طريق السعادة الذي رسمه القرآن الكريم

منذ 2021-01-18

أيها الأحباب، حان الوقت لتمتلئ القلوب بالإيمان، وحب الطاعة والإحسان، فمَن لم يَتُبْ الآن، فمتى يتوب؟ ومَن لا يُحسن الآن، فمتى يحسن؟

إن الحمد لله نحمده ونستعينه، ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهدِهِ الله فلا مضلَّ له، ومن يضلل فلن تجد له وليًّا مرشدًا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، يحيي ويميت، وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، النبي الأمي الذي علَّم المتعلمين، وهدى الحائرين إلى طريق الله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وأصحابه، ومَن تَبِعَهُم بإحسان إلى يوم الدين.

 

أما بعد:

فيا أيها الأحباب، اعلموا أن طريق السعادة الذي رسمه القرآن الكريم طريقٌ واحد هو الإحسان؛ الإحسان في كل شيء؛ لأن الإحسان سببٌ لمحبة الله، وعطاء الله، ورضوان الله، وسبب لسعادة القلب، ورضا النفس، وراحة الضمير، ومحبة الخلق؛ قال الله تعالى: {وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [البقرة: 195]، وقال الله تعالى: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران: 133، 134]، وقال سبحانه وتعالى: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلَا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلَا ذِلَّةٌ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [يونس: 26].

 

أيها الأحباب، حان الوقت لتمتلئ القلوب بالإيمان، وحب الطاعة والإحسان، فمَن لم يَتُبْ الآن، فمتى يتوب؟ ومَن لا يُحسن الآن، فمتى يحسن؟

 

أيها الأحباب، إذا أحسن العبد منَّا نيته وعمله وقوله، أحبه الله، وإذا أحبه الله، أعطاه ما يتمناه، ويمكننا القول: إن غاية وجودنا واختبارنا في هذه الحياة هو الإحسان؛ قال الله تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ} [الملك: 1، 2]، فالإحسان يعني: أن تكون محسنًا في كل شيء في قولك وعملك، ونيتك وإيمانك، ومحبتك وتعظيمك لله وللدار الآخرة، أن تُحسِنَ في عبادتك، فتكون خالصة لله، صحيحة على الوجه الذي يُرضي الله، أن تحسن في أخلاقك وآدابك ومعاملاتك مع الناس، أن تحسن إلى والديك، إلى زوجتك وأولادك، وأهلك وأرحامك، أن تحسن إلى جيرانك وأصدقائك وزملائك، أن تحسن في عملك ومهنتك ودراستك لتنفع الناس، أن تحسن في هيئتك ومنظرك، أن تحسن في تفكيرك ونيتك وعزيمتك، أن تحسن إلى الفقراء والمحتاجين، واليتامي والمساكين، أن تحسن إلى المرضى بزيارتهم، وإلى أهل المقابر بتذكرهم والدعاء لهم، أن تحسن إلى نفسك، فتُزكِّيها وتهذِّبها وتمنعها من المعاصي والأذى، فإن فعلت ذلك، وجدتَ إحسان الله إليك من كل جانب ومن كل اتجاه؛ قال الله تعالى: {هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ} [الرحمن: 60]، فمن أحسن، أحسن الله إليه، ورضيَ عنه، فليس جزاء الإحسان من العبد إلا الإحسان من الرب جل وعلا.

 

ومهما كان هذا الإحسان قليلًا، فإنه لن يضيعَ عند الله تعالى؛ قال الله تعالى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} [الزلزلة: 7، 8]، وعن أبي ذر، قال: قال لي النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تَحْقِرَنَّ من المعروف شيئًا، ولو أن تَلْقَى أخاك بوجه طلْقٍ» [رواه مسلم].

 

فالمسلم مطالب بالإحسان في كل شيء؛ فعن شداد بن أوس رضي الله عنه قال: ((ثِنْتَانِ حفِظْتُهُما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: «إن الله كتب الإحسان على كل شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القِتْلَةَ، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبح، ولْيُحِدَّ أحدكم شَفْرَتَهُ، فَلْيُرِحْ ذبيحته» [رواه مسلم].

ازرع جميلًا ولو في غير موضعـه   ***   فلـن يضـيعَ جميـلٌ أيـنـمـا زُرعــا 

إن الجميـل وإن طـال الزمـان بـه   ***   فلن يحصد الجميلا إلا الذي زرعا 

 

انظر إلى موسى عليه السلام لمَّا أحسن للبِنْتَيْنِ، وسقى لهما الغنم وطلب الأجر من الله تعالى، أحسن الله إليه، فمنَّ عليه بزوجةٍ، وأهل، وعمل، وبيت، وأمن؛ {وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران: 134].

 

ومن الإحسان أن يحسن العبد إلى نفسه؛ بترك المعصية، فيستحق إحسان الله إليه، وتعويضه له بما هو خير له؛ ورد في الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إنك لن تَدَعَ شيئًا لله عز وجل إلا بدَّلَكَ الله به ما هو خير لك منه» (رواه أحمد).


قال ابن القيم رحمه الله: "وقولهم: من ترك لله شيئًا عوَّضه الله خيرًا منه - حقٌّ، والعِوَضُ أنواع مختلفة، وأجلُّ ما يعوض به الأنسُ بالله ومحبته، وطمأنينة القلب به، وقوته ونشاطه، وفرحه ورضاه عن ربه تعالى"[1].

 

والأمثلة على ذلك كثيرة:

 

فهذا سليمان بن داود عليهما السلام، فإنه كان محبًّا للخَيْلِ، فشغَلَتْهُ عن صلاة العصر يومًا، حتى غابت الشمس، فَمَسَحَها؛ أي: علَّمها بعلامة على أرجلها وأعناقها لتكون وقفًا لله، وأخرجها في سبيل الله[2]، فسخَّر الله له الريح تسير به حيث أراد.

 

ويوسف عليه السلام لما استعصم وترك الفاحشة حين دَعَتْهُ امرأة العزيز؛ خوفًا من الله، عوَّضه الله تعالى، فملَّكه خزائن مصر.

 

ولما ترك المهاجرون ديارهم لله، وأوطانهم التي هي أحب شيء إليهم - عوَّضهم الله تعالى أن فتح لدعوتهم قلوب الناس، وفتح عليهم الدنيا، وملَّكهم مشارق الأرض ومغاربها، فمن ترك شيئًا لله، عوَّضه الله خيرًا منه.

 

ذكر ابن خلكان[3]: أن المبارك بن واضح - والد الإمام عبدالله بن المبارك - كان يعمل أجيرًا في بستان، فجاء صاحب البستان يومًا، وقال له: "أريد رمانًا حلوًا"، فمضى إلى بعض الشجر، وأحضر منها رمانًا، فكسره فوجده حامضًا، فغضب عليه، وقال: "أطلب الحلو، فتُحضر لي الحامض؟ هاتِ حلوًا"، فمضى، وقطع من شجرة أخرى، فلما كسرها وجده أيضًا حامضًا، وفعل ذلك مرة ثالثة، فذاقه، فوجده أيضًا حامضًا، فقال له بعد ذلك: "أنت ما تعرف الحلو من الحامض؟"، فقال: "لا"، فقال: "وكيف ذلك وأنت تعمل في البستان منذ كذا وكذا؟"، فقال: "لأني ما أكلت منه شيئًا حتى أعرفه"، فقال: "ولمَ لمْ تأكل؟"، قال: "لأنك ما أذِنْتَ لي بالأكل منه"، فعجب من ذلك صاحب البستان، وسأل عن ذلك فوجده حقًّا، فعظم المبارك في عينيه، وزاد قدره عنده، وكانت له بنت خُطبت كثيرًا، فقال له: "يا مبارك، مَن ترى أزوج هذه البنت؟"، فقال: "أهل الجاهلية كانوا يزوِّجون للحسب، واليهود للمال، والنصارى للجمال، وهذه الأمة للدين"، فأعجبه عقله، وزوَّجه ابنته، فأنجبت عبدالله بن المبارك؛ الذي أصبح عالمًا كبيرًا؛ قال عن نفسه: "حملت العلم عن أربعة آلاف شيخ"، فكان عبدالله بن المبارك عالمًا عابدًا، فقيهًا محدثًا، شاعرًا أديبًا، فارسًا مجاهدًا، كريمًا زاهدًا، قويًّا شجاعًا، منصفًا، اجتمعت فيه كل خصال الخير؛ كما نقل ذلك ابن عساكر عن أهل عصره، وهذه ثمرة الخوف من الله، وتقوى الله تعالى، فمن ترك شيئًا لله، عوَّضه الله خيرًا منه.

 

ولو اتقى السارق ربه، لأتاه رزقه حلالًا طاهرًا مباركًا، ولو اتقى المسلم ربه، لرزقه الله تعالى الحلال الطاهر المبارك؛ قال الله تعالى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ}[الطلاق: 2، 3]

 

وقد يكون التعويض شيئًا في القلب؛ ذكر ابن الجوزي في صفوة الصفوة أنه قيل لبعض الزهاد: "أنت تركت الدنيا، فماذا عوضك الله؟ فقال: الرضا بما أنا فيه"، فنعمة الرضا لا تعدِلها نعمة؛ لأنها سعادة القلب في كل حال، وتلك نعمة لا تُشترى بالمال، كما أن التعويض من الله تعالى لمن أطاعه وترك معصيته يكون عظيمًا في الآخرة؛ قال الله تعالى: {وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى * وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} [الضحى: 4، 5]، فما دام العبد قد ترك ما نهاه الله عنه لا يتركه إلا لوجه الله عز وجل، فالعِوَضُ له محقق، وهذا وعد الله، ولن يخلف الله وعده.

 

وإذا كان الرزق والسعادة والراحة والجنة والرضوان بيد الله جل جلاله وبمشيئته، فليس من العقل ولا الحكمة في شيء أن يُطلَب ما عند الله بمخالفة أمر الله، وإنما يُطلب ما عند الله بطاعته، وخشيته، والقرب منه.

 

اللهم جنِّبْنا الفتن ما ظهر منها وما بطن، اللهم اجعلنا لك ذاكرين، لك شاكرين، إليك منيبين تائبين، اللهم إنك عفوٌّ تحب العفو فاعفُ عنا.

 

اللهم لا عزَّ لنا إلا في الذُّلِّ لك، ولا أمنَ لنا إلا في الخوف منك، ولا راحةَ لنا إلا في الرضا بقدرك وقسمتك.

 

اللهم لك الحمد كله، ولك الشكر كله، وإليك يرجع الأمر كله.

 


[1] الفوائد، ابن قيم الجوزية، ص: 107، الناشر: دار الكتب العلمية - بيروت، الطبعة: الثانية، 1393هـ - 1973م.

[2] التحرير والتنوير، محمد الطاهر بن عاشور التونسي، (23/ 258) بتصرف، الناشر: الدار التونسية للنشر – تونس.

[3] والخبر أيضًا في شذرات الذهب في أخبار من ذهب (2/ 362)، الناشر: دار ابن كثير، دمشق – بيروت، الطبعة: الأولى، 1406هـ - 1986م.

_______________________________________
د. وفا علي وفا علي