دور الإعلام في تشكيل الرأي العام

منذ 2021-05-17

لقد غدت صناعة الإعلام لا تقل أهمية عن صناعة السلاح التي تتصدر الصادرات الأولى في عالم الصناعة و الموارد..

لقد أدى الإعلام منذ فجر انطلاقته الأولى دوراً مهماً في تحرير الإنسان، و هو ما لاحظه الكاتب البريطاني " ويلز " في تاريخه " معالم تاريخ الإنسانية " حين قال:" إن الورق حرر عقل الإنسان ".

و لعل ما يميّز الخلائق عن البهائم هو الاتصال، فالإنسان كان دائماً بحاجة إلى وسيلة يراقب فيها الظروف من حوله ليتأقلم مع هذه البيئات، فنحن لا نستطيع أن نكتفي بالحياة مجرد الحياة، و لا نستطيع أن نواصل وجودنا كبشر دون روح المعاشرة الاجتماعية، و في هذا يقول " موريس جولديير ": " إن البشر على نقيض الحيوانات الاجتماعية الأخرى، حياتهم ليست مجرد حياة في مجتمع، و إنما هم ينتجون المجتمع ليعيشوا فيه، لهذا فإن أي مبحث ينظر إلى البشر باعتبارهم مجرد أفراد لا يعتبر من منظور عالم الأنثروبيولوجيا مبحثاً كاملاً، و نحن لا نستطيع أن نعرف أنفسنا إلا إذا عرفنا أنفسنا في علاقات الآخرين." [1]

وبكل تأكيد فإن من أهم وسائل التعرف على الآخرين الإعلام الذي ينقلنا إلى هناك و حيث نريد لنتعرف على تجارب وحضارات و مدن و تواريخ ما كان لنا أن نحصل عليها دون تلك الوسيلة.

ولقد أطلق الكثيرون على الإعلام السلطة الرابعة، و يفسر ذلك المفكر الإسلامي الجزائري " مالك بن نبي " بقوله:
" إنها فعلاً سلطة، ذلك أن الصحيفة تحوّل الرأي العام في هذا الاتجاه أو ذاك، وتصبح أداة سلطة ذات أهمية كبرى، في عالم القرن العشرين ، يسير كل ما فيه على مبدأ القوة و السيطرة " [2].

" وينتقل إلى إبراز أهمية المادة الإعلامية التي يراها بأنها لن تقل بدورها عن مادة السلاح التي تعتبر الحصن المنيع لسيادات الدول، فيقول ":

لقد غدت صناعة الإعلام لا تقل أهمية عن صناعة السلاح التي تتصدر الصادرات الأولى في عالم الصناعة و الموارد، فقد بلغ حجم التوظيف المالي في هذا القطاع للإعلام و الاتصال عام 1990 حوالي 75 مليار دولار أمريكي، كما تبلغ حجم الصادرات للولايات المتحدة الأميركية في قطاع الإعلام ومعالجة المعرفة ما يناهز الـ: 50 % من الحجم السنوي لمجمل صادراتها، و البالغة: 384 مليارا دولار، وفي عام 1992 بلغ مجموع المبالغ المتداولة في سوق الصناعات السمعية و البصرية حوالي: 289,2 مليار دولار، و بذلك احتلت المرتبة التالية بعد الطيران و الصناعات الكيماوية " [3].

ولعل الكثيرين يوافقوننا الرأي بأن الإعلام الآن - مع ظهور الفضائيات - قد كسر حالة الرتابة و السطحية والتجهيل التي مورست بحق الرأي العام العربي تحديداً أيام حرب الساعات الستة " و ليس الأيام الستة في حزيران " من العام 1967، 
لكن السؤال الذي ينبغي أن يوجه للجميع سيما المسؤولين منهم هو:
هل بدأ الجميع يدركون سلاح الإعلام و الحاجة إليه في ضرورات التغيير و التعبئة و التوعي ة و الإدراك ؟

فجهاز التلفاز بات عنصراً و أداة مهمة في عملية التغيير الاجتماعي ، لكن مع هذا فمن الظلم و من غير الواقعي أيضاً أن نقرر بأن الفضائيات و حتى الإعلام لوحده هو الوسيلة
والأداة الوحيدة لتشكيل رأي و وعي عام، فلا بد من أخذ السياقات الاجتماعية و الاقتصادية للإنسان بعين الاعتبار
و إن كان من الحق أن نؤكد بأن الإعلام بشكل عام و خاصة الفضائيات هي التي تقولب اهتمامات و مشاغل المشاهدين هذه الأيام.

رغم أن البعض ينتقده و يعتبره أداة تجهيل و تسطيح للذهن لكن يبقى الأمر مرهونا بالمادة المقدمة،
ويقول المفكر والمؤرخ الأمريكي البارز " غور فيدال " الذي يعتبر ضمير أمريكا الحي في هذا السياق: " إن أهم أهداف ماكينة الإعلام الأمريكية هي التجهيل والتعتيم وخلق أجيال من أشباه الأميين، نعم الأميين في بلاد العسل والحليب المزعومة ".

إن اكثر ما يأخذه فيدال على الأجهزة الإعلامية والتربوية في أمريكا أنها تهبط بالإنسان بدلاً من الارتقاء به.

" ويدلل الزميل زيدان على أن الحرب الحقيقية في حياة الأمم هي الحرب الإعلامية والتنافس المعلوماتي الذي غدا رأس مال الأمم المستقبلي، فيقول ":

إذن فالحرب الحقيقية التي تحياها الأمم في هذا العصر المعلوماتي إنما هي حرب إعلام و حرب معلومات، ومن يملك المعلومة يملك القرار الصائب و النظرة المستقبلية،
و سأركز في هذا الإيجاز على الفضائيات لما لها من أهمية قصوى ودور فعال في صوغ الرأي العام العربي،
فمصطلح الرأي العام لم يظهر إلا في العصر الحديث و بصفة خاصة منذ الثورة الفرنسية، و حسب تعريف العالم " فلويد أولبرت " فهو عبارة عن: " جمع من الأفراد يعبرون عن آرائهم في موقف معين، إما من تلقاء أنفسهم أو بناءً على دعوة موجهة إليهم تعبيراً مؤيداً أو معارضاً لمسألة معينة أو لشخص معين أو اقتراح ذي أهمية واسعة، بحيث تكون نسبة المؤيدين أو المعارضين " في العدد " و درجة اقتناعهم
و ثباتهم و استمرارهم كافية لاحتمال ممارسة التأثير على اتخاذ إجراء معين بطريق مباشر أو غير مباشر تجاه الموضوع الذي هم بصدده " [4].

لكن ينبغي الإشارة إلى أنه حتى الآن لا يوجد تعريف متفق عليه عالمياً على الرأي العام، و لكن كما قال " أونكن " في نهاية القرن التاسع عشر بأنه رغم عدم وجود هذا التعريف لكن يمكن لكل إنسان أن يفهم المقصود به إذا سئل عنه، و كلمة الرأي العام في المعجم الوسيط تعني الاعتقاد و العقل و التدبر و النظر و التأمل، أما كلمة العام فتقال للعام من كل أمر، كما جاء به القاموس المحيط، اسم جمع للعامة، و هي خلاف الخاصة.

لكن بعد أن يستعرض الدكتور " محمد منير حجاب " عدة تعريفات للرأي العام يضع التعريف الآتي:
" هو رأي ذو تأثير معين، انتهت إليه أغلبية جماعة معينة في وقت محدد تجاه مسألة ما تتعلق باهتماماتها بعد مناقشة و حوار مستفيضين " [5] .

اعترف الفلاسفة منذ القديم و منهم " أرسطو " بدور الرأي العام في تحطيم الحكومات، و شكلت كتابات كل من " أفلاطون و أرسطو " بداية متواضعة لدراسة ظاهرة الرأي العام، كون هذه الكتابات شددت على ضرورة قيام الدولة على مبدأ الديمقراطية، أي على مشاركة الجماهير بالسلطة.

و أدى مفكرون و خطباء مثل " شيشرون " و أخيه " كونتيوس " دوراً كبيراً في تكوين الرأي العام حيث كتب الأخير رسالة في الدياعية و فنونها.

بيد أن التسميات كانت تختلف، لكن المسمى واحد، فعند المسلمين كان يأخذ الرأي العام مصطلحاً أقرب إلى " السواد الأعظم " بينما دعاه " مونتسكيو " بـ: العقل العام، و يقابله عند " جان جاك روسو " بالإرادة العامة، و يعرف الآن في أدبيات السياسة العربية بـ: " الشارع العربي ".

و لعل الوسيلة الوحيدة لعكس ذلك مرآة الإعلام، التي تشتمل على المسرح و السينما والصحف و مجلات و إذاعة و تلفزيون
وغيرها، و لذا فقد لعبت السينما الأميركية دوراً مهماً، وحيوياً في تصوير و إبراز صورة الهنود الحمر على أنهم قطاع طرق و لصوص، الأمر الذي نفّر الأمريكيين و غيرهم منهم، و كذلك أبرز الإعلام الأميركي و الغربي اليهود على أنهم نصيري سلام و محبين له، و بالتأكيد فإن الوعي و الرأي العام لا يتكون بشكل لحظي و إنما بشكل تراكمي إلى أن يصل الشخص أو الفرد لاتخاذ قرار و يتفاعل مع الواقع.

و عن العلاقة شبه الجدلية بين الاتصال و الرأي العام فالأخير إنما ينتج عن عملية الاتصال أو التفاعل بين هؤلاء الأفراد.

و مفهوم الرأي العام لاشك يتغير من دولة إلى أخرى، و من مكان إلى مكان، فالرأي العام الغربي غير العربي،
و السوري غير المصري، و لكن بشكل عام كما عرّفه علماء وفلاسفة الغرب فإن الرأي العام هو: تعبير الأفراد عن آرائهم تجاه موقف معين إما من تلقاء أنفسهم أو بناء على دعوة موجهة إليهم مؤيداً أو معارضاً لمسألة أو شخص معين أو اقتراح ذي أهمية.

و لذا ولأهمية الرأي العام ودوره في صوغ العالم و سياساته فقد أطلق العديد من المفكرين و الفلاسفة على القرن العشرين بـ " قرن الرأي العام ".

و هنا لا بد من التمييز بين دور الإعلام في الحكومات الديمقراطية الليبرالية التي تهتم برأي شعوبها، و بين دور الإعلام في الأنظمة الشمولية التوليتارية.

وتلعب الأخبار بشكل عام دوراً مهماً في حياة الشعوب، لما للدعاية و الإشاعة، و التبشير و التنفير، و خلق الخلافات بين الدول من أهمية، و لا سبيل لنقل ذلك إلاّ من خلال وسائل الإعلام، فهي الوسيلة التي تنقل أخبار البورصات و الاقتصاد و لذا بخبر واحد ممكن أن تودي باقتصاديات دول، و الرأي العام مرتبط أصلاً بالعلانية، و يتصل كما هو معلوم بالنشر و الإذاعة و الإفشاء و الطبع، و كما قيل:

جراحات السنان لهاالتئام   ***  ولا يلتام ما جرح اللسان
                                         
و على هذا فقد كانت الكلمة خطيرة في الإسلام، و اعتبر البيان و الإعلام، والتبشير بالإسلام من الجهاد و في هذا يقول " ابن قيم الجوزية " رحمه الله:
"إن جهاد البيان أعظم أجراً و أكثر نفعاً من جهاد السيف والسنان، و هو جهاد الخاصة، و ذلك بأنه جهاد الخاصة من أتباع الرسل، وهو جهاد الأئمة، و هو أفضل الجهادين لعظم منفعته و شدة مئونته و كثرة أعدائة" [6].

لقد وُصِف القرن العشرين بامتياز " قرن الرأي العام " حيث أنشأت معاهد خاصة لدراسة الرأي العام، فالوسيلة الإعلامية هي التي تلعب دوراً أساسياً في صوغ مواقف و اتجاهات الشعوب و سيكون من الصعب على أكبر طاغية حتى و لو كان مستبداً أن يتجاهل اتجاهات شعبه، و إلاّ فسيلحق بمصير المستبدين من أسلافه، و لذا عادة ما نسمع أن حاكماً ما أبلغ قوى كبرى مؤثرة في سياسات بلاده بأنه لا يستطيع الموافقة على سياسة ما كون الشعب لن يقبل بها كتأكيد على أهمية الرأي العام حتى في الدول الاستبدادية.

" وبعد هذا الإسهاب في بيان الحرب الإعلامية التي تحياها الأمم يوضح تقسيمات الرأي العام ومدى نفوذه وتأثيره على الحكومات، فقال ":

و تنامى دور الرأي العام بعد تطور عملية الاتصال الجماهيري و ظهرت قوته في التأثير على الحكومات، سيما بعد الحربين العالميتين الأولى و الثانية.

ففي العام 1937 ظهرت أول مجلة فصلية في الرأي العام في الولايات المتحدة الأميركية، و أنشأ في العام نفسه عدة مراكز لقياس الرأي كان منها معهد " غالوب " المعروف.

و حين الحديث عن الرأي العام لا بد من تقسيمه إن كانت تقسيماته تتم بحسب الزمان أو المكان، و لكن حسبما يرى الدكتور " عاطف عدلي العبد " يقسم إلى ثلاثة أقسام وهي:

1- الرأي العام القائد أو المسيطر 
و يتكون هذا النوع من الرأي العام من فئة من المثقفين
و المفكرين و من صفوة الجامعيين و الدكاترة و العلماء
والكتاب، و يأخذون دور القيادة و النصح و الإرشاد،
و لا يتقبلون الأمور إلا بعد قوة اقتناع كبرى، و هذا ما يسمى بـ: " الرأي العام المستنير ".

2-   الرأي العام القارئ: و يطلق عليه أيضاً الرأي العام المثقف، وهي الفئة التي تقل عن فئة الرأي المستنير و يكون تأثيرها أقل عمقاً مما يتركه تأثير الفئة السابقة، وما يميز هذه النوعي ة أنها تفهم و تستوعب المعلومات و تجمع الأفكار و الآراء و الأخبار و تشكل رصيداً معرفياً و سياسياً هاماً.

3- الرأي العام المنقاد:
وهي فئة دون الفئتين السابقتين، و تمثل في مجمل الأمر نسبة معتبرة من المجتمع، كما أنها تضم الأميين الذين ينقادون سريعاً للفئتين السابقتين في الرأي العام " [7].

و نزولاً على أرض الواقع و كتطبيق عملي على مدى تأثير وسائل الإعلام على الجماهير أجرى معهد السياسة المناهضة للإرهاب في المركز المتعدد المجالات في " هرتزيليا " بالكيان الصهيوني و ذلك عن مدى تأثير وسائل الإعلام في نقل عمليات الفلسطينيين و خاصة الهجمات بمدافع الهاون على المستعمرات اليهودية في نيسان / إبريل من العام 2001 أثناء الانتفاضة الثانية، فأجاب 27 % أن التقارير الإعلامية تُضاعف الإحساس بالخوف و العجز، بينما قال 34% في استطلاع عام 1999 أن تقارير وسائل الإعلام تعزز الرغبة من التوصل لحل الصراع بسبل سلمية و قال 15% فقط بذلك في آذار / مارس من العام 2001 م [8].

لكن لا بد من التسليم بأن الأجهزة الحاكمة في البلدان العربية ما تزال تصر على الاستئثار بتشكيل و تعبئة الرأي العام العربي، و يظهر ذلك من رغبتها في خروج مظاهرة أو وقف أخرى، رغم زحف وسائل الإعلام العربي و خاصة الفضائية منها على مناطق كانت و ما تزال إلى حد ما من خصوصية السلطة السياسية في العالم العربي.

وقد طغى التلفاز على معظم وسائل الإعلام في هذا العصر، و بدأ يخاطب الجماهير من فوق رؤوس الحكومات، و غصباً عنها، الأمر الذي سبب أزمات بين دول ربما بدون رغبة الحكومات، فمن أهم وظائف الإعلام تشكيل الوعي و التنشئة الاجتماعية و التبليغ و الاتصال الإنساني، و هي قضايا في غاية الأهمية من أجل تكوين الرأي العام بغض النظر عن التأثير الصدمي المعروف بتأثير الرصاصة أو التأثير التراكمي.

و نحن هنا لا نُغفل دور الجهات الأخرى مثل الأسرة و المدرسة و المسجد و نحو ذلك، و لكن لعل التلفاز يتبوأ الصدارة في عملية التأثير لأسباب منها:

ــ أن المشاهد الذي يجلس أمام التلفاز يكمن دوره في التلقي دون إبداء أي رأي، بعكس الجهات الأخرى، إضافة إلى أن الساعات التي يقضيها أمام التلفاز ربما أكثر من الساعات التي يقضيها مع الجهات الأخرى.

و لعل بعض الدول العربية وإدراكاً منها لأهمية الإعلام ودوره فقد خطت المغرب خطوة مهمة حين أمرت بتشكيل لجنة لمتابعة ما يدور في الصحافة والإعلام من أجل معالجة النواقص و القصور، و ذلك بهدف تحسين الأداء الحكومي بحسب تصريحات لوزير الثقافة و الإعلام المغربي [9].


فالمعروف أن الإعلام " صحافة ــ إذاعة ــ تلفاز " إنما هو انعكاس لما يعتمل في أحشاء المجتمعات، و بالتالي فإن الإعلام هو الذي يستجيب لمطالب المجتمع، لا أن يكون الإعلام في أيدي السلطات يروج لها وجهة نظرها بعيداً عن اهتمامات و مشاغل المواطنين.

والرأي العام هو الذي يفرض الخطوط الممنوعة والمسموحة للإعلام لا العكس، لكن وللأسف ففي المنطقة العربية يحدث العكس، و يشرح ذلك الكاتب الكويتي " عبد الله النفيسي " بالقول:"... الأخطر من ذلك كله أن صاحب الرأي و الفكر أصبح لا يمتلك وسيلة للتعبير عن رأيه لأن الإعلام عموماً أصبح بيد قلة في السوق، لذلك ليس بوسع النخبة إلاّ التسوّل على باب هذه الإمبراطوريات الإعلامية الضخمة هذه العلاقة الجدلية بين النخبة و الإعلام في الخليج أيضاً بحاجة إلى دراسة
وتمحيص و استخلاص لما لها من أهمية قصوى في بناء مستقبل البناء السياسي مع المجتمع العربي " [10].

و بكل تأكيد فإنه لضمان تشكيل رأي عام حقيقي بعيداً عن الخوف و التملق و الكذب التي انطبعت به مجتمعاتنا حتى غدت أشبه ما تكون " بثقافة الكذب " لضمان ذلك كله لا بد من عملية متكاملة ديمقراطية من الحرية السياسية إلى الثقافية إلى التعليمية و الاقتصادية، الأمر الذي يصوغ جواً من الحرية و الصدق و الشفافية و المساواة، و لن يكون هناك حينها من يتخندق وراء مواد دستورية تحميه من الانتقاد و الكشف عن سوءاته في الفساد و الرشاوى و نحوها كما فعلت الفضيحة الهندية الأخيرة التي أرغمت عدداً من الوزراء و أعضاء الحزب الحاكم على الاستقالة بعد أن تورطوا في استلام رشاوى من صحافيين عمدوا إلى توريطهم في القضية، و بعد أن كشفوا صور تلقي المسئولين للرشاوى على الشاشة الصغيرة استقالوا جميعا.

ولكن لا بد من الاعتراف أن هذه الفضائيات غطت كل المساحة الموجودة للمشاهد في تكوين أي رأي، بحيث لم يعد للأب أو لغيره مجال لملء ذلك الفراغ، الأمر الذي جعلته يفكر بطريقة و أسلوب واحد، غير أنه أيضاً وجود قنوات فضائية عدة و متنوعة أرغمها على طرح وجهات نظر عدة و بالتالي لم يعد المشاهد أسير فضائية واحدة و إلاّ فإن جهاز التحكم عن بعد " الريموت كونترول " موجود لتحويل القناة.

و إن كان الدين أحد المصادر الأساسية لتكوين الرأي العام فالوسيلة المهمة في نقل أحداثه و معطياته إلى العامة هي الوسيلة الإعلامية، والفضائيات، و لعل نقل الفضائيات صورة الإرهابي الصهيوني " شارون " مع جنوده و هم يدنسون باحات المسجد الأقصى كانت شرارة انطلاقة الانتفاضة الفلسطينية في العام 2000، و الكل يعرف ما يحدثه نقل حادثة دينية أو قتل طائفي، أو تدنيس لشعيرة ما من أثر في الشعوب التي يعد الدين أحد مكوناتها الأساسية.

و لا بد من الالتفات إلى الترابط بين القول والفعل و الإعلام و إلاّ فالصدود هو العنوان الرئيسي، و الجواب الفاصل للدعاية الإعلامية.
" في عالم اليوم لا تنفصم الدعاية الإعلامية عن الرأي العام العالمي المؤثر مباشرة على سير العمل الدبلوماسي للحكومات وللمنظمات الدولية، والإعلام لم يعد أقوالاً وبيانات وادعاءات، وإنما هو بحاجة إلى تخطيط وتنسيق مع بقية الأفعال اليومية. هكذا لا يمكن نجاح الإعلام إذا لم تكن القيادة والممارسات متجاوبة مع أهدافه.
الإعلام الفاشل هو الذي يُسخر جزافاً لخدمة قضية سياسية أو سياسة قائد وبدون التناسق بين القول والفعل... ولهذا يمكن للحق أن يفشل وللظلم أن ينجح إعلامياً، فالمهم هو الأداء المتناغم بين الأقوال والأفعال، ومراعاة أحوال المستهدف إعلامياً " [11].

و يشمل التأثير الفضائي أنواعاً عدة هي:
التأثير الأول، وهو:
تأثير تغيير الموقف و الاتجاه، وذلك عبر تغيير موقف المشاهد إزاء قضية ما.

و هناك التأثير الثاني وهو:
التأثير المعرفي، و هو أعقد من الأول على أساس يمس مرجعيات و نمطيات تفكير و تغيير قناعات مثل: النظرة الإسلامية إلى المرأة، و النظرة العلمانية أو الغربية إليها، فبالتأكيد أن عملية التغيير التي طرأت على تفكير العديد من المجتمعات الإسلامية إلى المرأة لم تكن وليدة موقف، و إنما وليدة معلومات و مواقف و سلوكيات أدت إلى هذا الموقف.

و التأثير الثالث هو:
التنشئة الاجتماعية فبعد أن كانت الأسرة والمسجد و المدرسة تؤدي أدواراً متفاوتة في التأثير على الطفل جاء عصر الاتصال ليحول تلك الأدوات إلى مساهمين فرعيين و يذعن الجميع للمربي الكبير و هو الفضائية أو التلفاز.

و هناك التأثير الرابع و هو:
الإثارة الجماعية، و الهدف منه الوصول إلى قطاع واسع من الجماهير، و عادة ما تسعى إلى تحريك الشعور الوطني مثلما حصل في انتفاضة فلسطين و حشد القنوات العربية ضد الاحتلال الإسرائيلي، و خروج الشارع العربي كله ضد ما يتعرض إليه الفلسطينيون، و نفس الأمر يمكن أن يتم من خلال عملية الإثارة في الكوارث أو الأوبئة و نحوها.

أما التأثير الخامس المتمثل بـ:
الاستثارة العاطفية، فالمعروف أن للعواطف تأثيرا كبيرا على الإنسان، و لذا فصورة لمهاجر أفغاني يرثى لحاله يمكن أن تدفع محسنا أو متبرعا لمساعدته، و لعل هذا تجسده مشاهد الطفل " محمد الدرة " الذي جيش الشارع العربي ضد المحتل الفلسطيني.

ويعد التأثير السادس خطيراً و الذي يدعى:
صياغة الواقع، إذ أن وسائل الإعلام ربما تصور واقعاً اقتصادياً أو عسكرياً أو سياسياً غير الواقع على الأرض، كما حصل في تصوير قوة العراق خلال حربه مع الحلفاء، و كذلك تصوير الجيوش العربية قبل هزيمة حرب 1967.

و لعل الأسوأ من ذلك كله التأثير السابع المتمثل بـ:
تكريس الواقع، وهو عادة ما تبرع فيه الفضائيات الحكومية بالقول ليس بالإمكان أبدع مما كان، و بذل الجهود المكثفة في إقناع المشاهد و المتلقي بالقبول بالواقع، وتسعى هذه الوسائل إلى تبريره و إيجاد المسوغات له، و ذلك لخدمة نخب مسيطرة تخشى على مكتسباتها، و لعل هذا يظهر في التغطية الواسعة للفن و الرياضة و أنشطة شخصيات مسؤولة

و رداً على هذه المخاوف التي تساور القيادة الأميركية بشأن تنامي موجة العداء العربي ضدها قررت إذاعة صوت أمريكا مد ساعات إرسالها إلى: 24 ساعة بدلا من 7 ساعات حالياً، واستخدام لهجات محلية، والتركيز على 5 مناطق، ويأتي ذلك في إطار خطة ستنفض فيها الإذاعة برامجها العربية بالكامل حتى تكون مقبولة من قبل مستمعيها من الشباب، وذلك مع تنامي مشاعر العداء لأمريكا في العالم العربي. وتريد المحطة جذب المستمعين دون الـ 30 عاماً بشكل خاص، وهم الفئة التي تلوم الولايات المتحدة على المشاكل المتصاعدة في المنطقة.

ويقول المسؤول عن البث إلى « الشرق الأوسط » " نورمان باتز " إن « ثمة حرباً إعلامية جارية في المنطقة... ولا تتمتع وسائل البث الأمريكية بتأثير هناك ».

و لمعاقبة الإعلاميين العرب الذين يؤيدون و يتعاطفون مع الانتفاضة ذكرت بعض وسائل الإعلام في حينها أن المنظمات الصهيونية تعد لحملة عالمية ضد الصحافة و الصحافيين والكتاب و المفكرين المصريين بتهمة العداء للسامية، ومنعهم من السفر إلى البلاد الأوربية أو الاتصال بالعالم الخارجي و حضور المؤتمرات الدولية.

ووصل الأمر إلى أن ينشر المستوطنون قائمة بأسماء الصحفيين والمصورين الفلسطينيين الذين يطالبون بقتلهم لمسؤوليتهم في فضح الصهاينة عبر الإنترنت، ونشروا قائمة بأسماء المصورين الصحفيين " الخطرين " جداً ؛ لأن عدساتهم تنقل جرائمهم واعتداءات جيش الاحتلال.

لكن بالمقابل ينبغي الاعتراف بأن كثيراً من الفضائيات العربية يخجل أي إنسان أن يجلس أمامها مع بناته و أولاده و ذلك للبرامج الخلاعية التي تصرف الأمة عن همومها   وتؤدي دوراً خطيراً في عملية مسخ الهوية التي يجرى لمسخها، و تخرج مجتمعا مشوها خاصة في ظل اعتمادهم على المرأة سلعة مروجة لبضائعهم الكاسدة، و كأن المرأة لم تخلق إلاّ لعرض مفاتنها و بيع جسدها أو عرضه مقابل التسويق لبضائع أميركية و صهيونية أفتى علماء الإسلام بالتوقف عن شرائها...
-------------------------

[1] - لماذا ينفرد الإنسان بالثقافة ؟ الثقافات البشرية: نشأتها و تنوعها تأليف مايكل كاريذرس و ترجمة شوقي جلال، سلسلة عالم المعرفة الصفحة 19 – 20، كانون الثاني / يناير من العام 1998.

[2]- من أجل التغيير، سلسلة مشكلات الحضارة، الصفحة 115 دار الفكر – سورية، 1995.

[3]- الإعلام العربي في عصر المعلومات، رؤية تحليلية الصفحة 62، إصدار مركز زايد للتنسيق و المتابعة في تشرين الثاني / نوفمبر من العام 2000.

[4] - الإعلام العربي في عصر المعلومات رؤية تحليلية، ص إصدار مركز زايد للتنسيق و المتابعة، في تشرين الثاني / نوفمبر، 2000.

[5] - دكتور محمد منير حجاب، أساسيات الرأي العام، ص 24، الطبعة الثانية 2000، دار الفجر للنشر و التوزيع – القاهرة.

[6] - مفتاح دار السعادة – نشر دار ابن عنان، تحقيق علي حسن الأثري بتصرف،انظر 1/ 171- 173.

[7] - الإعلام العربي في عصر المعلومات، ص 35 – 36، عن مركز زايد للتنسيق و المتابعة في تشرين الثاني / نوفمبر من العام 2000.

[8]- البيان الإماراتية الصادرة بتاريخ 20 – 4 – 2001.

[9]- القدس العربي الصادرة في لندن بتاريخ:21- 4 – 2001

[10]– الاتحاد الظبيانية بتاريخ: 24 – 2 – 2001.

[11]- عبد الجبار عدوان، الدبلوماسية بين العمل العسكري و الإعلامي، الشرق الأوسط اللندنية الصادرة بتاريخ 18 – 5 – 2001.

____________________________________________________
اسم الكاتب: إسلام آباد ـ محمود عبد السلام