معاناة الشيخ عثمان دابو في رحلته إلى الحج
جزء من محاضرة إلى قاصدي البيت الحرام
" وأخبار الكثيرين منهم مسطورة محفوظة، منهم من وصل، ولكن بشق الأنفس، ومنهم من لم يصل، وكثيرون اللهُ هو الذي يعلمهم وحده.
ولقد دُونت أخبار بعض هؤلاء، فمن ذلك: خبر شيخ منهم قبل نحو خمسين سنة، وهو رجل معروف في البلاد الإفريقية الغربية، وهو الشيخ عثمان دابو من بلاد "جامبيا" في أقصى الغرب الإفريقي، تحدث مع بعض أصحابه عن حج بيت الله الحرام، وكيف أن الله عز وجل قد عافاهم، ثم هم لا يجيبون دعوة إبراهيم ﷺ فخرج مع أربعة من صحبه يمشون على الأقدام، لا يركبون إلا في فترات يسيرة متقطعة على بعض الدواب، حتى وصلوا إلى البحر الأحمر، ثم ركبوا سفينة إلى ميناء جدة، استمرت رحلتهم مدة تقرب من السنتين في الطريق إلى مكة دون العودة، ينزلون أحياناً في بعض المدن يتكسبون، ويتروحون، ويتزودون لنفقات رحلتهم، ثم يواصلون المسير.
خرج هؤلاء من دورهم ليس معهم من القوت إلا ما يكفيهم لمدة أسبوع واحد، وأصابهم في طريقهم من المشقات، والضيق، والكروب ما الله به عليم، كما يحدث عن نفسه.
فكم من ليلة باتوا فيها على الجوع حتى كادوا يهلكون! وكم من ليلة طاردتهم فيها السباع، وفارقهم لذيذ المنام!.
وكم من ليلة أحاط بهم الخوف من كل مكان! فقطاع الطريق يعرضون للمسافرين في كل واد، ومحل.
يقول: لُدغت ذات ليلة في أثناء السفر، فأصابتني حمى شديدة، وألم عظيم أقعدني، وأسهرني، وشممت رائحة الموت تسري في عروقي، فكان أصحابي يذهبون للعمل، وكنت أمكث تحت ظل شجرة إلى أن يأتوا في آخر النهار.
يقول: فكان الشيطان يوسوس في صدري، أما كان الأولى أن تبقى في أرضك؟ لماذا تتكلف هذا العناء، والله لم يفرض عليك هذا الحج؟.
يقول: فثقلت نفسي، وكدت أن أضعف، فلما جاء أصحابي نظر أحدهم إلى وجهي، وسألني عن حالي، فالتفت عنه، ومسحت دمعة غلبتني، فكأنه أحس ما بي، فقال: قم فتوضأ، وصلِّ ركعتين.
يقول: فقمت، فشرح الله صدري، وقوى قلبي.
أيها الأحبة، قد مات ثلاثة منهم في الطريق، كان آخرهم موتاً قد مات في لجج البحر الأحمر.
يقول الشيخ: لما مات صاحبنا الثالث نزل بي هم شديد، وغم عظيم، وخشيت أن أموت قبل أن أنعم بالوصول إلى المسجد الحرام، فكنت أحسب الأيام، والساعات على أحر من الجمر، فلما وصلنا إلى جدة مرضت مرضاً شديداً، وخشيت أن أموت قبل أن أصل إلى مكة، فأوصيت أصحابي إذا أنا مت أن يكفنوني في إحرامي، ويقربوني بقدر الطاقة إلى مكة، لعل الله أن يضاعف لي الأجر، وأن يتقبلني في الصالحين.
يقول: بقينا في جدة أياماً، ثم واصلنا الطريق إلى مكة، كانت أنفاسي تتسارع، والبِشر يملأ وجهي، والشوق يهزني، ويشدني، إلى أن وصلنا إلى بيت الله الحرام، ثم سكت، وهو يحدث صاحبه، ويحكي له ما جرى، وجعل يكفكف دموعه، ثم أقسم أنه لم يرَ لذة في حياته كتلك اللذة التي عمرت قلبه لما رأى الكعبة المشرفة.
يقول: لما رأيت الكعبة سجدت شكراً لله، وأخذت أبكي من شدة الرهبة، والهيبة، كما يبكي الأطفال."
- التصنيف:
- المصدر: