تاريخ رمضان ومكانته في الإسلام
فُرض الصيام في شهر رمضان في السنة الثانية للهجرة، وتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد صام تسعَ رمضانات، وكان الصيام مفروضًا على الأمم مِن قبلنا
إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، مَن يهدِه الله فهو المهتدِ، ومَن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، أما بعد:
فإن الله قد اختص مِن خَلقه من يشاء برحمته؛ فقال تعالى: {يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [آل عمران: 74]، وقال تعالى: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ} [القصص: 68].
وهذا الاصطفاءُ والاختصاص منه - تبارك وتعالى - قد يقَعُ على الأمكنة، أو الأزمنة، أو الأشخاص، ومِن اختصاص الله تبارك وتعالى للأزمنة: ما اختَصَّ به شهر رمضان من بين شهور السنة مِن الفضائل والخصائص؛ فهو شهرٌ عظيمٌ مبارك، شهرٌ امتلأت أيامه ولياليه بالرحمة والمغفرة والرضوان، والله سبحانه وتعالى قد رفع قدر هذا الشهر في كتابه الحكيم، وجعل الخير فيه كله؛ في أوله، وفي أوسطه، وفي آخِره؛ قال تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ} [البقرة: 185].
أخي الحبيب، يُعدُّ صيامُ شهر رمضان مِن فرائض الإسلام، بل هو - كما جاء في أحاديثَ ثابتة وصحيحة - أحدُ أركان الإسلام الخمسة؛ كما في حديث ابن عمر المتفق على صحته؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بُني الإسلام على خمس؛ شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والحج، وصوم رمضان» [1].
قال الحافظ ابن رجب رحمه الله في شرح الحديث في كتابه الماتع (جامع العلوم والحكم): (واعلَمْ أن هذه الدعائم الخمسَ بعضها مرتبطٌ ببعض)[2]، فمَن قام بهذه الأركان جميعِها قُبِل منه، ومَن ترك منها شيئًا متعمِّدًا لم يُقبَلْ منه حتى يأتي بها جميعِها؛ فمَن صلى وزكى وحج ثم لم يصُمْ رمضان متعمِّدًا بغير عذرٍ - لم يقبَلِ اللهُ منه صلاته ولا زكاته ولا حَجَّه حتى يأتي بالصيام.
ثم قال ابن رجب مُبينًا معنى ارتباط هذه الأركان بعضها ببعض؛ قال رحمه الله: (وقال ابن مسعود: من لم يُزكِّ، فلا صلاة له، ونفي القبول هنا لا يُراد به نفي الصحة، ولا وجوب الإعادة بتركه، وإنما يراد بذلك انتفاء الرضا به، ومدح عامله، والثناء بذلك عليه في الملأ الأعلى، والمباهاة به للملائكة،فمن قام بهذه الأركان على وجهها، حصل له القَبول بهذا المعنى، ومَن قام ببعضها دون بعض، لم يحصل له ذلك، وإن كان لا يُعاقب على ما أتى به منها عقوبةَ تاركِه، بل تبرأ به ذمته، وقد يُثاب عليه أيضًا)[3].
أخي الصائم، فُرض الصيام في شهر رمضان في السنة الثانية للهجرة، وتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد صام تسعَ رمضانات، وكان الصيام مفروضًا على الأمم مِن قبلنا، كما بينه ربنا تبارك وتعالى في كتابه الحكيم فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 183]، قال الحسن البصري رحمه الله: (نعم، والله لقد كتب الصيام على كل أمة قد خلت كما كتبه الله علينا شهرًا كاملًا وأيامًا معدودات: عددًا معلومًا)[4].
قال الشعبيُّ وقتادة رحمهما الله: (فإن الله تعالى كتب على قوم موسى وعيسى صوم رمضان فغيَّروا، وزاد أحبارهم عليهم عشرة أيام، ثم مرِض بعض أحبارهم فنذَر إن شفاه الله أن يزيد في صومهم عشرة أيام، ففعَل، فصار صومُ النصارى خمسين يومًا، فصعُب عليهم في الحر، فنقَلوه إلى الربيع)[5].
وقد ثبت في الصحاح: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصوم عاشوراء في الجاهلية في مكة، كما كانت تصومه قريشٌ في الجاهلية، فلما قدم المدينة وجد اليهود يصومونه أيضًا، فصامه وأمر بصيامه.
فعن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة، فرأى اليهود تصوم يوم عاشوراء، فقال: «ما هذا»؟، قالوا: هذا يوم صالحٌ، هذا يوم نجَّى الله بني إسرائيل مِن عدوهم، فصامه موسى، قال: «فأنا أحق بموسى منكم، فصامه، وأمر بصيامه»[6].
وعن عائشة رضي الله عنها، قالت: (كان يوم عاشوراء تصومه قريشٌ في الجاهلية، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصومه، فلما قدم المدينة صامه، وأمَر بصيامه)[7].
فكان هذا هو صيامَ المسلمين في العام الأول من الهجرة، فلما فرَض الله صيام شهر رمضان على المسلمين في العام الثاني من الهجرة، خيَّر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه في صيام عاشوراء، ولم يعزِمْ عليهم، قالت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: (كان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أمَر بصيام يوم عاشوراء، فلما فُرض رمضانُ كان مَن شاء صام، ومَن شاء أفطر)[8].
ثم إن صيام رمضان فُرض أولًا على المسلمين على وجه التخيير بين الإطعام والصيام، فمَن أراد أن يصوم كان خيرًا له، ومن أراد ألا يصومَ أطعَم عن كل يوم مسكينًا، ثم نُقل هذا التخيير لعموم المسلمين إلى الحَتْم والإيجاب على البالغ القادر المقيم، وبقي الإطعامُ لِمَن لا يقدر عليه؛ مِن شيخ كبير في السن، أو امرأة حامل، أو مُرضِع[9].
وكانوا أول الأمر يأكلون ويشربون ويأتون النساء ما لم يناموا، فإذا نام الصائم قبل أن يطعَم حرُم عليه الطعامُ والشراب إلى الليلة القابلة، ثم نُسخ هذا على ما استقر عليه الشرعُ إلى يوم القيامة.
أخرج البخاري رحمه الله عن البراء بن عازب رضي الله عنهما، قال: (إن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم إذا كان الرجل صائمًا، فحضر الإفطار، فنام قبل أن يُفطر لم يأكل ليلتَه ولا يومه حتى يُمسي، وإن قيس بن صِرمة الأنصاري كان صائمًا، فلما حضر الإفطار أتى امرأته، فقال لها: أعندكِ طعامٌ؟ قالت: لا، ولكن أنطلقُ فأطلب لك، وكان يومَه يعمل، فغلبته عيناه، فجاءته امرأته، فلما رأته قالت: خيبةً لك، فلما انتصف النهار غُشي عليه، فذُكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، فنزلت هذه الآية: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ} [البقرة: 187]، ففرِحوا بها فرحًا شديدًا، ونزلت: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة: 187][10].
وتجدر الإشارة إلى مَن يجب عليه الصيام من المسلمين؛ فهو يجب على كل مسلم عاقل بالغ قادر مقيم صحيح، ولا يجب على الصغير، ويصح منه، وله أجر الصيام، ولوالديه أجر التعليم والتربية والحث على الصيام؛ فقد روى الشيخانِ رحمهما الله عن الرُّبَيِّعِ بنت مُعوِّذ رضي الله عنها: أنها قالت حين أمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بصيام عاشوراء: (أرسل النبيُّ صلى الله عليه وسلم غداة عاشوراء إلى قُرى الأنصار: «مَن أصبح مفطِرًا، فليتمَّ بقية يومه، ومَن أصبح صائمًا فليصُمْ»، فكنا نصُومه بعدُ ونُصوِّم صبياننا، ونجعل لهم اللعبة مِن العِهْنِ، فإذا بكى أحدهم على الطعام، أعطيناه ذاك حتى يكون عند الإفطار)[11].
ولا يجوز مِن حائض ولا نُفَساء؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «أليس إذا حاضَتْ لم تُصلِّ ولم تصُمْ»؟! قلن: بلى، قال: «فذلك مِن نقصان دِينها» [12].
أما بداية يوم الصيام ونهايته، فيجب تبييت النية للصوم في أي وقت من الليلة الأولى في شهر رمضان، كما ينبغي تجديد هذه النية في كل ليلة من ليالي الشهر؛ لِما رواه أحمد وأبو داود عن حفصة رضي الله عنها: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «مَن لم يُجمِعِ الصيامَ قبل الفجر، فلا صيامَ له» [13]، وتحصُل النية بمجرد أن يستحضر في قلبه أن غدًا مِن رمضان، وأنه صائم فيه.
وهذا خاصٌّ بصيامِ الفريضة على الصحيح من قولي العلماء؛ لِما رواه مسلم عن عائشة رضي الله عنها، قالت: دخل عليَّ النبيُّ صلى الله عليه وسلم ذات يوم، فقال: «هل عندكم شيءٌ»؟، فقلنا: لا، قال: «فإني إذًا صائمٌ» [14].
ويبتدئ الصائمُ الإمساكَ عن المفطِرات من طلوع الفجر الصادق إلى غروب الشمس؛ لقوله تعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة: 187]، ثم يُباحُ له الأكل والشُّرب والجِماع طَوال الليل، أما ما يفعله بعضُهم من الامتناع قبل عَشْر دقائق أو أكثر مِن الأذان الثاني الذي هو وقت الإمساك، فإنه بدعة منكَرة، كما نص عليه ابن حجَر، ثم ابن باز - رحمهما الله.
والحمد لله ربِّ العالمين
وصلى الله وسلَّم على نبينا وعلى آله وأصحابه أجمعين
[1] البخاري: 8، ومسلم: 19.
[2] جامع العلوم والحكم: 1/ 149، الطبعة السابعة لمؤسسة الرسالة.
[3] جامع العلوم والحكم: 1/ 150، الطبعة السابعة لمؤسسة الرسالة.
[4] تفسير ابن كثير: 1/ 497، طبعة دار طيبة.
[5] تفسير القرطبي: 2/ 274، دار الكتب المصرية.
[6] البخاري: 2004، ومسلم: 1130.
[7] البخاري: 2002، ومسلم: 1125.
[8] الهامش السابق.
[9] انظر: صحيح البخاري: 4507، ومسلم: 1145.
[10] البخاري: 1915.
[11] البخاري: 1960، ومسلم: 1135.
[12] البخاري: 304، ومسلم: 80.
[13] أحمد: 26457، وأبو داود: 2454، والترمذي: 730، والنسائي: 2331، وابن ماجه: 1700.
[14] مسلم: 154.
______________________________
الكاتب: محمد بن محمود الصالح السيلاوي
- التصنيف:
- المصدر: