الإسلام دين الإنسانية

منذ 2020-12-05

الجماعة في الإسلام لا تعني الجماعة القريبة أو المنغلقة في وطن أو دين أو عنصر، وإنما هي الجماعة الإنسانية الشاملة.

بعد أن أوضحْنا عقيدة الإسلام في العلاقة بين الفرد ونفسِه، والفردِ وأسرته، نُريد الآن أن ننتقل إلى حلقة أخرى من حلقات التكافل الإسلامي الذي وصفناه بأنه تكافل إنساني شامل، وتشمَل هذه الحلقة ما نُسمِّيه عادةً - في الفكر السياسي - بالعلاقة بين الفرد والجَماعة، فما هو مَوقِف الإسلام من هذه القضية؟

 

وقبل أن تُجيبَ على هذا السؤال فإنَّ ثمَّة سؤالاً آخر يَسبِقه وهو: ما هي مسألة العلاقة بين الفرد والجَماعة من وجهة نظر المذاهبِ السياسيَّة؟ والسؤال حيويٌّ؛ لأنه هو الذي يُحدِّد لنا القضية التي نبحث موقف الإسلام منها، وكأي قضية فإن لها حدودًا ثلاثةً: اثنان منها على طرفَي نقيضٍ، والثالث وسط، وقديمًا قال سقراط: إنَّ الفضيلة في هذا الحدِّ الوسط بين طرفي النقيض اللذين يُعتبر كل منهما رذيلة.

 

وأحدُ الطرفينِ في قضية العَلاقة بين الفرد والجَماعة، وهو ما تقولُ به الرأسمالية الغالية في جوهرِها النظريِّ، من أن الفرد هو الأصل والأساس، وأنه إذا تعارَضت مصلحته ومصلحة الجَماعة، فإن مصلحته مُقدَّمة ومُفضَّلة، والمُجتمعات الرأسمالية عمومًا تُقيم بنيانها الاجتماعي كله على هذه القاعدة، وهذا هو ما يُسمى - في الفكر السياسي - بالمذهب الفردي، وخلاصة هذا المذهب أن كل نشاط في المجتمع موكولٌ بالفرد، وأن مُهمَّة الدولة - التي هي مُمثِّلة الجماعة - تَنحصِر في الدفاع والأمن، ولا يحقُّ لها التدخل في الشؤون الفردية إلا بحذر شديد؛ لأن الأساس في هذا المذهب هو الحرية الفردية الكاملة.

 

والطرف الآخر في هذه القضية يقوم على عقيدة اجتماعية أخرى، وهي أن الجماعة مقدمة على الفرد، وأنه إذا تعارضَت مصالِحُها مع مصلحة فإن مصالحَها هي الأولى، وهذا هو ما يُسمى بالمذهب الشمولي في الفكر السياسي، ويُمكننا أن نُدخِل في حظيرة هذا المذهب النظام الفاشستي والنازي والشُّيوعي، والحرية الفردية في هذا المذهب لا تعني شيئًا؛ لأن الأساس هو الاندِماج في أهدافِ الجَماعة، فإذا كانت الجَماعة عجلةً كبيرةً فإن الفرد ترسٌ فيها، وليس هذا تصغيرًا من شأن الفرد، وإنما المذاهب الشمولية ترى أنه تمجيدٌ له، وتحقيق لمثاليته.

 

والوسط الفاضل بين هذَين الطرفين هو القول بأن الفردية والشمولية طرفان غاليان، وأن أنسب الأشياء هو أن تضمَن للفرد حرياته فيما لا يتعارَضُ مع قدرة الجماعة على الحركة، وأن يُنصَب الميزانُ العادلُ بين حقوق الأفراد تجاه الجماعة، وواجباتهم نحوها، وهذا الميزان له كفتان فيهما الحقوق والواجبات المتبادلة بين الفرد والجماعة، ويجب أن تظل الكفتان متعادلتَين، لا تشول إحداهما ولا تَثقُل الأخرى، فإذا كانت الفردية لا تُقيم وزنًا لقيمة الجماعة إذا تصادمت مع قيمة الفرد، وترى أن الدولة يجب أن تكون في الخِدمة الكاملة للحرية الفردية، فإن الاشتراكية - التي تُمثِّل الحدَّ الوسط - تقيم الميزان بين الفرد والجماعة، ولا تسمح بالتصادم بينها، وإذا تصادما فإنها لا تُغلِّب أحد الطرفين على الآخر، وإنما تُحاول العدل بينهما، وإذا كانت الشمولية مُمثلةً في الفاشستية والنازية والشيوعية، ترى أن الفردَ يجب أن يكون في الخِدمة الكاملة للدولة دون نظر إلى قضية الحرية الفردية، فإن الاشتراكية التي تُمثِّل الحد الوسط ترفض هذا، وتعمد إلى إقامة الميزان وتحقيق التوازن بين الطرفين.

 

وبالطبع فإن المساحة لا تتَّسع لتفصيل القول في هذا الذي أجمَلْناهُ، ويَكفي أن نُشير مثلاً إلى جزئية واحدة، وهي مسألة المِلكية؛ فالرأسمالية التي تُمثِّل الإيمان المطلق بقيمة الفرد تترك الملكيَّة مُطلقَةً بغير قيدٍ، ولكن ما تقف ضده هو الاحتكار الذي يتصادم مع مبدأ المنافسة باعتباره أساسًا أصيلاً في السوق الحُرَّةِ، وعلى النقيض من ذلك العقيدة الشيوعيَّة التي تلغي الملكية الفردية وترى أن ليس للفرد الحق في المِلكيَّةِ، وتَحصر هذا الحق في الجَماعة، وأما الاشتراكية فتَعمد إلى موقف وسطٍ، وهو أن المِلكيَّة حق للفرد وللجماعة معًا، وأن الأمر فيها كالأمر في كل الحدود الوسطى، يقوم على الموازَنةِ بين الحقوق والواجبات، فللفرد أن يَملِكَ، ولكن في حدود، وللجماعة أن تملك أيضًا ولكن بغير طُغيانٍ على حق الملكية الفردية، أو مُحاولة لاستئصاله أو إلغائه.

 

هذه هي أبعاد قضية العلاقة بين الفرد والجَماعة من وجهة نظر الفِكر السياسي، ونظرياته الشائعة، حدَّدناها على عجل حتى نَعرِفَ بعد ذلك موقف الإسلام منها، فما هو موقف الإسلام من قضية العلاقة بين الفرد والجماعة؟

 

بادئ ذي بَدء فإنا نُريد أن نومئ إلى ما يقصده الإسلام من معنى الجماعة، والذي نقوله هو أن الإسلام يَقصد الجماعة الإنسانية الشاملة، ولا يتوقَّف عند الجَماعة القريبةِ من الفرد في بيئته المحدودة، ولا حتى جماعة المسلمين مهما بَعُدت بينهم المسافات، إن الإسلام هنا يحرص على تأكيد معنى الإنسانية الشامل حين يومئ إلى الجماعة، ويعمد إلى توضيح العلاقة بينها وبين الفرد، وهو يَحرِص على أن تكون علاقة الفرد سويةً بهذه الجماعة الإنسانية دون نظر محدود إلى معنى الوطن، أو حتى معنى الدين، فالناس جميعًا سواسيةٌ عنده مهما اختلفت أوطانهم وأديانهم، والإسلام يضع هذا التكافُلَ بين الفرد والجماعة بهذا المعنى في نفس المستوى الذي يضع فيه التكافل بين الفرد وأسرته ويجعله لاحقًا به مُتممًا له؛ {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا } [النساء: 36].

 

وبعد تأكيد هذا المعنى العام يعمد الإسلام العظيم إلى تفصيل العلاقة بين الفرد والجَماعة وتوضيح أبعادها، فليس للفرد في الإسلام أن يطغى على الجماعة، وليس للجماعة أن تطغى على الفرد، وليس من حق أحد الطرفين أن يُلحق الضرر بالآخرِ بمَقولة أن له حقًّا؛ لأن الحق يُقابله الواجب، ولأنه بغير الموازَنةِ العادلة بين الحقوق والواجبات فإن الفرد والجماعة - كليهما - هالكان لا محالة.

 

وليس أبلغ في الدلالة على رفض الإسلام لمنطق الفردية المُطلَقة من هذه الصورة الجميلة التي يرسمها الحديث النبوي الشريف: {إن قومًا ركبوا سفينة، فاقتسموا فصار لكل منهم مَوضِع، فنقَر رجل منهم موضعه بفأسه، فقالوا له: ما تصنع؟ قال: هو مكاني أصنع فيه ما أشاء، فإن أخذوا على يده نجا ونجوا، وإن تركوه هلك وهلكوا}.

 

وهذه الصورة البلاغية الجميلة تُوضِّح لنا أبعاد الموقف الإسلامي من قضية العلاقة بين الفرد والجماعة توضيحًا جيدًا، وهو موقف يقوم على أساس الجَمعِ بين الفردية والجماعية على ساحة الحدِّ الوسط الذي لا يحقُّ فيه لطرف أن يَطغى على الطرف الآخَر؛ فالسفينة ليست ملكًا شائعًا للجماعة، أي إنها ليست ملكيَّةً عامَّة، وإنما هي ملك للأفراد جميعًا، وعليهم أن يتعاونوا فيما بينهم، وبمُقتضى التكامل الواجب بين الملكيات الفردية داخل إطار الجماعة الواحدة، وفي إطار هذا التعاون فليس للفرد أن يصنَعَ ما يشاء بملكيته؛ لأنه إن فعَل ونتَج عن فعله ضرر، لم يهلك وحده، وإنما هلكت الجماعة معه، ومِن ثَمَّ فإن حق الملكية الفردية يقابله واجب وهو عدم الإخلال بالصالح العام، والضرب على أيدي الأفراد العابثين، بمقولة الملكية الخاصة، في صالح هؤلاء الأفراد، كما أنه في صالح الجماعة.

 

ومعنى ذلك - في التحليل النهائي - لا يرضى بسلبِ الأفراد حقوقهم في الملكية، ولا بتحويل الملكية كلها إلى قطاع عام، فلا بدَّ للأفراد من ممارسة حق الملكية؛ لأن هذا يُحفِّزُهم إلى غزارة الإنتاجِ وتجويده والإخلاص فيه، ولكن حين يبدو أن بعض الأفراد يُسيء استخدام الملكية الخاصة للإضرار بالجماعة، فإن للجماعة أن تتدخَّلَ وأن تضرب على يده، وهذا هو التكافل الاجتماعي في أعلى مراتبه، وأسمى آياته، وهذا هو الحدُّ الوسط بين طرفين، كلاهما رذيلة، يلغي أحدهما الملكية الخاصة؛ خشية الإضرار بمصلحة الجماعة، ويُلغي ثانيهما الملكية العامة بمقولة الحق الفردي.

 

ولكن هل يكتفي الإسلام بتقرير التكافل بين الفرد والجماعة سلبًا، بمعنى أن يكفي أحدهما عن تعريض مصالح الآخر للخطر؟

أبدًا، إن الإسلام يتخطى هذه النظرة السلبية، ويصل إلى الفعل الإيجابي، فلا يقف عند ردع الفرد والجماعة عن تبادل الإضرار بالمصالح، وإنما يطالب كلاًّ منهما بما فيه مصلحة الطرف الآخر، إن الفرد - في عقيدة الإسلام - ليس مُطالبًا بالكفِّ عن إيذاء الجماعة، وإنما بالعمل أيضًا لما فيه مصلحتها، وكذلك الجماعة ليست مطالبة بالابتعاد عن الافتئات على حقوق الفرد، وإنما أيضًا بالسهر عليه، والعمل بكل ما له مساس بتنميته، وصيانته، وازدهاره؛ {أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ * فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ * وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ} [الماعون: 1 - 3]، وفي الحديث الشريف: {الساعي على الأرملة والمساكين كالمُجاهِدِ في سبيل الله، وكالذي يقوم الليل ويصوم النهار}، والمعنى المستخلص من هذا أن الجماعة مُكلَّفة بإطعام المساكين، وقضاء حاجات المُعوِزين، وعليها أن تتحاضَّ على ذلك، وتَتنادى إليه، وإلا كانت متجنِّبةً لطريق الإسلام، وحقَّت عليها كلمة الله؛ لأنها بهذا مُنكِرةٌ للدِّين، مُكذِّبة به.

 

وفي الحديث الشريف: «أيما أهل عَرصةٍ أصبح فيهم امرؤٌ جائعًا فقد برئت منهم ذمة الله تبارك وتعالى» بل ماذا تقول؟ إن الأمر في الإسلام العظيم يصل إلى حد مطالبة الأمة بالقتال عند الضرورة ذودًا عن مصالح الضعفاء، وصونًا لكراماتهم؛ {وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ} [النساء: 75].

 

سبحان الله! هل هناك في الفِكر السياسي، أو في الفكر الإنساني بصفة عامَّة، دعوة بمثلِ هذه القوة إلى تضامن الجَماعة مع أفرادها، وإلى صيانة حقوق الضعفاء والمساكين والمُحتاجين منهم؟

 

وبإزاء هذه الحقوق التي تترتب للفرد قبل الجماعة يفرض الإسلام عليه واجبات يتعيَّن عليه أداؤها لمصلحتها، فكل فرد مُكلَّفٌ بإتقان عمله؛ لأن نتيجة هذا تعود في النهاية على الجماعة الإنسانية ككل؛ {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ} [التوبة: 105].

 

وكل فرد مكلف أن يُحاربَ المُنكَرَ من حوله حتى لا تشيع الفاحشة في المجتمع، ويدبَّ الفسادُ فيه، فتتحطَّم قواعده؛ «مَن رأى منكم مُنكرًا فليُقوِّمه بيده، فمن لم يستطع فبلسانه، فمن لم يستطع فبقلبه وهو أضعف الإيمان»، والذين يَسكتون على المُنكَر يُشاركون فيه، وبالتالي يستأهلون عواقبه الوخيمة؛ {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً} [الأنفال: 25]؛ لأن الفتنة عامة للمجتمع كله، ومن ثم فإن كل فرد فيه مُطالب بالضرب عليها، واستئصال حوافزها.

 

وهكذا نصل إلى جوهر العلاقة التي يقيمها الإسلام بين الفرد والجماعة، فهي علاقة تقوم على أساس الموازنة بين الحقوق والواجبات، وبالتالي فإنَّ الإسلام يرفض أن تكون الفردية مدخلاً إلى تحطيم معنى الجماعة، ويرفض أن تكون الجماعة مدخلاً إلى سحق الفرد، وإنما الأمر عنده يقوم على أساس العدل بين الطرفين، ليس فقط من الناحية السلبية التي تمنع تبادُلَ الإيذاء، وإنما أساس من الناحية الإيجابية المتمثِّلة في تبادل المنافع، والحضِّ على عمل كل ما مِن شأنه أن يفيد الطرف الآخر، ويصون دوره في خدمة الحياة الإنسانية بمعناها الشامل؛ {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ } [التوبة: 71].

 

والمؤكَّد الآن أن الفكر السياسي ذهب بعيدًا في تحليل العلاقة بين الفرد والجماعة، ولكنه لم يَصِل بعدُ إلى هذا الصفاء والوضوح والقوة في تحديدها، فلا يكفي أن تُشقشِقَ المذاهب السياسية بعبارات الفردية والجماعية وما إليها، ولا يكفي أن تتناقض في الدعوة إلى فردية مطلقة، أو جماعية ساحقة، وإنما الأساس في الأمر كله أن تُكفَل للفرد حقوقه، وللجماعة حقوقها؛ لأن الجماعة أصلاً لا تقوم إلا بالفرد، كما أن الفرد لا يزدهر إلا في ساحة الجماعة.

 

ثم نُذكِّر بأن الجماعة في الإسلام لا تعني الجماعة القريبة أو المنغلقة في وطن أو دين أو عنصر، وإنما هي الجماعة الإنسانية الشاملة.

___________________________

الكاتب: عبدالفتاح العدوي