من حكم الفرس (2)

منذ 2020-12-30

والمشورة هي في مواضع الفكر والاجتهاد وليس فيما أثبتته نصوص الشريعة والأحكام. فهذه محلها الانقياد لها والقول (سمعنا وأطعنا)

{بسم الله الرحمن الرحيم }

روى الدينوري في المجالسة وجواهر العلم، عن ابْنُ قُتَيْبَةَ؛ قَالَ:

قَالَ بَعْضُ حُكَمَاءِ الْفُرْسِ:

(لِلْعَادَةِ سُلْطَانٌ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ)، (وَمَا اسْتُنْبِطَ الصَّوَابُ بِمِثْلِ الْمُشَاوَرَةِ)، (وَلا حُصِّنَتِ النِّعَمُ بِمِثْلِ الْمُوَاسَاةِ)، (وَلا اكْتُسِبَتِ الْبَغْضَاءُ بِمِثْلِ الْكِبْرِ(

 

 (وَمَا اسْتُنْبِطَ الصَّوَابُ بِمِثْلِ الْمُشَاوَرَةِ)

** قال الله تعالى: { {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنْ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ} } [آل عمران:159]

واختلف العلماء لأي معنى أمر الله نبيه بمشاورة أصحابه مع كونه كامل الرأي، تام التدبير، على ثلاثة أقوال:

1/ أحدها: ليستن به من بعده، وهذا قول الحسن، وسفيان بن عيينة.

2/ الثاني: لتطيب قلوبهم، وهو قول قتادة، والربيع، وابن إسحاق. ومقاتل ... قال الشافعي -رضي الله عنه-: نظير هذا قوله -صلى الله عليه وسلم- (البكر تُستأمر في نفسها) إنما أراد استطابة نفسها، فإنها لو كرهت، كان للأب أن يزوجها، وكذلك مشاورة إبراهيم عليه السلام لابنه حين أُمر بذبحه.

3/ الثالث: للإعلام ببركة المشاورة، وهو قول الضحاك.

** ومن فوائد المشاورة أن المشاور إذا لم ينجح أمره. علم أن امتناع النجاح محض قدر، فلم يلم نفسه، ومنها أنه قد يعزم على أمر، فيبين له الصواب في قول غيره، فيعلم عجز نفسه عن الإحاطة بفنون المصالح .. قال علي -رضي الله عنه-: الاستشارة عين الهداية، وقد خاطر من استغنى برأيه، والتدبير قبل العمل يؤمنك من الندم.

** قال الطرطوشي في كتابه «سراج الملوك» في المشاورة والنصيحة:

اعلموا أن المستشير وإن كان أفضل رأياً من المشير فإنه يزداد برأيه رأياً، كما تزداد النار بالسليط ضوءاً، فلا تقذفن في روعك أنك إذا استشرت الرجال ظهر للناس منك الحاجة إلى رأي غيرك، فيمنعك ذلك عن المشاورة، فإنك لا تريد الرأي للفخر به ولكن للانتفاع به، وإن أردت الذكر كان أفخر لذكرك وأحسن عند ذوي الألباب لسياستك أن يقولوا: "لا ينفرد برأيه دون ذوي الرأي من إخوته".

ولا يمنعك عزمك على إنفاذ رأيك وظهور صوابه لك عن الاستشارة، ألا ترى أن إبراهيم الخليل -عليه السلام- أُمر بذبح ابنه عزمة لا مشورة فيها، فحمله حسن الأدب وعلمه بموقعه في النفوس على الاستشارة فيه، فقال لابنه: { {قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى} } [الصافات102]. وهذا من أحسن ما يرسم في هذا الباب.

وقال عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-: الرأي الفرد كالخيط السحيل [الغَزْل الذي لم يُبْرَم]، والرأيان كالخيطين، والثلاثة الآراء كالثلاثة لا تكاد تنقطع.

وروي أن رومياً وفارسياً تفاخرا. فقال الفارسي: نحن لا نملك علينا من يشاور. وقال الرومي: ونحن لا نملك علينا من لا يشاور.

وقال بزرجمهر: إذا أشكل الرأي على الحازم كان بمنزلة من أضل لؤلؤة فجمع ما حول مسقطها فالتمسها فوجدها، كذلك الحازم بجمع وجوه الرأي في الأمر المشكل ثم يضرب بعضها ببعض حتى يخلص له الصواب.

وكان يقال: من كثرت استشارته حمدت إمارته.

وفي حكم الهند قال بعض الملوك: إن الملك الحازم يزداد برأي الوزراء الحزامة، وكما يزداد البحر بمواده من الأنهار، وينال بالحزم والرأي ما لا يناله بالقوة والجند، ولم تزل حزمة الرجال يستحلون مرائر قول النصحاء، كما يستحلي الجاهل المساعدة على الهوى.

قال المأمون لطاهر بن الحسين:

صف لي أخلاق المخلوع، يعني أخاه الأمين. فقال: كان واسع الصدر ضيق الأدب، يبيح من نفسه ما تأباه همم الأحرار، ولا يصغي إلى نصيحة، ولا يقبل مشورة، يستبد برأيه فيرى سوء عاقبته ولا يردعه ذلك عما يهم به.

قال: فكيف كانت حروبه؟ قال: يجمع الكتائب بالتبذير ويفرقها بسوء التدبير.

فقال المأمون: لذلك ما حل محله. أما والله لو ذاق لذاذة النصائح، واختار مشورات الرجال وملك نفسه عند شهوتها ما ظُفر به.

وقال بعضهم: إنفاذ الملك الأمور بغير روية كالعبادة بغير نية، ولم تزل العقلاء على اختلاف آرائهم يشهدون العيوب، ويستشيرون صواب الرأي من كل أحد حتى الأمة الوكعاء.[ حمقاء]

هذا وكان عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- يقول: "رحم الله امرأً أهدى إلي عيوبي".

وكان يقال: من أعطي أربعاً لم يمنع أربعاً: من أعطي الشكر لم يمنع المزيد، ومن أعطي التوبة لم يمنع القبول، ومن أعطي الاستخارة لم يمنع الخيرة، ومن أعطي المشورة لم يمنع الصواب.

وقال بعضهم: خمير الرأي خير من فطيره، وتقديمه خير من تأخيره.

وقال صاحب كتاب التاج: إن بعض ملوك العجم استشار وزراءه، فقال بعضهم: لا ينبغي للملك أن يستشير منا أحداً إلا خالياً، فإنه أموت للسر وأحزم للرأي وأجدر للسلامة، وأعفى لبعضنا من غائلة بعض.

وكان بعض ملوك العجم إذا شاور مرازبته فقصروا في الرأي، دعا الموكلين بأرزاقهم فعاقبهم فيقولون: تخطئ مرازبتك وتعاقبنا؟ فيقول: نعم لم يخطئوا إلا لتعلق قلوبهم بأرزاقهم وإذا اهتموا أخطئوا.

وكانوا إذا اهتموا بمشاورة رجل بعثوا إليه بقوته وقوت عياله لسنة ليتفرغ لبه.

وكان يقال: النفس إذا أحرزت قوتها اطمأنت، وإذا شاورت فاصدق الخبر تصدقك المشورة، ولا تكتم المستشار فتؤتى من قبل نفسك.

وقال بعض ملوك العجم: لا يمنعك شدة بأسك في باطنك، ولا علو مكانك في نفسك من أن تجمع إلى رأيك رأي غيرك، فإن أصبت حمدت وإن أخطأت عذرت، فإن في ذلك خصالاً منها إن وافق رأيك رأي غيرك ازداد رأيك شدة عندك، وإن خالفه عرضته على نظرك، فإن رأيته معتلياً لما رأيته قبلته، وإن رأيته متضعاً استغنيت عنه. وذلك أنه يجدد لك النصيحة ممن شاورته وإن أخطأ، وتمحض لك مودته وإن قصر، ولو لم يكن من فضيلة المشورة إلا أنك إن أصبت مستبداً سلبت فائدة الإصابة بألسنة الحسدة.

وقال قائل: هذا اتفاق ولو فعل كذا لكان أحسن، وإذا شاورت فأصبت حمد الجماعة رأيك لأنهم لنفوسهم يحمدون، وإن أخطأت حمل الجماعة خطأك لأنهم عن أنفسهم يكافحون.

واعلم أن القول الغليظ يستمع لفضل عاقبته كما يتكاره شرب الدواء المر لفضل مغبته.

وقال أعرابي: ما عثرت قط حتى عثر قومي. قيل له: وكيف ذلك؟ قال: لا أفعل شيئاً حتى أشاورهم.

وقيل لرجل من عبس: ما أكثر صوابكم يا بني عبس! فقال: نحن ألف رجل وفينا حازم واحد، ونحن نطيعه فكأنا ألف حازم.

وكان ابن أبي هبيرة أمير البصرة يقول: اللهم إني أعوذ بك من صحبة من غايته خاصة نفسه، والانحطاط في هوى مستشيره.

وفي حكم الهند: من التمس من الإخوان الرخصة عند المشورة، ومن الأطباء عند المرض، ومن الفقهاء عند الشبهة، أخطأ الرأي وازداد مرضاً وحمل الوزر.

وقالت الحكماء: لا تشاور معلماً، ولا راعي غنم، ولا كثير القعود مع النساء، ولا صاحب حاجة يريد قضاءها، ولا خائفاً، ولا من يرهقه أحد السبيلين.

وقالوا: لا رأي لحاقب ولا لحازق ولا لحاقن، ولا تشاور من لا توفيق عنده...  الحازق: هو الذي ضغطه الخف الضيق، والحاقب: هو الذي يجد في بطنه درأ.

وقالوا: من شكا إلى عاجز أعاره عجزه وأمده من جزعه.

ومن لطيف ما جرى في الاستشارة أن زياداً بن عبيد الله الحارثي استشاره عبد الله بن عمر في أخيه أبي بكر أن يوليه القضاء، فأشار به فبعث إلى أبي بكر فامتنع عليه، فبعث زياد إلى عبيد الله يستعين به على أبي بكر، فقال أبو بكر لعبيد الله: أنشدك الله أترى لي القضاء؟ قال: اللهم لا. قال زياد: سبحان الله استشرتك فأشرت علي به ثم أسمعك تنهاه. فقال: أيها الأمير استشرتني فاجتهدت لك الرأي ونصحتك ونصحت للمسلمين، واستشارني فاجتهدت له رأيي ونصحته.

وروي أن الحجاج بعث إلى المهلب يستعجله في حرب الأزارقة، فكتب له المهلب: إن من البلاء أن يكون الراعي لمن يملكه دون من يبصره. أهـ

والمشورة هي في مواضع الفكر والاجتهاد وليس فيما أثبتته نصوص الشريعة والأحكام. فهذه محلها الانقياد لها والقول (سمعنا وأطعنا)

 

جمع وترتيب

د/ خالد سعد النجار

alnaggar66@hotmail.com

 

 

خالد سعد النجار

كاتب وباحث مصري متميز