن الجمال التعبيري في القراءات القرآنية غيرِ قراءة حفص عن عاصم المشهورة اليوم في العالم الإسلامي. ونحن إذا انتوينا ذلك، فليس من مقصودنا أن نشير إلى أن قراءة حفص هذه لا تملك من عوامل الإعجاز البياني والجمال التعبيري لدى موازنتها بغيرها.
معاذ الله أن يقول هذا ذو قلب بصير بمواطن البيان وأطايب الكلام، فالإعجازُ في كل قراءةٍ أمرٌ ملموس. وسبحانَ الله الذي جعل في كتابه على تنوع طرق أدائه لمفرداته روعةً وحسناً وجمالاً ونكهة. فأنت إذاً أمام حديقة غنَّاء، فيها من مُعْجب الورود والرياحين والأزهار، فتأخذ الحيرةُ لُّبَّك، والدهشةُ فؤَادَك، فلا تدري ماذا تجني، وماذا تشمُّ، وماذا تقطف، فكل قراءةٍ وردةٌ متناسقة الأكمام، طيبة الرائحة، شهية الجنى. وهذا المجال كما قلت رحب فسيح، ألفت نظر الباحثين والمختصين إليه، لعلهم يضيفون إليه جديداً رائقاً؛ لنصل في مطافنا هذا إلى يقين راسخ – إن شاء الله – بأن هذا الكتاب لا تنقضي عجائبه، ولا يقف عطاؤه في محيط دائرة لا يتعدَّاها. وفي هذا جانب يمكن أن يَفيدَ منه الدعاة، فيكون لهم مجال جديد للقول والاستدلال على مصدره.
2 – أما الضابط الثاني فيتعلق بمنهج هذه الدراسة، حيث يتمثل في المحافظة على منطوق اللغة، وحدودها، وطاقتها التعبيرية، والابتعاد عن التكلف، الذي لا تُقِرُّه دائرة اللغة نفسها، وذلك لأن المتأمِّل في هذا الجانب، ينبغي له أن يبقى في محيط العطاء، الذي يمنحه نسيج اللغة، وعبقها الذي تتنفس من خلاله.
ونودُّ أن نكشف عن الجمال التعبيري في القراءات القرآنية غيرِ قراءة حفص عن عاصم المشهورة اليوم في العالم الإسلامي. ونحن إذا انتوينا ذلك، فليس من مقصودنا أن نشير إلى أن قراءة حفص هذه لا تملك من عوامل الإعجاز البياني والجمال التعبيري لدى موازنتها بغيرها.
معاذ الله أن يقول هذا ذو قلب بصير بمواطن البيان وأطايب الكلام، فالإعجازُ في كل قراءةٍ أمرٌ ملموس. وسبحانَ الله الذي جعل في كتابه على تنوع طرق أدائه لمفرداته روعةً وحسناً وجمالاً ونكهة. فأنت إذاً أمام حديقة غنَّاء، فيها من مُعْجب الورود والرياحين والأزهار، فتأخذ الحيرةُ لُّبَّك، والدهشةُ فؤَادَك، فلا تدري ماذا تجني، وماذا تشمُّ، وماذا تقطف، فكل قراءةٍ وردةٌ متناسقة الأكمام، طيبة الرائحة، شهية الجنى. وهذا المجال كما قلت رحب فسيح، ألفت نظر الباحثين والمختصين إليه، لعلهم يضيفون إليه جديداً رائقاً؛ لنصل في مطافنا هذا إلى يقين راسخ – إن شاء الله – بأن هذا الكتاب لا تنقضي عجائبه، ولا يقف عطاؤه في محيط دائرة لا يتعدَّاها. وفي هذا جانب يمكن أن يَفيدَ منه الدعاة، فيكون لهم مجال جديد للقول والاستدلال على مصدره.
2 – أما الضابط الثاني فيتعلق بمنهج هذه الدراسة، حيث يتمثل في المحافظة على منطوق اللغة، وحدودها، وطاقتها التعبيرية، والابتعاد عن التكلف، الذي لا تُقِرُّه دائرة اللغة نفسها، وذلك لأن المتأمِّل في هذا الجانب، ينبغي له أن يبقى في محيط العطاء، الذي يمنحه نسيج اللغة، وعبقها الذي تتنفس من خلاله.
من هذه النماذج التي اختَرْتُها، قراءة حمزة[3] {فلا تعلم نفس ما أَخْفِيْ لهم مِنْ قُرّة أَعْين} حيث ورد الفعل مستقبلاً، وربنا عزوجل يخبر بهذا الفعل عن نفسه. وقرأ باقي القراء بالفعل الماضي المبني للمجهول ((أُخْفِيَ لهم)). يلاحظ البلاغيون أن الفعل المضارع ينطوي على حياة ورونق. فهو من ناحية يُشْعِر بالحركة المتجددة من صنوف النعيم المخبوء. ففي كل يوم من أيام القيامة يكشف الله عزوجل عن خفاء، وما يكشفه اليوم غيرُ ما يكشفه غداً. وتبقى النفس المؤمنة تطمع في المزيد؛ لتُرْوِيَ غليلها، بما يخفيه لها ربُّها عزوجل، من أَطايبَ ونفائس، فتقَرَّ عينُها بذلك المَخْفيّ المتجدد المستمر في عطائه الجزيل. ومن ناحية ثانية يحقق الفعل المضارع ((أُخفيْ)) انسجاماً مع الفعل المضارع الذي قبله، المتصل به، وذلك لأن قراءة حمزة {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ . فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ}فيكون ثمة توافق بين المضارع الأول ((ينفقون)) والمضارع الثاني ((أُخْفِي)) كما يكون ثمة جزاء مستمر متجدد في نسيج المضارع، ذي الفعل الربَّاني ((أُخْفِيْ)) في مقابل المضارع ذي الفعل البشري ((ينفقون)). ومن ناحية ثالثة: يقوي إخبار الله تعالى عن نفسه، أن قبله إخباراً عنه سبحانه في قوله: {وَلَوْ شِئْنَا لآَتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لأَِمْلَأَنَّ}[4] وفي قوله: ((إِنَّا نَسِينَاكُمْ)) وفي قوله: ((بِآيَاتِنَا)) فكلُّ هذا إخبارٌ من الله عن نفسه، فجرى ما بعده عليه.
* * *
وقرأ نافع {وَأَلْقُوهُ فِي غياباتِ الْجُبِّ}[5] بالألف جمع غيابة، وقرأ الباقون ((غيابة)) بالإفراد، والسياق القرآني حسب القراءة بالجمع يشير إلى أن البئر لها غَيابات متعددة، لأن لكل جزء منها غَيابةً، والمراد ظلمات البئر ونواحيها المتعددة فكان الجمع لمراعاة ذلك. إخوة يوسف في مرحلة الوصول إلى البئر في رحلة الحسد والبغضاء موتورون، امتلؤوا غيظاً وتِرة، وتفجَّروا حقداً وغضباً، وهم الآن قد تَمكَّنوا من أخيهم، والسبيلُ مُيَسَّر إلى إرواء ما يعتمل في القلوب والصدور، فكان قرارهم بعد ذلك بإلقائه في هذه الغيابات السحيقة. أجل إنها غيابات؛ لأنها أحقاد تراكمية مجتمعة، وجَمْعُ الغَيابة في هذا السياق يناسب الأشكال السوداء، من الحالة النفسية، التي تتمَطى وتتثاءب فيهم، لقد تصوروها غَياباتٍ امتداداً للغَيابات التي تجثم في ذاكرتهم، من الحسد المتجدد، والغضب الدائم. فبالله عليك يا من تُمْسك بيد يوسف لا تكتفي برميه في البئر، وإنما تود لو ترميه في غياباتها، في أعماقها، في ظلماتها المتعددة، فلعلَّ في هذا شفاءً لما في الصدور، وبَلْسماً لما في القلوب، وبذلك لن تراه عيوننا فيما نستقبل. وهكذا توافق التعبير اللفظي مع الخلجات النفسية المتصاعدة، في هذا الجمع الغنيّ الثر. ثم إن كل ما غاب عن النظر من الجب يُعَدُّ غَيابة، وذلك أشياء كثيرة.
وقرأ أبو عمرو: {وما نراك اتَّبعك إلا الذين هم أراذلُنا بادئَ الرأي} [6] منْ بَدَأت بكذا، ومعناها: أوَّلَ الرأي. وقرأ غير أبي عمرو ((باديَ)) من غير همزٍ، من بدا يبدو، أي: ظهر. والمعنى على قراءة أبي عمرو: أن قوم نوح قالوا له: ما نراك اتبعك إلا أراذلُنا في بادئ رأيهم، من غير أن يتأمَّلوا أمرك أو يتدبَّروه؛ لأنهم إنْ فكَّروا في دينك تردَّدوا في اتباعك. والمعنى على قراءة الجماعة: اتبعوك في ما ظهر لهم من آرائهم. وفي ضوء قراءة أبي عمرو ينقل لنا القرآن الكريم موقف قوم نوح على طريقته في التصوير الفني الدقيق. فهم قوم عمَّهم الغيظ، وشحنَتْهم البغضاء، فكانوا يختلقون الأكاذيب والإشاعات على هذا النبي الكريم؛ ليقللوا من شأن دعوته، ويزهِّدوا الناس فيها. فمَنْ أولئك الذين اتبعوه؟ إنهم أولاً أراذل القوم وسفلتهم، وهم ثانياً اختاروا طريقتك يا نوح، من غير أن يتقدموا نحو أغوار الفكر والتأمل أشواطاً بعيدة، فرأيُهم إنْ كان فطيراً فلا عجب يا نوح؛ لأنهم لم يجربوك ولم يَخْبَرُوك، وكثيراً ما يتهم الإنسان بصره الحسي، عندما يفتحه بعد رقاد طويل؛ فإذا ما تأمَّل المشهد ووعى عرف الحقيقة.
وكثيراً ما يندم المرء على قرار اتخذه ولكنه يعترف أنه قرار مبني على بادئ الرأي. ولقد علقَتْ أفكارهم بدعوتك من الوهلة الأولى فحسب، من غير سابق تجربة، وأساسِ فهم ورويَّة. ومن المعلوم أن القراراتِ التي يتخذَها الرجل من غير نظرة كلية شاملة قراراتٌ سريعة فطيرة. وعندي أن ثمة مذاقاً في هذه القراءة يختلف عن مذاق القراءة الثانية؛ لأن قراءة غير أبي عمرو معناها اتبعوك في ظاهر رأيهم. وفرقٌ بين الإنسان عندما يعطي قراءة بعدما شهده من ظاهر الأمور التي يتعامل معها، وبين القرار السريع الخفيف. فالحكم المبني على الظاهر قد يستدعي التأمُّلَ في هذا الأمر الظاهر، كما يستدعي تقليب وجهات النظر والتشاور مع الآخرين، وهذا لا يتوافر في القرار المبني على بادئ الرأي، وسياقُ الآية سياق ذم وحقد وبغضاء وهذا الجانب تكشفه قراءة أبي عمرو التي تستوعب هذه الانفعالات النفسية، وهي تتكامل مع القراءة الأخرى التي تكشف جانباً آخر من انفعالاتهم النفسية.
وصور التلاؤم الصوتي والتناسب اللفظي في القراءات القرآنية كثيرة. ومن المعلوم أن هذه الألوان مما ترتاح إليه النفس العالمة بأسرار الفن التعبيري، ومفاتيح الجمال، التي تشارك في رونق الاداء وطلاوته، وذلك لأنها تعنى بتنظيم الألفاظ والجمل والنظم على نحوٍ هندسي، يحقق المزاوجة، ويراعي التساوق، فتتلو الآية الكريمة وأنت تحس بأن الكلمة كالطائر الجميل، الذي يعرف أين يحلق؟ ومتى؟ وأين يستقر؟ على نحو معجب رائق.
ومن أمثلة ذلك قراءة حمزة والكسائي وابن عامر:{إنِ الحكُم إلا الله يقضي الحق وهو خير الفاصلين }[7]. وقرأ الباقون ((يقصُّ الحق)) و((يقضي)) مِنْ قضى يقضي إذا حَكَمَ وفَصَلَ، لمراعاة قوله ((وهو خير الفاصلين)) لأنَّ الفصل عادة يكون في ميدان القضاء، واتخاذ الأحكام، وبهذا يكون ثمة تناسق بين صدر الآية وآخرها؛ حيث إنها بدأت بقضاء الحقوق المشروعة من قبل الله عزوجل، وانتهت بالثناء على خير قاضٍ في ميدان القضاء، فليس الحكم الحق المَقْضِيّ إلا لله، وهو خير مَنْ يفصل في الحقوق. فيكون بين أيدينا لفظتان متساوقتان: ((يقضي))، و((الفاصلين))، وذلك في سياق الحكم الذي بدأت به الآية، وبذلك تكون الألفاظ منتقاة تسير على منوال واحد. ومن أمثلة الألفاظ المتناسقة بناء وصياغة في القراءات المتواترة قراءة نافع وابن كثير وابن عامر وأبي عمرو {فالقُ الإصباح وجاعلُ الليل سكناً}، وقرأ الباقون {وجَعَلَ الليلَ سكناً }"[8].
فقراءة نافع ومَن معه من أئمة القراءة ((وجاعلُ الليل)) مبنية على قوله في صدر الآية {فالق الإصباح} فأجرى ((جاعلُ الليل)) على لفظ ما تقدَّمه، إذ أتى في سياقه، فالله عزوجل خالقٌ فجاعلٌ، فهذا تناسق في البناء والصياغة يوحي بالهندسة اللفظية المنظمة، ولا سيما أنَّ مجالَ القدرة والإبداع مجالٌ واحد، وهو المجال الكوني في الأفلاك العلوية. قال الإمام مكي بن أبي طالب[9] ((ويقوي ذلك أن حكم الأسماء أن تُعْطف عليها أسماء مثلها، فكان عطف فاعِل على فاعلٍ)) ومرةً أخرى أذكِّر بنهج هذا البحث في عدم تفضيل قراءة على قراءة بحيث يتعدَّى على قَدْر قراءةٍ متواترة، ولكنها محاولة في فَهْم أسرار كل قراءة على حِدة.
ومن الأمثلة اللطيفة قراءة ابن كثير وأبي عمرو: {إنَّ الذين اتَّقَوْا إذا مَسَّهُم طَيْفٌ من الشيطان تذكَّروا فإذا هم مُبْصرون}[10]. وقرأ الآخرون ((طائف))، وحجة من قرأ طَيْفٌ قولُه تعالى قبل هذه الألفاظ: {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ} ولم يقل ((نازغ))، فالميدان الذي نحن فيه إصابةُ الإنسان بخلل عَقَدي أو حسي، والأسلوب القرآني الشائع أسلوبُ وزنِ ((فَعْل)) نحو ((نَزْغ))، أو أسلوب ((فُعْل)) نحو: {وإذا مَسَّكم الضرُّ} ولم يقل الضار. وفي لغة العرب: ((أصابته نظرةٌ)) ولا يقال: ناظرة. وقوله ((طَيْف)) في القراءة يحتمل أن يكون مصدر طاف يطيف طيفاً، ويحتمل أن يكون اسماً مثل الطائف. وهكذا يتحقق في هذه القراءة التناسق بين الآيتين في مجال الموضوع الواحد: ينزغَنَّك نَزْغٌ ومَسَّهم طَيْفٌ، وهذا التناسق البديع له طاقة فنية، في أي عمل يكون تَوَخّي الإجادةِ والإبداع فيه واضحاً.
ومن أمثلة تحقيق التناسق مع إصابة غرض معنوي آخر قراءةُ أبي عمرو {يوم نَنْفُخُ في الصور ونحشر المجرمين يومئذٍ زُرْقا}[11] وقراءة غيره ((يُنْفَخُ))، ففي قراءة أبي عمرو أخبر الله عزوجل عن نفسه على أن يكون آمراً بذلك النفخ، كما يقول السلطان: نحن نكتب إلى فلان، ومعناه نأمر أحد أعواننا بالكتابة، لا أنه يتولَّى الكتابة بنفسه. وقد أجمع القراء على لفظ الجمع في قوله ((ونحشر)) فحققت قراءةُ أبي عمرو الاتساقَ بين ننفخ ونحشر فيكون الكلام على منظومةٍ واحدة. أما الغرض المعنوي الذي يتحقق في قراءة ((ننفخُ)) فهو المهابة والجلالة، حيث أسند ربنا عزوجل الفعل إلى نفسه؛ لتحقيق هذه الرهبة المقصودة، حيث يُشْعر الفعل ((ننفخ)) بأن الله يتولى مسألة الإشعار ببَدء الوقت المعلوم. فيا ويلَ المجرمين الزرق، الذين ينتظرون مصيرهم المحتوم.
والأمثلة كثيرة متعددة.
وننتقل الآن إلى جانب آخر من الملامح البلاغية المعبرة في القراءات القرآنية، وهو اشتمال إحدى هذه القراءات على بُعْدٍ معنوي هادف. وإذا تلقى القلب البصير المنظومة البيانية التي تشتمل على أكثر من غرض ازداد إعجابه بما يتلقى.
قرأ ابن عامر: {أأذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا واستمتعتم بها فاليوم تجزون عذابَ الهُون}[12] فالفعل بهمزتين: أأَذهبتم، الأولى همزة الاستفهام التوبيخي، والثانية همزة الفعل المسماة بهمزة القطع، والمعنى: أأذهبتم طيباتكم، وتلتمسون الفَرَجَ، فأنى لكم هذا؟ وقرأ الباقون ((أذهبتم)) على الخبر. إن الجزاء الحق في هذا الوقت العصيب ذو ألوان، منه عذاب حي، حيث تشوَى أجسامهم بنار الله الموقدة، ومنه عذاب معنوي، متمثِّل في هذه اللذعات والقوارص التوبيخية، التي يحملها بين طياته هذا الاستفهام الموجع: أأذهبتم طيباتكم، ويُعْرَضُ هذا الاستفهام التوبيخي بصفة أسلوب الخطاب المباشر، فتكون هذه القراءة قد جمعت لهم بين العذابين: الحسي والمعنوي، فيتضاعف العذاب والألم وتتسع دائرتهما.
ومن قبيل أن تحمل القراءة القرآنية بني طياتها بُعْداً آخر ومنحى ثانياً قراءة حمزة: {وجَعَلنا قلوبَهم قَسِيِّة}[13] وقرأ الآخرون ((قاسية)). و((قَسِيَّة)) على وزن فعيلة، وهي صيغة مبالغة، فمثلاً لفظة ((عليم)) تحمل شحنة أكثر مما تحمله عالم، وكذلك ((قَسِيّ)) تحمل أكثر من قاسٍ. فقراءة حمزة تشتمل على ما في قراءة الجمهور من صفة القسوة، وإذا قسا القلب فإن بشاشة الإيمان تخبو. وبما أن الضمير ((نا)) في ((جعلنا)) يعود على رب العزة والجلال فإنه سبحانه يقول: ((وجَعَلْنا)) وهو يرى من بعض صنوف عباده تصرفاً لا يُرضيه، فيقدر لهم من أسباب العقاب ما يستحقونه، وقسوةُ القلب ضرب من هذا العقاب، الذي انتهى بهم إلى الويل. وهذا السياق يناسب صيغ المبالغة، التي عدَّد الصرفيون منها فعيل. فقلوبهم جعلها الله قَسِيَّة بسبب طغيانهم، فهي أكثر من قاسية.
وثمة فَهْمٌ آخر لهذه القراءة، يذكره الإمام أبو زنجلة في كتابه ((الحجة))[14] وهو أن معنى القسيَّة: هي التي ليست بخالصةِ الإيمان، أي قد خالطها كفر، فهي فاسدة، ولهذا قيل للدراهم التي خالطها غش: قَسِيَّة.
وقد تأتي القراءة القرآنية معتمدة على لفظ معين، يفيد تعداد المسائل التي نزلت الآية لتعبر عن مدلولها ووقائعها. فقد قرأ حمزة والكسائي {يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثمٌ كثير ومنافعُ للناس وإثمهما أكبر من نفعهما}[15]، ما السر في لفظة ((كثير)) في هذه القراءة من قوله: إثم كثير؟ أود الآن أن استذكر قوله تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسَرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاَةِ } [16]. فهذه الآية تعدد ضروباً من الإثم الذي سبَّبه الخمر والميسرُ هي: الإيقاع في العداوة والبغضاء، والصدُّ عن ذكر الله، والصدُّ عن الصلاة، فهي إذاً أشياء كثيرة متعددة، ومن هنا جاء الوصف: إثم كثير، والإثم هنا ويُراد به الآثام الكثيرة، فهو واحد في اللفظ ومعناه الجمع، ويدل على ذلك قوله تعالى: {ومنافعُ للناس}، في مقابل إثم كثير، ومن هنا حَسُنَ أن يوصف الإثم بالكثير في قراءة حمزة والكسائي. أمَّا لماذا أجمعوا على قراءة {وإثمهُما أكبرُ من نَفْعِهما} بالباء؟ فالجواب أن الأول في قوله ((إثم كثير)) بمعنى الآثام. وأمَّا الثاني في قوله {وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا} فلفظه ومعناه بالإفراد، يدلُّ على ذلك أنه أتى بالنفع بعده موحداً فقال: أكبر من نفعهما، في حين أتى به قبلاً مجموعاً فقال: {ومنافعُ للناس}ولا عجب من هذه المنظومة الدقيقة المنتقاة؛ فهي من لدن حكيم بصير.
وقرأ حمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُّمُ الأَْيْمَانَ}[17] أي: أوجبتم. فما السرُّ وراء تخفيف الفعل ((عَقَدْتم))، بينما هو في القراءة المتواترة الثانية ((عَقَّدْتم)) بالتشديد، وذلك لأن الكفارة تَلْزَم مَنْ يحنث إذا عقد يميناً بالحَلْف مرة واحدة، كما تلزم من يحلف مرات كثيرة. فعدد مرات الحَلْف هنا لا اعتبار له في الكفَّارة، وباب فعَّل يراد به في الاستعمال الشائع، ترديدُ الفعل مرة بعد مرة، وتكثير مباشرته. فإذا قال القائل: ((عَقَّدْتُ)) سبق إلى ذهن السامع أن الكفَّارة تجب عليه لأنه كرَّر الحَلْفَ، وهذا خلافُ ما عليه الفقهاء. ومن هنا فإن التخفيف في الآية منبه على الحكم الفقهي الذي لا يشترط تكرار الحَلف وترديده، فهذه الكفارة المبنية على الحلف واجبةٌ، سواءً أكررت في يمينك أم لم تكرر، بخلاف مسألة الطلاق مثلاً؛ حيث إن عدد مرات الطلاق واردة في الاعتبار.
وفي أداء التخفيف والتشديد في الأفعال والمشتقات من عالَم القراءات البياني حَكمه وأسرار كثيرة. من ذلك قراءة ابن عامر {لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَْرْضِ}[18] فصيغة فَعَّل هنا تفيد التكرار مرة بعد مرة ولذلك جاء بعده قوله ((بركاتٍ من السماء)) ولم يقل بركة؛ وذلك لأن صيغة ((فَعَّل)) الاستعمال العربي البليغ، تعطي غير ما تعطيه صيغة ((فَعَل)) من الكثرة والتكرار والتعداد.
ومن ذلك قراءة حمزة والكسائي وعاصم في رواية أبي بكر{يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ} [19] وذلك لأنَّ هذا فعل يتردد ويتكرر، ففي كل يوم وليلة تغشية جديدة، فهي مكررة لمجيئها ليلة بعد ليلة. ويتضح هذا جلياً قراءة نافع وابن كثير وأبي عمرو: {ذَلِكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ}[20] بالتشديد؛ وذلك لأن التشديد إنما وقع لتكرر الفعل. فما الفعل المكرر حتى جاء التشديد للتكثير في ((مُوهِّن)).
إنه أولاً قد ثبَّت أقدام المؤمنين بالغيث الغزير، وهو ثانياً قد ربط على قلوبهم وهو ثالثاً قد قلَّل من عدد جيش المسلمين في أعين الكافرين عند القتال، فذلك من الله عزوجل شيءٌ بعد شيء، وحال بعد حال، وفي وقت بعد وقت، فجاء تشديد الفعل لتردُّد هذه العوامل، فكأن الله عزوجل قد أوقع الوهن بكيد الكافرين مرة بعد مرة، ولهذه العلل مجتمعةً قال ((مُوهِّنٌ)).
وفي سياق الحكمة من التشديد والتخفيف في الحروف قراءة الحرميين وأبو عمرو وابن عامر: {حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا}[21] كما ورد في الآية الثانية {مفتحت لهم الأبواب}[22] قال الإمام اليزيدي[23] ((كلُّ ما فُتح مرة بعد مرة فهو التفتيح)) والتفتيح تفعيل مصدر فعَّل فتَّح. وهذا التفتيح الذي يقوم به الملائكة الموكَّلون بالأبواب، مرةً بعد مرة وحيناً بعد حين، يناسب جو البهجة والسرور العميق، الذي يهز قلوب المؤمنين ويناسب درجات ثوابهم الموعود، فلكل طائفة منهم باب محدد، يفتح في وقت معين. والمؤمن الذي يشعر أن بابه الخاصَّ به، سيُفتح في وقت معين، له ولطائفته فحسب، سوف يزداد شعوره بالغبطة والتكريم من الباري عزوجل، فيكون هذا التكريم لوناً من ألوان البهجة المعنوية. ناهيك عمَّا أعدَّ الله لضيوفه في داخل هذه الأبواب.
ويبقى أن نشير إلى أن القراءة القرآنية، قد تراعي من خلال لفظها المنتقى، ما سيق قبل هذا اللفظ من معطيات ومقدمات، تدل على آيات الله في خلقه، وإبداعه، فيكون هذا اللفظ المعين مبنياً على سبب سابق. فقد قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو: {وانظُرْ إلى العظام كيف نُنْشِرُها}[24] والنشر هنا الإحياء، لأنه قال قبل ذلك: {أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا} فالمادة المعروضة المتقدمة، عبارةٌ عن عظام قدَّر الله لها الموت ثم الحياة، والقائل يريد أن يطمئنَّ على مسألةِ إحياء الموتى، فقيل له: انظر كيف نُنْشِرُ العظام، أي نُحْييها. تقول العرب: أنشر الله الموتى. وأما القراءة الثانية ((نُنْشِزُها)) بالزاي، فمعناها كيف نرفع عظام الميت البالية إلى مواضعها، وكيف نركب بعضها على بعض، وهذا أمر يسبق الإحياء الذي هو موضع السؤال، فكأن كل قراءة تكشف جانباً من الجوانب، ثم تتكامل الجوانب كلها في النهاية، وهكذا نرى أن القراءات لا تتفاضل، وإنما تتكامل.
وقرأ أبو عمرو وابن كثير ونافع: {وكأيِّن مِنْ نبيٍّ قُتِل معه ربيون كثير }[25] أي: جموعٌ كثيرة، مقابل قراءةِ الآخرين: ((قاتل معه)). ووجه قراءة نافع ومَنْ معه، أن الآية نزلت في معاتبة مَنْ أدبر عن القتال يوم أحد، حيث قال القائل: قُتِل محمد صلى الله عليه وسلم. فلما تراجعوا كان اعتذارهم أنْ قالوا: سَمِعْنا بقتل محمد، فنزلت الآية: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ}[26] إلى أن قال: {وكأيِّن مِنْ نبيٍّ قُتِل معه ربيون كثير} أي: جموع كثيرة، فما ضَعُفَ الجمعُ، وما تراجعوا، لكن قاتلوا وصبروا، فكذلك أنتم كان يجب عليكم أن لا تَهِنوا لو قُتل نبيكم، فكيف ولم يُقتل؟ فهذه الآية إذن حديث عما جرى عليه سَيْرُ أمم الأنبياء السابقين ليتأسَّوا بهم.
هذه هي المعطيات السابقة، التي تم سوقها في مجال الحرب والقتل، وأسباب النزول الخاصة بمعركة أحد. وبما أن السياق سياق مدح فإنَّ كلاً من القراءتين تثبت جانباً وتوحي به، ثم تتكامل الجوانب كلها بعد ذلك، حتى يتجلى المدح بأبهى صورة، ومعارك الأنبياء السابقة فيها قتال وصبر وثبات وتحمل، وفيها قتل واستشهاد، ولم يؤثر القتل فيهم ويحملهم على الفرار، فقراءة ((قُتِل)) تثبت جانباً بصريح العبارة، وإن كان مضمناً معناه في القراءة الأخرى، وقراءة ((قاتل)) تثبت جانباً آخر، وبالجانبين معاً، بقتالهم وقتلهم في سبيل الله وبرغم هذا فإنهم لم يهنوا ولم يستكينوا، بهذين الجانبين تكتمل لوحة المدح في أبهى صورها.
وقرأ أبو عمرو: {وما نراك اتَّبعك إلا الذين هم أراذلُنا بادئَ الرأي} [6] منْ بَدَأت بكذا، ومعناها: أوَّلَ الرأي. وقرأ غير أبي عمرو ((باديَ)) من غير همزٍ، من بدا يبدو، أي: ظهر. والمعنى على قراءة أبي عمرو: أن قوم نوح قالوا له: ما نراك اتبعك إلا أراذلُنا في بادئ رأيهم، من غير أن يتأمَّلوا أمرك أو يتدبَّروه؛ لأنهم إنْ فكَّروا في دينك تردَّدوا في اتباعك. والمعنى على قراءة الجماعة: اتبعوك في ما ظهر لهم من آرائهم. وفي ضوء قراءة أبي عمرو ينقل لنا القرآن الكريم موقف قوم نوح على طريقته في التصوير الفني الدقيق. فهم قوم عمَّهم الغيظ، وشحنَتْهم البغضاء، فكانوا يختلقون الأكاذيب والإشاعات على هذا النبي الكريم؛ ليقللوا من شأن دعوته، ويزهِّدوا الناس فيها. فمَنْ أولئك الذين اتبعوه؟ إنهم أولاً أراذل القوم وسفلتهم، وهم ثانياً اختاروا طريقتك يا نوح، من غير أن يتقدموا نحو أغوار الفكر والتأمل أشواطاً بعيدة، فرأيُهم إنْ كان فطيراً فلا عجب يا نوح؛ لأنهم لم يجربوك ولم يَخْبَرُوك، وكثيراً ما يتهم الإنسان بصره الحسي، عندما يفتحه بعد رقاد طويل؛ فإذا ما تأمَّل المشهد ووعى عرف الحقيقة.
وكثيراً ما يندم المرء على قرار اتخذه ولكنه يعترف أنه قرار مبني على بادئ الرأي. ولقد علقَتْ أفكارهم بدعوتك من الوهلة الأولى فحسب، من غير سابق تجربة، وأساسِ فهم ورويَّة. ومن المعلوم أن القراراتِ التي يتخذَها الرجل من غير نظرة كلية شاملة قراراتٌ سريعة فطيرة. وعندي أن ثمة مذاقاً في هذه القراءة يختلف عن مذاق القراءة الثانية؛ لأن قراءة غير أبي عمرو معناها اتبعوك في ظاهر رأيهم. وفرقٌ بين الإنسان عندما يعطي قراءة بعدما شهده من ظاهر الأمور التي يتعامل معها، وبين القرار السريع الخفيف. فالحكم المبني على الظاهر قد يستدعي التأمُّلَ في هذا الأمر الظاهر، كما يستدعي تقليب وجهات النظر والتشاور مع الآخرين، وهذا لا يتوافر في القرار المبني على بادئ الرأي، وسياقُ الآية سياق ذم وحقد وبغضاء وهذا الجانب تكشفه قراءة أبي عمرو التي تستوعب هذه الانفعالات النفسية، وهي تتكامل مع القراءة الأخرى التي تكشف جانباً آخر من انفعالاتهم النفسية.
وصور التلاؤم الصوتي والتناسب اللفظي في القراءات القرآنية كثيرة. ومن المعلوم أن هذه الألوان مما ترتاح إليه النفس العالمة بأسرار الفن التعبيري، ومفاتيح الجمال، التي تشارك في رونق الاداء وطلاوته، وذلك لأنها تعنى بتنظيم الألفاظ والجمل والنظم على نحوٍ هندسي، يحقق المزاوجة، ويراعي التساوق، فتتلو الآية الكريمة وأنت تحس بأن الكلمة كالطائر الجميل، الذي يعرف أين يحلق؟ ومتى؟ وأين يستقر؟ على نحو معجب رائق.
ومن أمثلة ذلك قراءة حمزة والكسائي وابن عامر:{إنِ الحكُم إلا الله يقضي الحق وهو خير الفاصلين }[7]. وقرأ الباقون ((يقصُّ الحق)) و((يقضي)) مِنْ قضى يقضي إذا حَكَمَ وفَصَلَ، لمراعاة قوله ((وهو خير الفاصلين)) لأنَّ الفصل عادة يكون في ميدان القضاء، واتخاذ الأحكام، وبهذا يكون ثمة تناسق بين صدر الآية وآخرها؛ حيث إنها بدأت بقضاء الحقوق المشروعة من قبل الله عزوجل، وانتهت بالثناء على خير قاضٍ في ميدان القضاء، فليس الحكم الحق المَقْضِيّ إلا لله، وهو خير مَنْ يفصل في الحقوق. فيكون بين أيدينا لفظتان متساوقتان: ((يقضي))، و((الفاصلين))، وذلك في سياق الحكم الذي بدأت به الآية، وبذلك تكون الألفاظ منتقاة تسير على منوال واحد. ومن أمثلة الألفاظ المتناسقة بناء وصياغة في القراءات المتواترة قراءة نافع وابن كثير وابن عامر وأبي عمرو {فالقُ الإصباح وجاعلُ الليل سكناً}، وقرأ الباقون {وجَعَلَ الليلَ سكناً }"[8].
فقراءة نافع ومَن معه من أئمة القراءة ((وجاعلُ الليل)) مبنية على قوله في صدر الآية {فالق الإصباح} فأجرى ((جاعلُ الليل)) على لفظ ما تقدَّمه، إذ أتى في سياقه، فالله عزوجل خالقٌ فجاعلٌ، فهذا تناسق في البناء والصياغة يوحي بالهندسة اللفظية المنظمة، ولا سيما أنَّ مجالَ القدرة والإبداع مجالٌ واحد، وهو المجال الكوني في الأفلاك العلوية. قال الإمام مكي بن أبي طالب[9] ((ويقوي ذلك أن حكم الأسماء أن تُعْطف عليها أسماء مثلها، فكان عطف فاعِل على فاعلٍ)) ومرةً أخرى أذكِّر بنهج هذا البحث في عدم تفضيل قراءة على قراءة بحيث يتعدَّى على قَدْر قراءةٍ متواترة، ولكنها محاولة في فَهْم أسرار كل قراءة على حِدة.
ومن الأمثلة اللطيفة قراءة ابن كثير وأبي عمرو: {إنَّ الذين اتَّقَوْا إذا مَسَّهُم طَيْفٌ من الشيطان تذكَّروا فإذا هم مُبْصرون}[10]. وقرأ الآخرون ((طائف))، وحجة من قرأ طَيْفٌ قولُه تعالى قبل هذه الألفاظ: {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ} ولم يقل ((نازغ))، فالميدان الذي نحن فيه إصابةُ الإنسان بخلل عَقَدي أو حسي، والأسلوب القرآني الشائع أسلوبُ وزنِ ((فَعْل)) نحو ((نَزْغ))، أو أسلوب ((فُعْل)) نحو: {وإذا مَسَّكم الضرُّ} ولم يقل الضار. وفي لغة العرب: ((أصابته نظرةٌ)) ولا يقال: ناظرة. وقوله ((طَيْف)) في القراءة يحتمل أن يكون مصدر طاف يطيف طيفاً، ويحتمل أن يكون اسماً مثل الطائف. وهكذا يتحقق في هذه القراءة التناسق بين الآيتين في مجال الموضوع الواحد: ينزغَنَّك نَزْغٌ ومَسَّهم طَيْفٌ، وهذا التناسق البديع له طاقة فنية، في أي عمل يكون تَوَخّي الإجادةِ والإبداع فيه واضحاً.
ومن أمثلة تحقيق التناسق مع إصابة غرض معنوي آخر قراءةُ أبي عمرو {يوم نَنْفُخُ في الصور ونحشر المجرمين يومئذٍ زُرْقا}[11] وقراءة غيره ((يُنْفَخُ))، ففي قراءة أبي عمرو أخبر الله عزوجل عن نفسه على أن يكون آمراً بذلك النفخ، كما يقول السلطان: نحن نكتب إلى فلان، ومعناه نأمر أحد أعواننا بالكتابة، لا أنه يتولَّى الكتابة بنفسه. وقد أجمع القراء على لفظ الجمع في قوله ((ونحشر)) فحققت قراءةُ أبي عمرو الاتساقَ بين ننفخ ونحشر فيكون الكلام على منظومةٍ واحدة. أما الغرض المعنوي الذي يتحقق في قراءة ((ننفخُ)) فهو المهابة والجلالة، حيث أسند ربنا عزوجل الفعل إلى نفسه؛ لتحقيق هذه الرهبة المقصودة، حيث يُشْعر الفعل ((ننفخ)) بأن الله يتولى مسألة الإشعار ببَدء الوقت المعلوم. فيا ويلَ المجرمين الزرق، الذين ينتظرون مصيرهم المحتوم.
والأمثلة كثيرة متعددة.
وننتقل الآن إلى جانب آخر من الملامح البلاغية المعبرة في القراءات القرآنية، وهو اشتمال إحدى هذه القراءات على بُعْدٍ معنوي هادف. وإذا تلقى القلب البصير المنظومة البيانية التي تشتمل على أكثر من غرض ازداد إعجابه بما يتلقى.
قرأ ابن عامر: {أأذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا واستمتعتم بها فاليوم تجزون عذابَ الهُون}[12] فالفعل بهمزتين: أأَذهبتم، الأولى همزة الاستفهام التوبيخي، والثانية همزة الفعل المسماة بهمزة القطع، والمعنى: أأذهبتم طيباتكم، وتلتمسون الفَرَجَ، فأنى لكم هذا؟ وقرأ الباقون ((أذهبتم)) على الخبر. إن الجزاء الحق في هذا الوقت العصيب ذو ألوان، منه عذاب حي، حيث تشوَى أجسامهم بنار الله الموقدة، ومنه عذاب معنوي، متمثِّل في هذه اللذعات والقوارص التوبيخية، التي يحملها بين طياته هذا الاستفهام الموجع: أأذهبتم طيباتكم، ويُعْرَضُ هذا الاستفهام التوبيخي بصفة أسلوب الخطاب المباشر، فتكون هذه القراءة قد جمعت لهم بين العذابين: الحسي والمعنوي، فيتضاعف العذاب والألم وتتسع دائرتهما.
ومن قبيل أن تحمل القراءة القرآنية بني طياتها بُعْداً آخر ومنحى ثانياً قراءة حمزة: {وجَعَلنا قلوبَهم قَسِيِّة}[13] وقرأ الآخرون ((قاسية)). و((قَسِيَّة)) على وزن فعيلة، وهي صيغة مبالغة، فمثلاً لفظة ((عليم)) تحمل شحنة أكثر مما تحمله عالم، وكذلك ((قَسِيّ)) تحمل أكثر من قاسٍ. فقراءة حمزة تشتمل على ما في قراءة الجمهور من صفة القسوة، وإذا قسا القلب فإن بشاشة الإيمان تخبو. وبما أن الضمير ((نا)) في ((جعلنا)) يعود على رب العزة والجلال فإنه سبحانه يقول: ((وجَعَلْنا)) وهو يرى من بعض صنوف عباده تصرفاً لا يُرضيه، فيقدر لهم من أسباب العقاب ما يستحقونه، وقسوةُ القلب ضرب من هذا العقاب، الذي انتهى بهم إلى الويل. وهذا السياق يناسب صيغ المبالغة، التي عدَّد الصرفيون منها فعيل. فقلوبهم جعلها الله قَسِيَّة بسبب طغيانهم، فهي أكثر من قاسية.
وثمة فَهْمٌ آخر لهذه القراءة، يذكره الإمام أبو زنجلة في كتابه ((الحجة))[14] وهو أن معنى القسيَّة: هي التي ليست بخالصةِ الإيمان، أي قد خالطها كفر، فهي فاسدة، ولهذا قيل للدراهم التي خالطها غش: قَسِيَّة.
وقد تأتي القراءة القرآنية معتمدة على لفظ معين، يفيد تعداد المسائل التي نزلت الآية لتعبر عن مدلولها ووقائعها. فقد قرأ حمزة والكسائي {يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثمٌ كثير ومنافعُ للناس وإثمهما أكبر من نفعهما}[15]، ما السر في لفظة ((كثير)) في هذه القراءة من قوله: إثم كثير؟ أود الآن أن استذكر قوله تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسَرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاَةِ } [16]. فهذه الآية تعدد ضروباً من الإثم الذي سبَّبه الخمر والميسرُ هي: الإيقاع في العداوة والبغضاء، والصدُّ عن ذكر الله، والصدُّ عن الصلاة، فهي إذاً أشياء كثيرة متعددة، ومن هنا جاء الوصف: إثم كثير، والإثم هنا ويُراد به الآثام الكثيرة، فهو واحد في اللفظ ومعناه الجمع، ويدل على ذلك قوله تعالى: {ومنافعُ للناس}، في مقابل إثم كثير، ومن هنا حَسُنَ أن يوصف الإثم بالكثير في قراءة حمزة والكسائي. أمَّا لماذا أجمعوا على قراءة {وإثمهُما أكبرُ من نَفْعِهما} بالباء؟ فالجواب أن الأول في قوله ((إثم كثير)) بمعنى الآثام. وأمَّا الثاني في قوله {وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا} فلفظه ومعناه بالإفراد، يدلُّ على ذلك أنه أتى بالنفع بعده موحداً فقال: أكبر من نفعهما، في حين أتى به قبلاً مجموعاً فقال: {ومنافعُ للناس}ولا عجب من هذه المنظومة الدقيقة المنتقاة؛ فهي من لدن حكيم بصير.
وقرأ حمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُّمُ الأَْيْمَانَ}[17] أي: أوجبتم. فما السرُّ وراء تخفيف الفعل ((عَقَدْتم))، بينما هو في القراءة المتواترة الثانية ((عَقَّدْتم)) بالتشديد، وذلك لأن الكفارة تَلْزَم مَنْ يحنث إذا عقد يميناً بالحَلْف مرة واحدة، كما تلزم من يحلف مرات كثيرة. فعدد مرات الحَلْف هنا لا اعتبار له في الكفَّارة، وباب فعَّل يراد به في الاستعمال الشائع، ترديدُ الفعل مرة بعد مرة، وتكثير مباشرته. فإذا قال القائل: ((عَقَّدْتُ)) سبق إلى ذهن السامع أن الكفَّارة تجب عليه لأنه كرَّر الحَلْفَ، وهذا خلافُ ما عليه الفقهاء. ومن هنا فإن التخفيف في الآية منبه على الحكم الفقهي الذي لا يشترط تكرار الحَلف وترديده، فهذه الكفارة المبنية على الحلف واجبةٌ، سواءً أكررت في يمينك أم لم تكرر، بخلاف مسألة الطلاق مثلاً؛ حيث إن عدد مرات الطلاق واردة في الاعتبار.
وفي أداء التخفيف والتشديد في الأفعال والمشتقات من عالَم القراءات البياني حَكمه وأسرار كثيرة. من ذلك قراءة ابن عامر {لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَْرْضِ}[18] فصيغة فَعَّل هنا تفيد التكرار مرة بعد مرة ولذلك جاء بعده قوله ((بركاتٍ من السماء)) ولم يقل بركة؛ وذلك لأن صيغة ((فَعَّل)) الاستعمال العربي البليغ، تعطي غير ما تعطيه صيغة ((فَعَل)) من الكثرة والتكرار والتعداد.
ومن ذلك قراءة حمزة والكسائي وعاصم في رواية أبي بكر{يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ} [19] وذلك لأنَّ هذا فعل يتردد ويتكرر، ففي كل يوم وليلة تغشية جديدة، فهي مكررة لمجيئها ليلة بعد ليلة. ويتضح هذا جلياً قراءة نافع وابن كثير وأبي عمرو: {ذَلِكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ}[20] بالتشديد؛ وذلك لأن التشديد إنما وقع لتكرر الفعل. فما الفعل المكرر حتى جاء التشديد للتكثير في ((مُوهِّن)).
إنه أولاً قد ثبَّت أقدام المؤمنين بالغيث الغزير، وهو ثانياً قد ربط على قلوبهم وهو ثالثاً قد قلَّل من عدد جيش المسلمين في أعين الكافرين عند القتال، فذلك من الله عزوجل شيءٌ بعد شيء، وحال بعد حال، وفي وقت بعد وقت، فجاء تشديد الفعل لتردُّد هذه العوامل، فكأن الله عزوجل قد أوقع الوهن بكيد الكافرين مرة بعد مرة، ولهذه العلل مجتمعةً قال ((مُوهِّنٌ)).
وفي سياق الحكمة من التشديد والتخفيف في الحروف قراءة الحرميين وأبو عمرو وابن عامر: {حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا}[21] كما ورد في الآية الثانية {مفتحت لهم الأبواب}[22] قال الإمام اليزيدي[23] ((كلُّ ما فُتح مرة بعد مرة فهو التفتيح)) والتفتيح تفعيل مصدر فعَّل فتَّح. وهذا التفتيح الذي يقوم به الملائكة الموكَّلون بالأبواب، مرةً بعد مرة وحيناً بعد حين، يناسب جو البهجة والسرور العميق، الذي يهز قلوب المؤمنين ويناسب درجات ثوابهم الموعود، فلكل طائفة منهم باب محدد، يفتح في وقت معين. والمؤمن الذي يشعر أن بابه الخاصَّ به، سيُفتح في وقت معين، له ولطائفته فحسب، سوف يزداد شعوره بالغبطة والتكريم من الباري عزوجل، فيكون هذا التكريم لوناً من ألوان البهجة المعنوية. ناهيك عمَّا أعدَّ الله لضيوفه في داخل هذه الأبواب.
ويبقى أن نشير إلى أن القراءة القرآنية، قد تراعي من خلال لفظها المنتقى، ما سيق قبل هذا اللفظ من معطيات ومقدمات، تدل على آيات الله في خلقه، وإبداعه، فيكون هذا اللفظ المعين مبنياً على سبب سابق. فقد قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو: {وانظُرْ إلى العظام كيف نُنْشِرُها}[24] والنشر هنا الإحياء، لأنه قال قبل ذلك: {أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا} فالمادة المعروضة المتقدمة، عبارةٌ عن عظام قدَّر الله لها الموت ثم الحياة، والقائل يريد أن يطمئنَّ على مسألةِ إحياء الموتى، فقيل له: انظر كيف نُنْشِرُ العظام، أي نُحْييها. تقول العرب: أنشر الله الموتى. وأما القراءة الثانية ((نُنْشِزُها)) بالزاي، فمعناها كيف نرفع عظام الميت البالية إلى مواضعها، وكيف نركب بعضها على بعض، وهذا أمر يسبق الإحياء الذي هو موضع السؤال، فكأن كل قراءة تكشف جانباً من الجوانب، ثم تتكامل الجوانب كلها في النهاية، وهكذا نرى أن القراءات لا تتفاضل، وإنما تتكامل.
وقرأ أبو عمرو وابن كثير ونافع: {وكأيِّن مِنْ نبيٍّ قُتِل معه ربيون كثير }[25] أي: جموعٌ كثيرة، مقابل قراءةِ الآخرين: ((قاتل معه)). ووجه قراءة نافع ومَنْ معه، أن الآية نزلت في معاتبة مَنْ أدبر عن القتال يوم أحد، حيث قال القائل: قُتِل محمد صلى الله عليه وسلم. فلما تراجعوا كان اعتذارهم أنْ قالوا: سَمِعْنا بقتل محمد، فنزلت الآية: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ}[26] إلى أن قال: {وكأيِّن مِنْ نبيٍّ قُتِل معه ربيون كثير} أي: جموع كثيرة، فما ضَعُفَ الجمعُ، وما تراجعوا، لكن قاتلوا وصبروا، فكذلك أنتم كان يجب عليكم أن لا تَهِنوا لو قُتل نبيكم، فكيف ولم يُقتل؟ فهذه الآية إذن حديث عما جرى عليه سَيْرُ أمم الأنبياء السابقين ليتأسَّوا بهم.
هذه هي المعطيات السابقة، التي تم سوقها في مجال الحرب والقتل، وأسباب النزول الخاصة بمعركة أحد. وبما أن السياق سياق مدح فإنَّ كلاً من القراءتين تثبت جانباً وتوحي به، ثم تتكامل الجوانب كلها بعد ذلك، حتى يتجلى المدح بأبهى صورة، ومعارك الأنبياء السابقة فيها قتال وصبر وثبات وتحمل، وفيها قتل واستشهاد، ولم يؤثر القتل فيهم ويحملهم على الفرار، فقراءة ((قُتِل)) تثبت جانباً بصريح العبارة، وإن كان مضمناً معناه في القراءة الأخرى، وقراءة ((قاتل)) تثبت جانباً آخر، وبالجانبين معاً، بقتالهم وقتلهم في سبيل الله وبرغم هذا فإنهم لم يهنوا ولم يستكينوا، بهذين الجانبين تكتمل لوحة المدح في أبهى صورها.
وبعدُ فهذا بحر لا ساحل له، بل هذا غيض من فيض وتلك دعوة علمية أسوقُها لأهل العلم والتخصص، لإدلاء الدلاء في هذا الميدان الرحب؛ لتعزيز دراسات الإعجاز، التي تدور حول بلاغة القرآن وأدبه الراقي، في جميع طرق أدائه وقراءاته المتواترة الصحيحة، فيكون في هذه الدراسات دَعْمٌ خصب للجهود السابقة واللاحقة، التي كشفت اللثام عن الجانب البياني والتعبيري، فيما اتفق عليه القراء السبعة. ومن مجموع هذه الدراسات سوف يزداد القلب اطمئناناً، بمصدر هذا الكتاب الخالد، المحفوظ بكل طرق أدائه: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ}[27] ولا ننسى أبداً أهمية ما ينبغي مراعاته من ضوابط، بأن لا يكون منهج البحث تفضيل قراءة على قراءة، بحث يُغَضُّ من شأن جانب على حساب جانب، ومنها أن يكون معيار البحث معتمداً على منطوق اللغة وفهمها. ومن المفيد أن نستأنس بجهود السلف رضوان الله عليهم، في هذه الدراسات.
[1] الحجر (9).
[2] انظر: الدر المصون 1/48.
[3] السجدة (17)، وانظر: السبعة لابن مجاهد 516.
[4] السجدة (13).
[5] يوسف (10). وانظر: السبعة 345.
[6] هود (27). وانظر: السبعة 332.
[7] الأنعام (57) وانظر: السبعة 259.
[8] الأنعام (96). وانظر: السبعة 263.
[9] الكشف 442.
[10] الأعراف (201). وانظر: السبعة 301.
[11] طه (102). وانظر: السبعة 424.
[12] الأحقاف (20). وانظر: السبعة 598.
[13] المائدة (13). وانظر: السبعة 243.
[14] الحج 224.
[15] البقرة (219). وانظر: السبعة 182.
[16] المائدة (91).
[17] المائدة (89). وانظر: السبعة 247.
[18] الأعراف (96). وانظر السبعة 286.
[19] الأعراف (54).
[20] الأنفال (18).
[21] الزمر (71).
[22] ص(50).
[23] الحجة 625. وانظر: السبعة 563.
[24] البقرة (259). وانظر: السبعة 189.
[25] آل عمران (146). السبعة 216.
[26] آل عمران (144).
[27] الآية (17) من القمر.
- التصنيف: