ليلة القدر فرصة العمر
يارجالَ الليلِ، جدوا *** رُبَّ صوتٍ لا يُرَدُّ لا يقــوم الليــــلَ إلا *** مَن له عزمٌ وجِدُّ
الحمد لله عالم السر والجهر، وقاصم الجبابرة بالعز والقهر، محصي قطرات الماء وهو يجري في النهر، فضَّل بعض المخلوقات على بعضٍ حتى أوقات الدهر {لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ} [القدر: 3][1]، وبعد:
فإن مِن فضلِ الله على الصائمين القائمين: أن رزقهم ليلة القدر، فمَن فاته الخير في العشرين الأوائل، فليجدد العزم في العشر الأواخر؛ فإن فيها ليلة هي خير مِن ألف شهر، ولعظم وقدر ليلة القدر، أنزل الله سورة في القرآن، وسماها سورة القدر، قال تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ * لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ * تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ * سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ} [القدر: 1 - 5].
قال أبو بكر الوراق: سميت ليلة القدر؛ لأنه نزل فيها كتاب ذو قدر، على رسولٍ ذي قدر، لأمة لها قدر.
والمتأمل في حديث النبي صلى الله عليه وسلم عن قيام رمضان، يرى أنه أفرده بحديث، فقال: «من قام رمضان إيمانًا واحتسابًا، غُفر له ما تقدم من ذنبه» [2]، ثم أفرد قيام ليلة القدر بحديث، فقال: «من قام ليلة القدر إيمانًا واحتسابًا، غُفر له ما تقدم من ذنبه»[3].
فضائل ليلة القدر:
الفضيلة الأولى: أن الله أنزل فيها القرآن مِن اللوح المحفوظ إلى سماء الدنيا، وجعله هدى للناس ومنهج حياة، كما أنه أنزل في الليل؛ لأنه زمان المناجاة، ومهبط النفحات، وفيه فراغ القلوب، وأفضل من النهار.
الفضيلة الثانية: الاستفهام عن الشيء يدل على التفخيم والتعظيم، فاستفهم بقوله: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ} [القدر: 2].
الفضيلة الثالثة: هي خيرٌ من ألف شهر، وألف شهر يعدل: 83 سنة وأربعة أشهر، بل هي خير منها، وإذا قدرنا ساعات ليلةٍ بـ: 8 ساعات، فتكون الـ: 8 ساعات خيرًا مِن ألف شهر؛ أي: 8 ساعات خير من 83 سنة وأربعة أشهر، مع العلم أن مجموع 83 سنة وأربعة أشهر = 1000 شهر، و8 ساعات خير من 1000 شهر.
1000 شهر X 30 يوم= 30.000 يوم X 24 ساعة=720.000 ساعة.
أي: إن ليلة القدر - 8 ساعات - خيرٌ من 720.000 ساعة...تخيل هذا الثواب العظيم من الرب الكريم.
الفضيلة الرابعة: أخبرنا ربنا أن الملائكة تتنزل فيها، وعبر بقوله: {تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ} [القدر: 4]، فتمتلئ الأرضُ بهم حتى تضيق بهم، ثم قال: {وَالرُّوحُ فِيهَا} [القدر: 4]، وفيه تخصيص لجبريل؛ لشرفِه ومكانته.
الفضيلة الخامسة: وصفها بأنها سلام؛ لكثرة مَن يسلم فيها من الشرور والآثام.
قال أبو عثمان النهدي: كانوا يعظمون ثلاث عشراتٍ: العشر الأول من ذي الحجة، والعشر الأخير من رمضان، والعشر الأول من المحرم[4].
لذا؛ كان قتادة - رحمه الله - يختم القرآن في كل سبع ليال مرة، فإذا دخل رمضان ختم في كل ثلاث ليال مرة، فإذا دخل العشر ختم في كل ليلة مرة.
اقتدِ بحبيبك صلى الله عليه وسلم:
عن عائشة رضي الله عنها، قالت: (كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا دخل العشرُ شدَّ مِئزره، وأحيا ليله، وأيقَظ أهله)[5].
وعن عطاءٍ، قال: دخلتُ أنا وعبيد بن عميرٍ على عائشة فقالت لعبيد بن عميرٍ: قد آن لك أن تزورنا، فقال: أقول يا أمَّه كما قال الأول: زُرْ غِبًّا، تَزْدَدْ حُبًّا، قال: فقالت: دعونا من رطانتكم هذه، قال ابن عميرٍ: أخبرينا بأعجب شيءٍ رأيتِه مِن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فسكتت، ثم قالت: لما كان ليلةٌ من الليالي، قال: «يا عائشة، ذَرِيني أتعبَّد الليلة لربي»، قلت: والله إني لأحب قُربَك، وأحب ما سرك، قالت: فقام فتطهر، ثم قام يصلي، قالت: فلم يزل يبكي حتى بلَّ حجره، قالت: ثم بكى فلم يزل يبكي حتى بلَّ لحيته، قالت: ثم بكى فلم يزل يبكي حتى بلَّ الأرض، فجاء بلالٌ يؤذِنه بالصلاة، فلما رآه يبكي قال: يا رسول الله، لمَ تبكي وقد غفر الله لك ما تقدم وما تأخر؟! قال: (( «أفلا أكون عبدًا شكورًا، لقد نزلت عليَّ الليلة آيةٌ ويلٌ لمن قرأها ولم يتفكر فيها: ﴿ إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾» [آل عمران: 190]"[6].
فإذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو الذي غُفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، يترك الفراش ليقيم الليل، ويصف قدميه بين يدي ربه؛ حتى يحقق منزلة الشكر، فهل أنت مستعد لتشد مئزرك، ولتحيي ليلك، ولتوقظ أهلك؟!
كان أبو مسلم الخولاني قد علق سوطًا في مسجد بيته يخوف به نفسه، وكان يقول لنفسه: قومي؛ فوالله لأزحفن بك زحفًا حتى يكون الكلل منك لا مني، فإذا دخلت الفترة تناول سوطه وضرب به ساقه، ويقول: أنت أولى بالضرب من دابتي، وكان يقول: أيظن أصحاب محمد أن يستأثروا به دوننا، كلا، والله لنزاحمنَّهم عليه زحامًا؛ حتى يعلموا أنهم قد خلفوا وراءهم رجالًا[7].
يارجالَ الليلِ، جدوا *** رُبَّ صوتٍ لا يُرَدُّ
لا يقــوم الليــــلَ إلا *** مَن له عزمٌ وجِدُّ
ولحبِّ ثابتٍ البناني للصلاة وقيام الليل، كان يقول: "اللهم إن كنت أذنت لأحدٍ أن يصلي لك في قبره، فأْذِنْ لي أن أصلي في قبري"[8].
عن عبدالله، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «عجِب ربنا تبارك وتعالى من رجلين: من رجلٍ ثار من لحافه وفراشه من بين حيه وأهله إلى صلاته، فيقول الله لملائكته: يا ملائكتي، انظروا إلى عبدي هذا، قام من بين فراشه ولحافه من بين حيه وأهله إلى صلاته، رغبةً فيما عندي، وشفقةً مما عندي، ورجلٍ غزا في سبيل الله ففر أصحابه، وعلم ما عليه في الفرار، وما له في الرجوع، فرجع حتى أهريق دمه، فيقول الله لملائكته: انظروا إلى عبدي هذا، رجع رغبةً فيما عندي، وشفقةً مما عندي» [9].
_______________________________________________________
[1] من كتاب التبصرة، لابن الجوزي، ج2/ ص91، المجلس الثامن، في ذكر العشر وليلة القدر، دار الكتب العلمية، بيروت - لبنان، ط1/ 1406 هـ = 1986 م.
[2] البخاري (37)، مسلم (759).
[3] البخاري (1901).
[4] التبصرة، لابن الجوزي، (ج2، ص124).
[5] البخاري (2024).
[6] صحيح ابن حبان (620)، وقال الأناؤوط: إسناده صحيح.
[7] الإحياء (ج4، ص411).
[8] الإحياء (ج4، ص409).
[9] مسند أبي يعلى (5361)، وإسناده صحيح.
- التصنيف: