قذف المحصنات
القذف: تعريفه، حكمه، عقوبته في الدنيا والآخرة، صوره، كيفية التوبة منه
{الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة: 2]، {خَلَقَ الْإِنْسَانَ * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ} [الرحمن: 3، 4]، ونهَاهُ عن القذفِ والبُهتان، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} [التوبة: 119]، وتَحَفَّظُوا مِن ألسنتِكُم، فإنَّ الكلامَ محفوظٌ، قال عزَّ وجلَّ: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق: 18]، {سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا} [آل عمران: 181]، {إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ} [النور: 15]، وقال صلى اللهُ عليهِ وسلمَ: «إنَّ العبدَ لَيَتَكَلَّمُ بالكَلِمَةِ، يَنْزِلُ بها في النَّارِ أَبْعَدَ ما بينَ الْمَشْرِقِ والْمَغْرِبِ» (رواه مسلم)، وقال صلى الله عليه وسلم: «وإنَّ أحَدَكُم لَيَتَكَلَّمُ بالكَلِمَةِ مِن سَخَطِ اللهِ ما يَظُنُّ أنْ تَبْلُغَ ما بَلَغَتْ، فَيَكْتُبُ اللهُ عليهِ بهَا سَخَطَهُ إلى يومِ يَلْقَاهُ» رواه الترمذيُّ وقال: (حَسَنٌ صحيحٌ)، ولقد حرَّم الله الاعتداءَ على الأعراض، وأمرَ بالمحافظةِ عليها، ومِن صورِ الاعتداءِ عليها: القذف، الذي انتشرَ على ألسنةِ بعضِ الناس، فلا يعي أحدُهم خُطورةَ ما يقول وما ينشر، ولا يخاف ما يترتب على قوله ونشرهِ مِن وعيدٍ في الآخرةِ، وعقوبةٍ في الدنيا، فما هو القذف، وما حُكْمُه، وما هُو أولُّ قذفٍ في الإسلامِ بينَ غيرِ الزوجينِ، وما عُقوبةُ القاذفِ في الدُّنيا وعُقوبتُه في الآخرةِ، وما الحكمة في إيجاب الحد في القذف بالفاحشة دون القذف بالكفر، وما صُوَرُ القذف، وكيفيةُ التوبةِ منه.
قال الشيخ بكر أبو زيد رحمه الله: (القذفُ بوطءٍ أو نفيُ نَسَبٍ، مُوجبٌ للحَدِّ فيهما) انتهى.
والقذفُ مُحرَّمٌ بالكتابِ والسُّنةِ، وأجمعتِ الأُمَّةُ من السلف والخلف على تحريمه وأنه كبيرة من الكبائر.
ولقد اشتُهرَ أولُ قذفٍ في الإسلام بينَ غيرِ الزوجينِ بقصَّةِ القذفِ الكاذبِ على أُمِّ المؤمنين عائشة رضي الله عنها، المشتهرة قِصَّتُها باسم: قصة الإفك، وأنزلَ اللهُ فيها قُرآناً يُتلى مِن سورةِ النُّورِ تبرئةٌ مِن اللهِ للصِّدِّيقةِ بنتِ الصدِّيقِ وحبيبةِ رسولِ ربِّ العالمين، إذ قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النور: 11]الآيات.
عبادَ الله: لقد صانَ اللهُ الأعراضَ عن جَلْبِ الْمَعرَّةِ إليها وإلصاقِ الفواحشِ بها، فمَن تطاولَ على عِرضِ مُسلمٍ يَرْميهِ بفاحشةِ الزِّنا أو ما يَستلزِمُ الزِّنا، فَجَعَلَ اللهُ للقاذفِ ثلاثَ عُقوباتٍ في الدُّنيا: قال جَلَّ ذِكْرُه: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور: 4]، وقال صلى الله عليه وسلَّم: «البَيِّنَةُ أَوْ حَدٌّ في ظَهْرِكَ» (رواه البخاري)، والمحصناتُ هُنَّ النساءُ الحرائر العفائف، فهذه الآية تُعتبر حصناً منيعاً مِن الخوضِ في أعراضِ المؤمنينَ وإشاعة الفساد لِمجرَّد الشك، فشدَّد اللهُ في عقوبةِ القذف، فجعلَ حدَّه ثمانين جلدة، وزادَ عليه بأن أسقطَ شهادةَ صاحبها، ووَصَمَهُ بالفسقِ، وجَعَلَهُ مَلْعُوناً.
وأمَّا عُقوبتُهُ في الآخرة: قال عزَّ وجلَّ: {إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ} [النور: 23 - 25].
وليُعْلَم أنَّ اللهَ أوجَب حَدَّ القَذْفِ بالفاحشةِ دُونَ الكُفْرِ، لأنَّ القاذِفَ غيْرَهُ بالفاحشةِ كما قال ابنُ القيِّم: (لا سَبيلَ للناسِ إلى العِلْمِ بكَذِبِهِ، فَجُعِلَ حَدُّ الفِرْيَةِ تَكْذِيباً لهُ، وتَبْرِئَةً لِعِرْضِ الْمَقْذُوفِ، وتَعْظِيماً لشَأْنِ هذهِ الفاحِشَةِ التي يُجْلَدُ مَنْ رَمَى بهَا مُسْلِماً؛ وأمَّا مَنْ رَمَى غَيْرَهُ بالكُفْرِ فإنَّ شاهِدَ حالِ الْمُسْلِمِ واطِّلاعِ المسلمينَ عليها كَافٍ في تَكْذِيبهِ، ولا يَلْحَقُهُ مِن العَارِ بكَذِبِهِ عليهِ في ذلكَ ما يَلْحَقُهُ بكَذِبهِ عليهِ في الرَّمْيِ بالفاحِشَةِ، ولا سِيَّمَا إنْ كانَ المقذُوفُ امْرَأَةً؛ فإنَّ العَارَ والْمَعَرَّةَ التي تَلْحَقُهَا بقَذْفِهِ بينَ أَهْلِها وتَشَعُّبَ ظُنُونِ الناسِ وكَوْنَهُمْ بينَ مُصَدِّقٍ ومُكَذِّبٍ لا يَلْحَقُ مِثْلَهُ بالرَّمْيِ بالكُفْرِ) انتهى.
ولهذا عظَّمَ اللهُ سُبحانه معصيةَ القذفِ بعشرِ آياتٍ مُتوالياتٍ مِن سُورةِ النُّورِ، قال ابنُ حجر: (قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: لَمْ يَقَعْ في القُرآنِ مِنَ التَّغْلِيظِ في مَعْصِيةٍ ما وَقَعَ في قِصَّةِ الإِفْكِ) انتهى.
ثمَّ قال عزَّ وجل في ختام آيات الإفك: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [النور: 19]، هذه الآية من أعظم الوسائل في تطهير المجتمع المسلم من الفواحش والمنكرات؛ لأنها تُحذِّرُ مِن إشاعةِ الفاحشةِ في صُفوفِ المسلمين، ونشرُ أخبارها بين الناس، وتتوعَّدُ مُحبِّيها بالعذاب الأليم في الدُّنيا والآخرة، ذلكَ أنَّ شُيوع الفاحشةِ بين أوساطِ المؤمنين يُجرِّئُ الناسَ على الإقدامِ عليها، ويجعلهم يستسهلون الوقوع فيها، والآيةُ تدلُّ على أنَّ مجرَّد حُبِّ الفاحشةِ كافٍ في إلحاقِ العذابِ، فكيفَ بمن يُريدون إشاعتَها أو يُباشرونها عبرَ القذف العَلَني، ونشر الصور الفاضحة حتى أصبحت بعض الهواتف المحمولة ممتلئة من قيح هذه الصور، ومُتعفِّنة بمقاطع خبيثة، يَتلَقَّفُونها عبرَ بعض مواقع شبكة الانترنت، ولا شكَّ أنَّ مَن ينشرُ تلك الصور والمقاطع أولى الناس بالوعيد لعظيم جُرمِهِ وفسادِ صنيعهِ، قال عزَّ وجل: {لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ} [النحل: 25]، ويشتدُّ الإثم إذا كان نشر تلك الصور بغير إذن أصحابها، ويشتدُّ الإثم والعذاب إذا كانت تلك الصور مُلفَّقةً ومكذوبةً، {وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ} [النور: 15].
وأمَّا كيفيَّة التوبة من القذف: فإن توبته لا تكون إلا بأن يُكذِّبَ نفْسَهُ في ذلك القذف الذي حُدَّ فيهِ، وهذا قولُ جَمَاعةٍ مِنَ السَّلَفِ منهُم عمر رضي الله عنه، وبه قال الشافعي وأحمد، قال ابنُ القيِّم: (إنَّ تَوْبَةَ الْقَاذِفِ إِكْذَابُهُ نَفْسَهُ، لأَنَّهُ ضِدَّ الذَّنْبِ الَّذِي ارْتَكَبَهُ، وَهَتَكَ بِهِ عِرْضَ الْمُسْلِمِ الْمُحْصَنِ، فَلا تَحْصُلُ التَّوْبَةُ مِنْهُ إلا بِإِكْذَابِهِ نَفْسَهُ، لِيَنْتَفِيَ عَنِ الْمَقْذُوفِ الْعَارُ الَّذي أَلْحَقَهُ بِهِ بِالْقَذْفِ، وَهُوَ مَقْصُودُ التَّوْبَةِ) انتهى، وقال ابنُ قدامة: (فإن تابَ لم يَسْقُطْ عنه الحَدُّ، وزَالَ الفِسْقُ بلا خِلافٍ، وتُقْبَلُ شَهادتُه عندَنا) انتهى.
فالقذفُ فيه حقَّان: حقٌّ للهِ تعالى، وحقٌّ لعبده المقذوف، ولا يحصلُ التخلُّصُ منها إلاَّ بالاستغفار والندم، والعزم ألاَّ يعود، وأنْ يُكَذِّبَ نفْسَهُ، فيكونُ بهذا قد تابَ بأداءِ الحقَّينِ.
وليتذكَّرِ المقذوفِ بُهتاناً وظُلْمَاً: الابتلاء والاختبار، وما يترتب عليه من الأجرِ والمثوبةِ عندَ الصبرِ والاحتسابِ، وليتذكَّر: أنَّ اللهَ تعالى يُدافِعُ عن أوليائه المؤمنين ويدفع الشرور عنهم، وفي هذا تسلية وتثبيت لكلِّ مقذوفٍ ومقذوفةٍ بُهتاناً ظُلْماً، قال سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ} [الحج: 38]، وليتذكر المقذوف والمقذوفة بُهتاناً ظُلْماً أنَّ حادثة الإفك لم ولن تقتصر على الصِّدِّيقة أُمِّ المؤمنين عائشة رضي الله عنها زوجِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم، بل هيَ مِحْنةٌ تتكرَّر في كلِّ زَمانٍ ومكانٍ، فَسَبقَ أنِ ابتُليَ بها نبيُّ الله يوسفَ الصدِّيق عليه السلام، وابتُلِيت بها مريمُ الصدِّيقة أُمِّ عيسى عليه السلام.
________________________
الكاتب: الشيخ عبدالرحمن بن سعد الشثري
- التصنيف:
- المصدر: