من محاسن الإسلام النسخ في أحكام الصيام

منذ 2021-04-25

فالأكل والشرب والجماع في نهار رمضان من بعد طلوع الفجر إلى غروب الشمس؛ محرم مبطل للصيام مع الكفارة إذا كان جماعا.

لقد ماتَ الصالحون، ومات الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام، ومات النبي صلى الله عليه وسلم والأنبياء من قبله، والموت مكتوب على كل إنسان، وعلى كلِّ مخلوق، وعلى كلّ من يحمل بين جنبيه روحا، ومات الصحابة رضي الله تعالى عنهم، وما دمنا نتكلم عن الصحابة فلسنا مثلهم.

 

إنهم الصحابة رضي الله تعالى عنهم تلقّوا الوحي، تلقّوا الأمرَ بالمعروف والنهي عن المنكر، تلقّوا الشدائد والصعاب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم.

 

الصحابة رضي الله عنهم تلقَّوا الأحكام الشديدةَ قبل أن تُنسخ، والأوامرَ الشاقَّةَ أوَّلَ الإسلام، تلقَّوها بإيمان وتصديق، واجتهاد وعمل.

 

فمثلا؛ فَرْضُ الصيام كان عليهم شاقًّا، ولكنهم استجابوا لكنّ بعضَهم عجز عن العمل، عجز عن الصيام؛ لعذر المشقة وعدم تحملهم فنسخ الله سبحانه وتعالى ذلك الحكم الشاقَّ عنهم وعنّا، وجاء الفرجُ على المسلمين من ذلك الزمان إلى يوم القيامة.

 

جاء في روايةٍ عند ابن جرير الطبري في تفسيره بسنده عن السُّدِّيّ، قال: كُتِبَ عَلَى النَّصَارَى رَمَضَانُ، وَكُتِبَ عَلَيْهِمْ أَنْ لَا يَأْكُلُوا، وَلَا يَشْرَبُوا بَعْدَ النَّوْمِ، وَلَا يَنْكِحُوا النِّسَاءَ شَهْرَ رَمَضَانَ، فَكُتِبَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كَمَا كُتِبَ عَلَيْهِمْ، فَلَمْ يَزَلِ الْمُسْلِمُونَ عَلَى ذَلِكَ يَصْنَعُونَ كَمَا تَصْنَعُ النَّصَارَى، حَتَّى أَقْبَلْ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ، يُقَالُ لَهُ: أَبُو قَيْسِ بْنُ صِرْمَةَ رضي الله عنه، وَكَانَ يَعْمَلُ فِي حِيطَانِ الْمَدِينَةِ بِالْأَجْرِ، -يعمل في بساتينها؛ حراثةً وسقايةً وزراعةً ونحو ذلك-، فَأَتَى أَهْلَهُ بِتَمْرٍ، -أخذ الأجرة تمرا-، فَقَالَ لِامْرَأَتِهِ:

(اسْتَبْدِلِي بِهَذَا التَّمْرِ طَحِينًا، فَاجْعَلِيهِ سَخِينَةً)، -وَهِي شَيْء يعْمل من دَقِيق وَسمن، يعني اجعلي بدل التمر طحينا، يوضع على النار مع ماء ثم يسكب عليه شيء من السمن، ويكون له سُمْكٌ وقوامٌ معين ويؤكل، هذا طعامهم في ذلك الزمان، قال-: (لَعَلِّي أَنْ آكُلَهُ، فَإِنَّ التَّمْرَ قَدْ أَحْرَقَ جَوْفِي)، فَانْطَلَقَتْ -هذه المرأة رضي الله عنها وقت الإفطار، بعد غروب الشمس- فَاسْتَبْدَلَتْ لَهُ، ثُمَّ صَنَعَت، فَأَبْطَأَتْ عَلَيْهِ، -يعني أخذ عملها وصنعها وقتا من غروب الشمس، حتى انتهت من طعامها-، فَنَامَ، -وإذا نام الواحد منهم آنذاك دخل في الوقت الممنوع منه أن يأكل أو يشرب أو ينكح-، فَأَيْقَظْتْهُ، فَكَرِهَ أَنْ يَعْصِيَ اللَّهَ، وَرَسُولَهُ، وَأَبَى أَنْ يَأْكُلَ، وَأَصْبَحَ صَائِمًا؛ فَرَآهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْعَشِيِّ، -يعني عند الظهر أو بعيده-، فَقَالَ:

«مَا لَكَ يَا أَبَا قَيْسٍ أَمْسَيْتَ طَلِيحًا»؟ -أي: مهزولا ضعيفا- فَقَصَّ عَلَيْهِ الْقِصَّةَ. انتهى من تفسير الطبري أو جامع البيان، ت. شاكر (3/ 502).

 

وقِصّته فيما ثبت عَنْ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ رضي الله تعالى عنه قَالَ: (كَانَ أَصْحَابُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إِذَا كَانَ الرَّجُلُ صَائِمًا فَحَضَرَ الْإِفْطَارُ)، جاء وقت غروب الشمس (فَنَامَ، لَمْ يَأْكُلْ لَيْلَتَهُ) بقية الليلة كاملة (وَلاَ يَوْمَهُ حَتَّى يُمْسِيَ).

 

وفي رواية: (لَيْلَتَهُ وَيَوْمَهُ مِنْ الْغَدِ، حَتَّى تَغْرُبَ الشَّمْسُ)، (وَإِنَّ قَيْسَ بْنَ صِرْمَةَ الْأَنْصَارِيَّ رضي الله عنه كَانَ صَائِمًا، فَلَمَّا حَضَرَ الْإِفْطَارُ، أَتَى امْرَأَتَهُ، فَقَالَ لَهَا: أَعِنْدَكِ طَعَامٌ؟ قَالَتْ: لَا، وَلَكِنْ أَنْطَلِقُ فَأَطْلُبُ لَكَ)، (فَخَرَجَتْ)، (-وَكَانَ يَوْمَهُ يَعْمَلُ فِي أَرْضِهِ-)، والوقت في شدة الحر في ذلك الوقت، (فَوَضَعَ رَأسَهُ)، ليستريح (فَغَلَبَتْهُ عَيْنَاهُ)، (فَنَامَ)، (وَجَاءَتْ امْرَأَتُهُ، فَلَمَّا رَأَتْهُ قَالَتْ: خَيْبَةً لَكَ)، يعني الخيبة هنا بمعنى الحرمان، أي: حِرمانا لك، حَرَمْت نفسِك من الطعام والشراب، وبقيت على جوعك، يقال في اللغة: خاب خيبة إذا لم يظفر بما طلبه، وهو لم يظفر بما طلبه.

 

(فَأَيْقَظَتْهُ، فَلَمْ يَطْعَمْ شَيْئًا، وَبَاتَ طَاوِيًا)، أي: بات ليلته جائعا رضي الله عنه.

 

(وَأَصْبَحَ صَائِمًا)، (فَلَمَّا انْتَصَفَ النَّهَارُ غُشِيَ عَلَيْهِ)، أي: أغمي عليه، هذا بعد أن رآه النبي صلى الله عليه وسلم، (فَذُكِرَ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآية: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ}، فَفَرِحُوا بِهَا فَرَحًا شَدِيدًا، وَنَزَلَتْ: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمْ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنْ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنْ الْفَجْرِ} [البقرة: 187]. الحديث بزوائده رواه البخاري (1915)، والنسائي (2168)، والترمذي (2968)، وأبو داود (2314)، وأحمد (18611).

 

فجاء الفرج، فالأكل والشرب والنساء لم يمنع منه من أراد الصيام بداية من غروب الشمس إلى طلوع الفجر الصادق.

 

فالحمد لله على نعمة الإسلام، والحمد لله على نعمة السنة، والحمد لله على نعمة حكم النسخ في الأحكام الشديدة، إلى التسهيل والتيسير فيها.

قَيسُ بنُ صرمة رضي الله عنه منع نفسه عن الطعام والشراب، حتى أغمي عليه ثاني يوم، لكنّ بعض الصحابة لم يستطع أن يمنع نفسه عن التمتع بزوجته في وقت المنع، فسمى الله ذلك الفعل (اختيان)، {تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ}.

 

ولنستمع إلى ما ثبت عَنْ عبد الله ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله تعالى عنهما؛ أَنَّهُ قَالَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ}، قَالَ: (كَانَ النَّاسُ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إِذَا صَلَّوْا الْعَتَمَةَ)؛ أَيْ: صلاة الْعِشَاء، إذن هناك منع بعد النوم، وهناك منع بعد صلاة العشاء، فإذا نام قبل صلاة العشاء حرم عليه الأكل والشرب والجماع، وإذا بقي مستيقظا فصلى العشاء منع من الأكل والشرب ولو بقي مستيقظا، هذا حكم آخر، (فإِذَا صَلَّوْا الْعَتَمَةَ حَرُمَ عَلَيْهِمْ الطَّعَامُ وَالشَّرَابُ وَالنِّسَاءُ، وَصَامُوا إِلَى الْقَابِلَةِ)، إذا فعلوا ذلك يبقون إلى الليلة القابلة، أَيْ: اللَّيْلَة الْمُسْتَقْبَلَة ممنوعين محرومين.

 

(فَاخْتَانَ)، أَيْ: خَانَ، يَعْنِي ظَلَمَ. (رَجُلٌ نَفْسَهُ، فَجَامَعَ امْرَأَتَهُ وَقَدْ صَلَّى الْعِشَاءَ، وَلَمْ يُفْطِرْ).

 

وفي رواية أخرى بينت أنه عمر رضي الله عنه، ولم يفطر، أي: استمر في صومه، وبقي صائما، وأكمل صيامه إلى الليلة التالية حتى أفطر مع المفطرين، (فَأَرَادَ اللهُ عز وجلَّ أَنْ يَجْعَلَ ذَلِكَ يُسْرًا لِمَنْ بَقِيَ، وَرُخْصَةً وَمَنْفَعَةً)، فَأَبَاحَ سبحانه وتعالى الْجِمَاع وَالطَّعَام وَالشَّرَاب فِي جَمِيع اللَّيْل، رحمة بهذه الأمة.

 

فَقَالَ سُبْحَانَهُ: {عَلِمَ اللهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ الْآية} وَكَانَ هَذَا مِمَّا نَفَعَ اللهُ بِهِ النَّاسَ، وَرَخَّصَ لَهُمْ وَيَسَّرَ). رواه أبو داود (2313).

 

وقوله: (وكان هذا)، هذا هنا إشارة إلى قَوْله تَعَالَى: {عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة: 187].

 

هذا ما كان يحدث مع الصحابة، وكلُّهم سمعٌ وطاعةٌ للأوامر والنواهي، فيبادرون بالأمر فيفعلونه، ويبتعدون عن المحرم المنهي عنه ويجتنبونه، هكذا كانوا رضي الله عنهم، فتحملوا المشقة في طاعة الله، وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم، لكنهم بشر يخطئون ويصيبون، ليسوا معصومين كالأنبياء والرسل، فلا معصومَ إلا أنبياء الله ورسل الله، أمّا الصحابة فيقع منهم الأخطاء، والحمد لله تكون أخطاؤهم تشريعا لنا، وتكون أخطاؤهم تيسيرا في الأحكام لنا نحن بعدهم، فجاء حكم النسخ حكما متأخراً ينسخ حكمًا متقدما، المتقدم فيه الشدة، فيه الاختبار للصحابة رضي الله عنهم، اختبارا لدينهم ثم يأتي بعد ذلك الحكم الآخر الذي فيه اليسر.

 

فالأكل والشرب والجماع في نهار رمضان من بعد طلوع الفجر إلى غروب الشمس؛ محرم مبطل للصيام مع الكفارة إذا كان جماعا.

 

وكذلك يفطر الصائم غير هذه المفطرات استخراج الشهوة من الإنسان كالاستمناء.

 

وكذلك استخراج القيء من المعدة الاستفراغ، أما من تقيَّأ دون عمد فلا شيء عليه.

 

وكذلك يفسد الصيام بالنسبة للنساء الحيض والنفاس.

 

وكذلك يفسد الصيام الردةُ، من يرتد عن دين الله؛ بسب أو كفر، أو شتم أو نحو ذلك، لله أو لدين الله، أو لرسل الله أو ما شابه ذلك، فهذا كفر عليه أن يقضي هذا اليوم بعد رمضان.

 

أسأل الله عز وجل أن يغفر لنا جميعا ذنوبنا، وإسرافنا في أمرنا، وأن يثبت أقدامنا، وأن ينصرنا على القوم الكافرين.

 

اللهم وحد صفوفنا، اللهم ألف بين قلوبنا، وأزل الغل والحقد والحسد والبغضاء من صدورنا، وانصرنا على عدوك وعدونا، برحمتك يا أرحم الراحمين.

 

{وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ}. [العنكبوت: 45].

______________________________________________________________________________

الكاتب: الشيخ فؤاد بن يوسف أبو سعيد