بعض صفات أهل الكتاب

منذ 2021-07-25

يقصُّ علينا القرآن الكريم كيدَ أهل الكتاب - أعني: اليهود والنصارى - لهذا الدين ولِحَمَلَتِه، حيث كانوا يظنُّون أنَّ النبيَّ المبشَّر به منهم، وذكر لنا ما يختلج في نفوس القوم، وشعورهم بالاستعلاء على الآخَرين، وازدراءهم غيرهم، لشعورهم بأنهم جنسٌ فاضلٌ على غيرهم.

يقصُّ علينا القرآن الكريم كيدَ أهل الكتاب - أعني: اليهود والنصارى - لهذا الدين ولِحَمَلَتِه، حيث كانوا يظنُّون أنَّ النبيَّ المبشَّر به منهم: {وَلَمَّا جَاءهُمْ كِتَابٌ مِّنْ عِندِ اللّهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُواْ فَلَمَّا جَاءهُم مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّه عَلَى الْكَافِرِينَ} [البقرة: 89]، وذكر لنا ما يختلج في نفوس القوم، وشعورهم بالاستعلاء على الآخَرين، وازدراءهم غيرهم - ولو كانوا في ميزان الله خيرًا منهم لتقواهم - لشعورهم بأنهم جنسٌ فاضلٌ على غيرهم.

فمن أسباب تيههم وإعجابهم بأنفسهم: زعمهم الكاذب أن لهم الحُظْوَة عند الله؛ فهم أحبابه وخِيرَته من خَلْقِه.

فعلى هذا؛ ما عداهم من الآدميين مُنْحَطُّ الرُّتبة، لا يدانيهم في المرتبة، وعلى الأَُمِّيِّين أن يدركوا هذه الحقيقة - بزعمهم - ويتعاملوا معهم وَفق هذا التَّفضيل الإلهي، تعالى الله عن كذبهم عُلُوًّا كبيرًا: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاء اللّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ} [المائدة: 18].

فإذا كانت هذه مقولة أسلافهم؛ فكيف بخَلَفِهم الذين يتتلمذون على هذه الأباطيل، وما زادها الزمن إلا زيادةً في الضلال والانحراف!!

ويُزيد خَلَفَهم عُجْبًا وكِبْرًا ما أوتوا من تقنية حديثة، وابتكارات علمية، وقوة عسكرية؛ فزادتهم عُلُوًّا كَبِيرًا، و يأتي الردُّ المُفْحِم لهم من الله، داحضًا هذا الادِّعاء:{قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُم بِذُنُوبِكُم بَلْ أَنتُم بَشَرٌ مِّمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَن يَشَاء وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاء} [المائدة: 18].

ومن سيما القوم:

استخفافهم بالرُّسل، وبما أُرسلوا به؛ فلا يرعون لهم حرمةً، ولا يخافون فيهم مرسلَهم، فإذا كان الحقُّ الذي جاؤوا به لا يوافق نفوسهم التي أُشْرِبَتْ حبَّ الشهوات؛ نسبوهم إلى الكذب، ولم يقبلوا الحقَّ الذي جاؤوا به، وهذا في أحسن الأحوال. وحين يلجُّون في غيِّهم؛ يقتلون خِيرَةَ خَلْقِ الله المرسلين: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِن بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّمَا جَاءكُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تَهْوَى أَنفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ} [البقرة: 87].

فإذا كان هذا حالهم مع رسلهم الذين هم من بني جِلْدَتِهم، وتربطهم فيهم أواصرٌ؛ فغيرهم من باب أَوْلى، لاسيَّما الأُمِّيِّين، فلذا كادوا لنبيِّنا ولدعوته بأساليب مختلفة، وكذلك الشأن مع كتبهم السماوية؛ فتارةً يحرِّفونها، وتارةً يكتمون ما فيها من الحقِّ؛ استخفافًا بها، ونَقْضًا للعهد الذي أُخِذَ عليهم بالعمل بها، وبيان الحقِّ الذي فيها.

فلا يُسْتَغْرَب على هؤلاء القوم ألاَّ يُراعوا الحُرُمات الدِّينية لغيرهم، ولا يُعظِّموا ما أَوْجَبَ الله تعظيمه.

فلا يُسْتَغْرَبُ منهم الاعتداء على مقدَّسات المسلمين وشعائرهم الدينية، وعدم احترامها؛ بل استخفافهم بها، وتعمُّد إهانتها، وانتهاك حُرمَتها.

وهم مع ذلك يسعون في تشكيك المسلمين في دينهم! ومن مكائدهم السالفة: أن تدَّعي طائفةٌ منهم الإسلام، ويدخلون في صفوف المسلمين، ويزعمون بحثَهم عن الحقِّ، وطلبَهم للحقيقة؛ فيقومون بإلقاء الشُّبَه على المسلمين؛ تشكيكًا لهم في دِينهم، وفي نهاية المطاف؛ يرتدُّون عن الإسلام الذي دخلوه ظاهرًا، بزعم أنهم لم يجدوه حقًّا، لاسيَّما أن العرب تقتدي بهم في هذا الباب؛ لأنهم أهل كتاب: {وَقَالَت طَّائِفَةٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُواْ بِالَّذِيَ أُنزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُواْ آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [آل عمران: 72].

ولا زال هذا ديدنهم؛ فأسلافهم هذا كيدهم في وقت التشريع، وخَلَفهم المستشرقون بكتباتهم عن الإسلام والقرآن والسُّنة، وإثارة الشُّبَه حولهما، وحول بعض الأحكام الشرعية؛ كالقِصاص، وبعض أحكام الأحوال الشخصية، ويروج ذلك الإعلاميون منهم، عبر وسائل إعلامهم المختلفة، فهم يخلطون الحقَّ بالباطل حتى لا يتميَّز الحقُّ، ويتعمَّدون نقلَ الحقائق على غير ما جاءت، ونسبة العوائد الخاطئة التي يمارسها بعض المسلمين إلى الإسلام؛ تنفيرًا للناس عن دخولهم في هذا الدين، لاسيَّما بني جِلْدَتهم، الذين ليس لهم في الغالب مصادر تلقِّي إلاَّ عن طريقهم: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ} [آل عمران: 71].

ومن سجاياهم:

أنهم لا يرون حرمةً لغيرهم؛ فلذا ليس بمُسْتَغْرَبٍ على أهل الكتاب نظرتهم الدُّونيَّة لغيرهم، واحتقارهم لهم، وقد أشار ربُّنا - عزَّ وجلَّ - إلى ذلك بقوله تعالى: {وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِن تَأْمَنْهُ بِقِنطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُم مَّنْ إِن تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لاَّ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ} [آل عمران: 75].

فلا يُسْتَغْرَب عليهم مع هذا المُعْتَقَد ما يمارسون من أصناف الإذلال لغيرهم، وما يتعدَّون به على أموالهم، وما يرون من أنهم الأحقُّ بثروات الأرض الطبيعية من أهلها، فيزحفون بالجيوش الجرَّارة لتنفيذ هذه المهمَّة، تحت أغطيةٍ شتَّى، ويزداد الأمر سوءًا حينما ينسبون ذلك إلى الله ظلمًا وبهتانًا - تعالى الله عن ظلمهم - ويزعمون أن ما حملهم على التعدِّي على حقِّ غيرهم: أنهم ليس عليهم في دينهم حرجٌ في أَكْلِ أموال الأمِّيِّين - وهم العرب - فإن الله قد أَحَلَّها لهم، وإنما هم: {يَقُولُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [آل عمران: 75].. إن هذا كذبٌ وافتراءٌ على الله!!



فقد حذَّرنا ربُّنا - عزَّ وجلَّ - من عاقبة الإصغاء لأهل الكتاب، وامتثال أمرهم لمَّا تقدَّم من انحراف مُعْتَقَدِهم، وخُبْثِ سريرتهم، وسوء نيَّتهم، فلا يمكن أن نلتقي مع ما يدعوننا إليه؛ للاختلاف بيننا وبينهم في النظرة العامة والاعتقاد، فإذا وجدوا منَّا أذانًا صاغيةً؛ فسوف يستخدمون ذلك في إخراجنا من ديننا ردةً؛ لأنَّ بعض ما يعتقدونه ينافي أساسيات اعتقادنا، فاستحسانه - فضلاً عن اعتقاده - ردَّةٌ عن الدِّين، فلذا اعتنى ربُّنا - عزَّ وجلَّ - في كتابه بفضح خطط القوم، وبيان ما هم عليه من فساد في التصوُّر والاعتقاد.

فهذه الأمَّة المسلمة رَسَمَ الله لها طريقًا تسير عليه في شتَّى مناحي الحياة، منهاجًا لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه؛ لأنه تنزيلٌ من حكيم حميد.

ثم يتبادر إلى الذهن سؤالٌ، وهو: ما هو الحدُّ الذي إذا أطعناهم فيه قبلوا منَّا وتركونا وشأننا؟
والجواب عن ذلك السؤال ممَّن خَلَقَ هؤلاء القوم وعَلِمَ سرائرهم وما تُكِنّه صدورهم؛ حيث يقول ربُّنا - عزَّ وجلَّ-: {وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} [البقرة: 120].

فالمسألة لا تقبل أنصاف الحلول، ولا الالتقاء في منتصف الطريق: فإما أن تحقِّق هذه الأمَّة المسلمة ولاءها لربِّها، وتلتزم أحكامه، وإما أن ترتمي في ضلالات أهل الكتاب، وتكون تابعةً لهم، تسير في مؤخرة قافلتهم.

وانسلاخ الأمَّة من دينها لا يكون دفعةً واحدةً، إنما هي مراحلٌ.

ولا نظنُّ أنَّ مَنْ بيده اتِّخاذ القرار من أهل الكتاب حكومات علمانية لا تدين بالولاء لدينها؛ بل المحرِّك لها عقائد منحرفة موغلة في التطرُّف أحيانًا، ويظهر ذلك في فَلَتَاتِ لِسانهم.

إخواني:

العدل سِمَةُ هذا الدِّين: عدلٌ مع المحبِّ والمُبْغِض، مع العدوِّ والصَّديق.

فالسِّمَةُ العامَّة لأهل الكتاب: ما تقدَّم من بعض أوصافهم الذَّميمة، ولا يمنع هذا أن يوجد فيهم أفرادٌ أو جماعاتٌ من المعاصرين لا ترتضي هذا السلوك المشين وهذا الاعتقاد المنحرف؛ أو ينكرون الظلم والاعتداء على الآخَرين بوسائلهم الخاصة؛ بل هي على الجادَّة في الإيمان وعدم التَّحريف؛ يقول ربُّنا تعالى منصِفًا هؤلاء: {لَيْسُواْ سَوَاء مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللّهِ آنَاء اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ} [آل عمران: 113]، {وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِن تَأْمَنْهُ بِقِنطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُم مَّنْ إِن تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لاَّ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا} [آل عمران: 75].

ولنوطِّن أنفسنا على أننا سنسمع ونرى من أهل الكتاب كل كريهة: {وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ أَذًى كَثِيرًا وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ} [آل عمران: 186]، ويرشدنا ربُّنا في هذه الحالة إلى الصبر وتفويت الفرصة عليهم، متسلحين بالتَّقوى؛ فهي أعظم عُدَّة في حال الشدائد.

فلنتَّقِ الله عامةً في فِعْل المأمور وتَرْك المنهيِّ، حتى في أهل الكتاب، نتَّقي الله فيهم؛ فمن كان منهم محاربًا؛ أُعطيَ أحكامَ المحارَبين، وأمَّا مَنْ كان من أهل العَهْد؛ فيُعْطى أحكام المعاهَد: {وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام: 164].

ولا شكَّ أنَّ الصَّبر والتَّقوى قد يكونان شاقَّيْن على بعض النفوس، لكن عاقبتهما حميدةٌ: النَّصر والتَّمكين؛ فهذا يوسف الصدِّيق بعد أن كِيدَ له صبر واتَّقى؛ فقال بعد التَّمكين: {إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيِصْبِرْ فَإِنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} [يوسف: 90].

_____________________________________
الكاتب: الشيخ أحمد الزومان