بركة العشر وشيء من فضائلها

منذ 2021-07-13

قال صلى الله عليه وسلم قال: «ما من عَمَلٍ أَزْكَى عِنْدَ الله عزَّ وجلَّ ولا أَعْظَمَ أَجْرًا من خَيْرٍ يعملهُ في عَشْرِ الْأَضْحَى» قِيلَ: ولا الْجِهَادُ في سَبِيلِ الله؟ قال: «ولا الْجِهَادُ في سَبِيلِ الله عز وجل إلا رَجُلٌ خَرَجَ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ فلم يَرْجِعْ من ذلك بِشَيْءٍ»،

جاء في الحديث الصحيح قال صلى الله عليه وسلم: «أفضلُ أيامِ الدُّنيا أيامُ العشرِ»، أيامٌ فاضلةٌ، وموسمٌ مباركٌ، وأوقاتٌ ثمينةٌ نفيسةٌ، هي أعظمُ الأيّام عند الله فضلًا، وأكثرُها أجرًا، وأحبُّهَا إليهِ عملًا، جاء في الحديث الصحيح: «ما مِن أيّامٍ العملُ الصّالحُ فيها أحبُّ إلى الله من هذه الأيام»، وفي صحيح البخاري عن ابن عَبَّاسٍ رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما من عَمَلٍ أَزْكَى عِنْدَ الله عزَّ وجلَّ ولا أَعْظَمَ أَجْرًا من خَيْرٍ يعملهُ في عَشْرِ الْأَضْحَى» قِيلَ: ولا الْجِهَادُ في سَبِيلِ الله؟ قال: «ولا الْجِهَادُ في سَبِيلِ الله عز وجل إلا رَجُلٌ خَرَجَ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ فلم يَرْجِعْ من ذلك بِشَيْءٍ»، ومن فضل اللهِ وعظيمِ كرمهِ على عباده، أنّ المسلِم دائمًا ما يعيشُ مباركًا، فهو مُباركٌ في أعماله وطاعاتهِ، مباركٌ في أوقاته ولحظاتهِ، مباركٌ في علاقاتهِ وتعاملاتهِ.

 

 

نعم يا عباد الله؛ فالطاعة فيها بركةٌ عجيبة: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} [الأنعام: 160]، فتلاوة الحرفُ الواحد من القرآن بعشر حسنات؛ وكذلك الصلاةُ بعشر صلواتٍ كما في الحديث القدسي: خمسٌ في العدد وخمسون في الميزان، وشهرُ رمضان بعشرة أشهرٍ، ومن بركة الطاعةِ أنها طُهرةٌ من الذنوب، فالجمعةُ إلى الجمعةِ والعمرةُ إلى العمرةِ ورمضانُ إلى رمضان مُكفراتٌ لما بينهن إذا اجتنِبت الكبائر، ومن حجَّ فلم يرفُث ولم يفسُق رجعَ من ذنوبه كيوم ولدتهُ أُمُّه، والطاعةُ بركةٌ في التعامل؛ فبالتعامُل الحسنِ يُدركُ الإنسانُ درجةَ الصائِم القائم، ويحظى ببيتٍ في أعلى الجنة، ويُجاورُ فيها الرسولَ الأعظم صلى الله عليه وسلم، وأعظمُ الزمن بركةً، هي عشرُ ذي الحجة؛ إذ أن لها مكانةً عظيمةً عند الله تعالى، تدلُ على محبتهِ لها وتعظيمهِ إياها، فهي عشرٌ مباركات، كثيرةٌ الحسنات، عاليةٌ الدرجات، مُتنوعةُ الطاعات، مُتعددةُ الفضائل والمميزات، فمن فضائل هذه العشرِ المباركة: أنَّ الله تعالى أقسمَ بها فقال: {وَلَيالٍ عَشْرٍ} ولا يُقسمُ تعالى إلا بعظيم، ومن فضائلها: أن العبادات تجتمعُ فيها ولا تجتمعُ في غيرها، ومن فضائلها: أنها أفضلُ أيام الدنيا على الإطلاق، وأنها أحبُّ الأيام إلى الله تعالى، وأنَّ العملَ الصالح فيها أحبُّ إلى الله تعالى من العمل في غيرها، ومن فضائلها: أنَّ فيها يومُ عرفةَ، يومُ الحجِّ الأعظم، فما رئي الشيطانُ أصغرَ ولا أحقرَ ولا أدحرَ مِنهُ في يوم عرفة، لما يَرَى من كثرة تنَزُّلِ الرحمات، كما أنَّ صَومهُ تطوعًا لغير الحاجِّ يُكفرُ ذنوبَ سنتين.

 

 

ومن فضائل العشر: أنَّ فيها يومَ النَّحرِ، وهو أفضلُ الأيام كما في الحديث، وفيه مُعظمُ أعمالِ الحجِّ.. فهي إذنً أيامٌ مُباركات، تتنوعُ فيها الفضائلُ والخيرات، وتتضاعفُ فيها الأجورُ والحسنات، وتزدادُ فيها النفحاتُ والرحمات، فحريٌ بالمسلم أن يستقبلها بتوبةٍ صادقةٍ نصوح، وأن يعزمَ على اغتنامها، وأن يحرص على الإكثار من الأعمال الصالحةِ فيها.

 

وأفضل الأعمال المشروعة فيها: الإكثار من الذكر، ففي الحديث الصحيح: "فأكثروا فيهنَّ من التهليلِ والتكبيرِ والتحميد".. والذكر كما يشملُ الحمدَ والثناء، فهو يشملُ التلاوةَ والاستغفارَ والدعاء.. والذكرُ هو أيسرُ العبادات وأسهلها، واجلُّها وأفضلُها، قال تعالى: {وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ}، وفي الحديث المشهور: «أَلَا أُنَبِّئُكم بِخَيْرِ أعمالِكُم، وأَزْكاها عِندَ مَلِيكِكُم، وأَرفعِها في دَرَجاتِكُم، وخيرٌ لكم من إِنْفاقِ الذَّهَب والوَرِقِ، وخيرٌ لكم من أن تَلْقَوا عَدُوَّكم، فتَضْرِبوا أعناقَهُم، ويَضْرِبوا أعْناقكُم»؟ قالوا: بَلَى، قال: «ذِكْرُ اللهِ» .. ذِكرُ اللهِ جلَّ وعلا: هو قوتُ القلوبِ، وقرةُ العيونِ، وسُرورُ النفوس، وانشراحُ الصدور، ورَوْحُ الأرواحِ.. يطردُ الشيطان، ويرضي الرحمن .. ويقوي القلبَ، ويُنشطُ البدنَ، ويُنورِ الوجه.. ويكسو الذاكرَ مهابةً ونُضرةً.. ويُزيلُ الهمَّ والغمَّ والوحشةَ، ويغمرُ القلبَ أُنسًا وسكينةً وطمأنينة، {أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ}.. بالذكر تُستجلبُ النِّعم، وتُستدفعُ الشرورُ والنِّقم، وتكفَّرُ الذنوبُ والمعاصي وان كانت مثل زبدِ البحر.. وذِكرُ الله تعالى: هو رأسُ الشكر، وجلاءُ الغفلة، ودليلُ الانابة، وعنوانُ المحبة، وغِراسُ الجنة.. وهو سببُ تنزُّلِ السكينةِ، وغِشيانُ الرحمةِ، وحُفوفُ الملائكة، وذِكرُ الله للذاكر.. {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ}.. وذكرُ الله تعالى: يورثُ المحبةَ والقربَ والموالاة.. وحُسنَ المراقبةِ والمحاسبة.. وقوةَ التوكلِ وزيادةَ الإيمان.. {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ}... وذكرُ اللهِ تعالى: مأمورٌ بـه على كل حال، لا يتقيدُ بزمانٍ ولا بمكانٍ، ولا يحتاجُ إلى طهارةٍ، ولا إلى استقبالِ قِبلةٍ، قال تعالى: {فَإِذَا قَضَيْتُمُ ٱلصَّلَوٰةَ فَٱذْكُرُواْ ٱللَّهَ قِيَـٰمًا وَقُعُودًا وَعَلَىٰ جُنُوبِكُمْ}.. إلى غير ذلك من فضائل الذكر ومميزاته.. ثم إن من أفضلِ الأعمالِ المشروعة في هذه العشرِ المباركة: المحافظةُ على السنن الرواتبِ القَبليةِ والبعدية، والإكثارِ من النوافلِ كصلاة الليلِ والضحى، فهي سببٌ مباشرٌ لنيل محبةِ اللهِ ورضوانه.. وكذلك الإكثارُ من الصدقة، فالصدقةُ في هذه الأيامِ، أفضلُ من الصدقةِ في رمضان.. ومن أفضل الأعمال المشروعة في هذه الأيام الصيام: فمن صامَ يومًا في سبيل اللهِ باعدَ اللهُ به بينهُ وبين النار سبعينَ خريفًا، هذا في الأيام العادية، فكيفَ بصيام هذه الأيامِ المباركة.. ومِن أعظمِ القُرُباتِ المشروعةِ في خِتام هذه الأيامِ الفاضلة: الأضاحي، فمن أرادَ أن يضحّيَ عن نفسهِ أو أهلِ بيتهِ ودخلَ شهرُ ذي الحِجّةِ فلا يأخذ مِن شعره وأظفاره أو جِلده شيئًا حتّى يذبحَ أضحيتَه، لِما روته أمّ سلمة عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه قال: «إذا رأيتُم هلالَ ذي الحجة وأرادَ أحدكم أن يضحّيَ فلا يأخذ من شعرِه وأظفاره شيئًا حتى يضحّي» مسلم، وشأنُ الأضحيةِ شأنٌ عظيمٌ فقد ثبت في الحديث أن للمضحي بكلِّ شعرةٍ حسنة، وحذَّر المصطفى صلى الله عليه وسلم القادرَ من تركها فقال: «من وجدَ سعةً ولم يُضحي فلا يقربنَّ مُصلانا».

 

فدونكم يا عباد الله الفضائلَ فاغتنموها، والفرصةَ الغاليةَ فاستثمروها، فالموفق من استثمرَ الفرصَ السانحة، وأكثرَ فيها من الاعمال الصالحة، فبادروا يا عباد الله بالطاعات، وسابقوا في الخيرات، واجتهدوا في القربات، ونافسوا في المكرمات، {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران: 133، 134].

 

معاشر المؤمنين الكرام: يُلاحِظُ المتأمِّلُ أنَّ هذه الأيامَ المباركةِ تقعُ في أواخر العامِ.. لكأنَّها تعويضٌ للمُفرطين والمقصرين؛ ليتداركوا أنفسهم، وليعوضوا ما فاتهم، وليصلِحوا أخطائهم، وليتذكر العبدُ بنهاية سنتهِ نهايةَ عُمُرهِ، فيعقدَ العزمَ على استثمار ما بقيَ لهُ من عُمر، فهذه الدنيا أيامٌ قلائل، سرعان ما تمضي وترحل، وكُلُّ ما من يُصيبُ الإنسانَ فيها من عُسرٍ أو يُسر، فهو كذلك مع مرور الأيامِ يُنسى ويضمحِلُ، وهكذا ما يُصيبُ أهلَ الإيمانِ والتقوى من مشقةِ الطاعةِ وتعب العمل، وكفِّ النفسِ عن المحرمات والهوى وطول الأمل؛ فإنهم ينسونَ ذلك كله بمجردِ انتهاءِ وقتهِ، وذهابِ مشقتهِ؛ فالصائمُ الذي جاعَ وعطِش، ينسى جوعهُ وعطشهُ بمجرد فِطره، والحاجُّ الذي لحِقهُ من مشقة الحجِّ ما لحقهُ، ينسى ذلك كُلهُ بمجرد إتمامِ حجِّه، وانقضاءِ نُسُكِه، وكذلك أهلُ الشهواتِ والملذات، فإنهم ينسونَ لذتها، وتتلاشى مُتعتُها بمجردِ مُفارقتِها، وتبقى السيئات والأوزار وشؤمها، وتبقى الهموم والأحزان وقلقُها، وتبقى عِيشةُ الضنْكِ التي وُعِدَها، وهذا من عذاب الدنيا، ولعذاب الآخرةِ أشدُّ وأخزى، وصدق من قال:

تفنى اللذاذةُ ممَّن نالَ صفوتها   ***   من الحرام ويبقى الإثمُ والعارُ 

تبقى عواقبُ سوءٍ من مغبتها   ***   لا خيرَ في لذةٍ من بعدها النـارُ 

 

فحريٌّ بالمسلم العاقل، أن يتعظَ ويعتبر، وأن يستثمرَ أوقاتهُ بالطاعات والذكر؛ لعلمِه أنَّ العاقبةَ للتقوى، وأنَّ ما يلحقُه من التعب والمشقةِ يزولُ ويُنسى، وأنَّ ما وعِدَ به من الثواب والجزاء خيرٌ وأبقى، يتنعمُ به خالِدًا مخلدًا في جنَّة المأوى، وكذلك حريٌّ به أن يتركُ المحرماتِ ويهجُرها، ليقينه أن لذتها تزولُ بزوالها، ويبقى عليه وزرُها وشؤمها، وأن يستفيدَ من الأزمانِ الفاضلة، والأوقاتِ المباركة التي اختصها الله تعالى بشعائره العظيمة، فيعظمَها كما عظَّمها الرَّبُّ تبارك وتعالى، ويخُصَّها بكثرة النوافلِ والقربات، فالمغبونُ بحقٍّ من فاتتهُ هذه الفُرَصُ الثمينةُ، وفرَّطَ فيها، والمحرومُ بصدقٍ مَن دعَتهُ دواعي الخيرِ فأبطأ عنها ولم يغتنمها. والخسارةَ كُلُّ الخسارةِ لمن ضيَّع أفضلَ أوقات الدنيا في اللهو والغفلة، وسوفَ يتحسَّرُ ويندمُ يومَ لا ينفعُ الندم: {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ وَاللهُ رَءُوفٌ بِالعِبَادِ} [آل عمران: 30].

 

فيا ابن آدم عش ما شئت...

______________________________________
الكاتب: الشيخ عبدالله محمد الطوالة