حفظ الأموال فى الإسلام

منذ 2020-12-08

إن الكف عن المال الحرام عبادة  «اتق المحارم تكن أعبد الناس، وارض بما قسم الله لك تكن أغنى الناس، وأحسن إلى جارك تكن مسلماً، وأحب للناس ما تحب لنفسك تكن مؤمناً »

أما بعد فيقول رب العالمين سبحانه {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُم مُّدْخَلاً كَرِيمًا}

وعند البيهقى من حديث ابن عمر أن النبى صلى الله عليه و سلم قال « إن الدنيا خضرة حلوة من اكتسب فيها مالا من حله و أنفقه في حقه أثابه الله عليه و أورده جنته و من اكتسب فيها مالا من غير حله و أنفقه في غير حقه أحله الله دار الهوان و رب متخوض فيما اشتهت نفسه من الحرام له النار يوم القيامة يقول الله {كلما خبت زدناهم سعيرا } » .أخرجه البيهقي وضعفه الألباني

أيها الإخوة المؤمنون أحباب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا يزال الحديث موصولاً بحول الله تعالى وعونه عن حقوق الإنسان التى كفلها وضمنها وحفظها الإسلام لجميع بنى آدم كاملة غير منقوصة

وإذا كنا فى لقاء سابق كان حديثنا عن حق ابن آدم فى أن يأمن على نفسه فيكرم ولا يهان ولا تمس نفسه ولا ينتقص منها إلا بحق ..

وكان لنا حديث آخر عن حق ابن آدم فى أن يأمن على عرضه إذ لا يحل المساس بشئ من أعراض العباد إلا فى الحلال بحق الله تعالى وعلى هدى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

فاليوم أيها المؤمنون حديثنا عن حق ابن آدم فى أن يأمن على ماله قال رب العالمين سبحانه ( {وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ } )

حرم الإسلام العدوان على أموال الناس وحرم أكل المال بالباطل فلا يحل لامرئ من مال أخيه إلا ما أعطاه عن طيب نفس منه ورضا..

قَالَ النَّبِيَّ صَلَّى الله عَلَيه وسَلَّم :-

«لاَ يَحِلُّ لاِمْرِئٍ أَنْ يَأْخُذَ عَصَا أَخِيهِ بِغَيْرِ طِيبِ نَفْسٍ مِنْهُ» وَذَلِكَ لِشِدَّةِ مَا حَرَّمَ الله مِنْ مَالِ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ.

أباح الله تعالى لك أن تنتفع بمالك وتنميه وتأخذ منه ما تتنعم به وما تقر به عينك أنت وزوجك وولدك وذوى رحمك تتاجر بمالك فتبيع وتشترى وتتربح فالمال نعمة وزينة كما فى الآية ( { الْمالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَياةِ الدُّنْيا } )

على شرط ألا يكون التعامل فيما يغضب الله تعالى ولا فيما يتأذى منه عباد الله

أقسم الله تعالى فى سورة العاديات بدل المرة خمس مرات على أن محبة المال محفورة فى نفس ابن آدم يتقدم العمر بابنُ آدَمَ فيَهْرَمَ ويضعف وتَشِبُّ منه اثْنَتانِ حب المالِ وحب الحياة فلا يحب ابن آدم أن يفتقر ولا يحب أن يموت أقسم على ذلك العليم الحكيم

{وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا إِنَّ الإِنسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ }

والمعنى أن تعلق قلب ابن آدم بماله وحبه له أكبر من أن يوصف أو يحد

جاء تشريع الإسلام على يد خير الأنام صَلَّى الله عَلَيه وسَلَّم ليعترف ويحترم فى الإنسان هذا الشعور وليصون هذه المحبة حتى أن الشرع أباح لصاحب المال أن يُحصن ماله ويحميه بكل وسيلة أباح الشرع لصاحب المال أن يدافع عن ماله حتى آخر نفس

«أَتَى رَجُلٌ الى النَّبِيَّ صَلَّى الله عَلَيه وسَلَّم فَقَالَ يَا رَسُولَ الله أرأيت الرَّجُلُ يَأْتِينِي يُرِيدُ أخذ مَالِي بغير حق ؟ قَالَ النَّبِيُّ ذَكِّرْهُ بِالله قَالَ الرجل فَإِنْ لَمْ يَذْكُرِ الله ؟ قَالَ النَّبِيُّ اسْتَعِنْ عَلَيْهِ بِمَنْ حَوْلَكَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ قَالَ الرجل فَإِنْ لَمْ يَكُنْ حَوْلِي أَحَدٌ ؟ قَالَ النَّبِيُّ فَاسْتَعِنْ عَلَيْهِ بِالسُّلْطَانِ قَالَ الرجل فَإِنْ كان السُّلْطَانُ عنى بعيداً فما أصنع ؟ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى الله عَلَيه وسَلَّم فَقَاتِلْ دُونَ مَالِكٍ حَتَّى تَكُونَ فِي شُهَدَاءِ الآخِرَةِ أَوْ تَمْنَعَ مَالَكَ» ..

أتى الإسلام بقائمة طويلة من الزواجر ليمتنع العدوان على أموال الناس بالباطل إذ يترتب على العدوان على أموال الناس مفاسد ومساوئ:--

منها ذهاب الإيمان فالسارق حين يسرق ينزع عنه رداء الإسلام كما أكد ذلك النبى صَلَّى الله عَلَيه وسَلَّم

ومن مساوئ العدوان على أموال العباد أنه بمثابه اعتراض على ما قدره الله وقضاه حين خلق الناس وقسم بينهم الأرزاق ..

يترتب على أخذ أموال الناس بسيف الحياء وبلى الذراع فتح لباب الأحقاد والأضغان لتعرف طريقها الى قلوب العباد وفضلاً عن ذلك:-

يمنع عن أهل الأرض خير السماء إذا ظهر وانتشر فيهم العدوان على الأموال بغير حق وينزع الله الرحمة من قلوب حكامهم ويضربهم بالغلاء والوباء والبلاء

قال النبى صلّى اللّه عليه وسلّم وما نقص قوم المكيال والميزان إلا ابتلوا بالسنين وشدة المؤونة وجور السلطان عليهم

لأجل هذا وغيره جاءت الآيات فى كتاب الله تعالى وفى سنة النبى صَلَّى الله عَلَيه وسَلَّم تتكلم بكل وضوح عن أثر العدوان على أموال العباد وتتكلم عن أثر اللقمة الحرام على حسنات ابن آدم وخيراته لئلا يسعد الغشاش ولا المحتال وإن أخذ شيئا قليلاً ولئلا يفرح الغدار ولا الكذاب وإن غصب شيئاً يسيراً

قال النبى صلّى اللّه عليه وسلّم من اقتطع حقّ امرىء مسلم بيمينه فقد أوجب اللّه له النّار وحرّم عليه الجنّة فقال له رجل وإن كان شيئا يسيرا يا رسول اللّه قال صلّى اللّه عليه وسلّم وإن قضيبا من أراك يعنى ولو كان عود سواك ..

يقف العدوان على أموال العباد لأعمال ابن آدم بالمرصاد فيقطع عليها الطريق فلا ترفع ولا تقبل ..

من أكل وشرب وغذى ولبس وسكن من الحرام لم يُسمح لصلاته ولا لصدقته ولا لصيامه ولا لحجه أن يمر .. ذلك أن ربكم سبحانه طيب لا يحب ولا يقبل إلا الطيب ..

قال يوسف بن أسباط رحمه الله إن الشاب إذا تعبد فصلى وصام وقام قال الشيطان لأعوانه انظروا الى ذلك الشاب من أين مطعمه ومشربه فإن كان مطعمه مطعم سوء قال الشيطان لأعوانه دعوه يتعب نفسه ويجتهد فقد كفاكم نفسه إن إجتهاده مع أكل الحرام لا ينفعه ..

ويشهد لذلك ما ثبت في الصحيحين أن النبى صلّى اللّه عليه وسلّم قال «أيّها النّاس إنّ اللّه طيّب لا يقبل إلّا طيّبا وإنّ اللّه أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين فقال» :- {يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ وَاعْمَلُوا صالِحاً إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} وقال «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ» «ثمّ ذكر النبى صلّى اللّه عليه وسلّم الرّجل يطيل السّفر أشعث أغبر يمدّ يديه إلى السّماء يا ربّ يا ربّ ومطعمه حرام ومشربه حرام وملبسه حرام وغذّي بالحرام قال النبى صلّى اللّه عليه وسلّم فأنّى يستجاب لذلك؟»

وبالجملة لا تقف أمام استحلال ما حرم الله من أموال العباد قربة ولا طاعة حتى الشهادة فى سبيل الله يذهب بها قبول الحرام لتبقى كأن لم تكن ..

قال أبو هريرة «خرجنا مع رسول الله يوم خيبر فلم نغنم ذهبا ولا فضة إلا الأموال والثياب والمتاع فأهدى رفاعة بن زيد لرسول الله غلاما يخدمه فتوجه رسول الله إلى وادي القرى حتى إذا كان بوادي القرى قام الغلام يحط رحلا لرسول الله صلّى اللّه عليه وسلّم فبينما هو كذلك جاءه سهم طائش فقتله ففرح الناس باستشهاد ذلك الغلام وقالوا هنيئا له الجنة .. فقال صلّى اللّه عليه وسلّم كلا والذي نفسي بيده إن الشملة التي أخذها يوم خيبر من المغانم قبل أن تقسم لتشتعل عليه الآن نارا فلما سمع الناس ذلك خافوا وجعل الرجل منهم يأتى بشراك قد غله من الغنائم وجعل الرجل منهم يأتي بشراكين ويمسك رسول الله بهما ويقول شراك من نار أو شراكان من نار» ..

شرع الإسلام لحفظ المال وحمايته ومنع الاعتداء عليه أحكامًا كثيرة فحرم قطع الطريق وحرم تخويف الناس وترويعهم وحرم العدوان على الأموال والأنفس وأقام لهم حدًا هو الأشد

{إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ }

وحرم السرقة وأمر بأن يقام الحد على السارق ليأمن الناس شره وليكون عبرة لغيره وذلك قول الله تعالى  {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما جَزاءً بِما كَسَبا نَكالًا مِنَ اللَّهِ}

ومنع الإسلام اتلاف أموال الناس وفى الحديث من أخذ أموال الناس يريد إتلافها أتلفه الله وقرر الفقهاء ضمان الأموال..

وأباح الشرع لمن أُتلف ماله أن يَقبل العِوَضْ ولا حرج عليه وفى الحديث على اليد ما أخذت حتى تؤديه..

نسأل الله تعالى أن يحفظ علينا ديننا الذى هو عصمة أمرنا وأن يحفظ علينا دنيانا التى فيها معاشنا وأن يحفظ لنا آخرتنا التى فيها معادنا

_________________________________

الخطبة الثانية

أما بعد فيأيها الإخوة المؤمنون هكذا تبين لنا من خلال ما سمعناه من نصوص القرآن والسنة أن العدوان على أموال الناس بالباطل يفسد إيمان العبد ويمنع من القبول صلواته وصدقاته ويُذْهب حسناته فى وقت هو أحوج ما يكون إليها

قال النبى صلّى اللّه عليه وسلّم:- «أَتَدْرُونَ مَنِ الْمُفْلِسُ قَالُوا الْمُفْلِسُ فِينَا مَنْ لاَ دِرْهَمَ لَهُ وَلاَ مَتَاعَ قَالَ إِنَّ الْمُفْلِسَ مِنْ أُمَّتِى من يَأْتِى يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِصَلاَةٍ وَصِيَامٍ وَزَكَاةٍ يَأْتِى وقَدْ شَتَمَ هَذَا وَقَذَفَ هَذَا وأَكَلَ مَالَ هَذَا وَسَفَكَ دَمَ هَذَا وَضَرَبَ هَذَا فَيُعْطَى هَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ وَهَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ فَإِنْ فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ من قَبْلَ أَنْ يُقْضَى مَا عَلَيْهِ أُخِذَ مِنْ خَطَايَاهُمْ فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ ثُمَّ يُطُرِحَ فِى النَّارِ »

ومن هنا جاءت نصوص القرآن والسنة ترهب من العدوان على أموال العباد وجاءت نصوص أخرى تحبب وترغب فى العفاف والقناعة

{وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَّحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى}

جاءت نصوص من الآيات فى القرآن والسنة تقول بصريح العبارة :-

إن الكف عن المال الحرام عبادة  «اتق المحارم تكن أعبد الناس، وارض بما قسم الله لك تكن أغنى الناس، وأحسن إلى جارك تكن مسلماً، وأحب للناس ما تحب لنفسك تكن مؤمناً » 

وجاءت نصوص أخرى تبشر من قنع وعف عن المال الحرام بأن الله معه فى شدائده وفى همه وغمه يبدله مكان الهم فرجاً ويجعل له من كل ضيق مخرجا

وفى حديث الثلاثة أصحاب الغار أن صخرة سقطت فسدت عليهم باب الغار حاولوا دفعا فلم يستطيعوا حتى هداهم الله فقالوا تعالوا نستشفع الى ربنا بصالح أعمالنا ذكر منهم النبى رجلاً قال :-

اللهم إنى استأجرت أجراء وأعطيتهم أجرهم غير رجل واحد ترك الذي له وذهب فثمرت أجره حتى كثرت منه الأموال فجاءني بعد حين فقال يا عبد الله أد لي أجري فقلت كل ما ترى من أجرك من الإبل والبقر والغنم والرقيق فقال يا عبد الله لا تستهزئ بي فقلت إني لا أستهزئ بك فأخذه كله فاستاقه فلم يترك منه شيئاً قال الرجل اللهم فإن كنتُ فعلتُ ذلك ابتغاء وجهك فافرج عنا ما نحن فيه قال النبى صلى الله عليه وسلم «فانفرجت الصخرة حتى خرجوا من الغار يمشون» ......

محمد سيد حسين عبد الواحد

إمام وخطيب ومدرس أول.