إرهاصات ربانية قبل الهجرة النبوية

منذ 2021-08-08

الهجرة.. هذا الحدَثُ الجليل الذي قضَى الله - جلَّ جلالُه - أنْ يكون بداية مِيلاد دَولة الإسلام الأولى، والذي نحن بانتِظار حُلولِه بعد أيَّامٍ قلائل، فتُثِير هذه الذِّكرى العَطِرة في نفس كلِّ مُؤمِن مَشاعِر شتَّى.

الحمدُ لله وحدَه والصلاة والسلام على مَن لا نبيَّ بعدَه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحدَه لا شريك له، وأشهدُ أنَّ محمدًا عبده ورسوله.

 

أمَّا بعدُ:

الهجرة.. هذا الحدَثُ الجليل الذي قضَى الله - جلَّ جلالُه - أنْ يكون بداية مِيلاد دَولة الإسلام الأولى، والذي نحن بانتِظار حُلولِه بعد أيَّامٍ قلائل، فتُثِير هذه الذِّكرى العَطِرة في نفس كلِّ مُؤمِن مَشاعِر شتَّى.

 

إنَّ حدَث الهِجرة لم يكن مُجرَّد انتِقال من مَكانٍ إلى مكانٍ، أو خُروج الدَّعوة من مَوطِنٍ إلى آخَر، وإنما كان قَضاءً مُبرمًا من الحكيم الخبير - سُبحانه - قدَّره ليعلو الإسلام على كلِّ الأديان الباطلة، وليَجعَل كلمة الذين كفروا السُّفلى.. {وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [التوبة: 40].

 

لذا؛ هيَّأ الله - جلَّ وعلا - لهذا الحدَث العظيم أمورًا، وقدَّر أنْ تسبِقَه إرهاصات تُنبِئ عمَّا سيَكُون من قِيام دولة الإسلام ونُصرة الدين الحق.

 

ومن هذه الإرهاصات التي هيَّأها الله - تعالى - ليَكُون الدِّين كلُّه لله، وتسليةً لقلب حبيبه - صلَّى الله عليه وسلَّم - وتثبيتًا لِمَن معه من المؤمنين، وإيذانًا بهذا الحدَث الخَطِير؛ منها: أنَّه حينما قَدِمَ سويد بن الصامت (الملقَّب بالكامل) وهو من الأوس بالمدينة، قَدِمَ حاجًّا أو مُعتَمِرًا، فتصدَّى له النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - ودَعاه إلى الإسلام، فقال: إنَّ هذا لَحسَنٌ، فلمَّا انصَرَف إلى المدينة ودارَتْ حرب بُعاث، قُتِل، فكان قومُه يقولون: قُتِل الكامل وهو مسلم.

 

ومنها: حينما قَدِمَ أبو الحَيْسَرِ أنسُ بن رافع مكَّةَ مع فتيةٍ من الأوس، من بينهم إياس بن مُعاذ، يلتَمِسون حِلفًا من قُرَيش على الخزرج، فقال لهم النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم -: «هل لكم في خَيْرٍ ممَّا جِئتُم له»؟، ودَعاهم إلى الإسلام، فقال إياس - وكان غُلامًا حدثًا -: هذا والله خيرٌ ممَّا جِئنا له، فضرَبَه أبو الحَيْسر بحفنةٍ من الحَصَى في وجْهه وقال: لقد جِئنا لغير هذا، فلم يَلبَث أنْ مات إياسٌ مُهلِّلاً مُكبِّرًا، فما شكُّوا أنَّه مات مسلمًا.

 

وأيضًا: لَمَّا عرَض رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - نفسَه على القَبائل، لقي رَهْطًا من الخزرج عند العقبة، فدَعاهُم إلى الإسلام، وذكَّرَهم بمقالة يهود المدينة: أنَّ هُناك نبيًّا يُبعَث آخِرَ الزَّمان يتبعه يهود، ويقتُلون أهلَ يثرب قَتْلَ عادٍ وثمود، فقالوا: هذا والله هو النبي، وأجابوا دعوتَه - صلَّى الله عليه وسلَّم - وقالوا له: إنَّ بين قومنا شَرًّا، وعسى الله أنْ يجمَعَهُم بك، فإن اجتمَعُوا عليك فلا رجل أعز منك، ثم انصرَفُوا - وكانوا سبعةً - فلمَّا قدموا المدينةَ أخبَرُوهم حتى فشا خبرُه فيهم، فلمَّا كان العام القابل، جاء الموسم من الأنصار اثنا عشر رجلاً، لقُوا النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - بالعقبة وبايَعوه بَيْعَةَ النِّساء، وهي بَيْعَةُ العقَبَة الأولى.

 

لَمَّا عاد هؤلاء الأنصارُ أرسَلَ معهم رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - مُصعَبَ بن عُمَير يُقرِئُهم القُرآن ويُفقِّههم في الدِّين، فأحسَنَ فيهم - رضِي الله عنه - حتى أسلَمَ بدعوته أُسَيدُ بن حُضَير وسعد بن معاذ، وهما سيِّدا الأوس، فأسلَمَ بإسلامهما الأوس جميعًا.

 

لَمَّا حدَث ذلك، اجتَمَع أهلُ المدينة وقرَّروا أنْ يأتوا النبيَّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - في الحج سِرًّا ويَعرِضوا عليه الهِجرة إليهم، فلمَّا أتوا مكَّة واعَدُوه سِرًّا وسط أيَّام التشريق ليلاً عند العقبة، وكانوا سَبعِين رجلاً وامرأتين، وكان مع رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - عمُّه العباس لم يزل على دين قومه، وإنما أراد أنْ يستَوثِق لابن أخيه؛ حيث بيَّن للأنصار أنَّه في عِزَّةٍ ومَنَعَةٍ، فإنْ كانوا مُسلِمِيه فمن الآن، فتكلَّم الأنصارُ بما أثلَجَ صدرَ نبيِّ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - ثم أخَذ عليهم البيعة أنْ يمنَعُوه ممَّا يمنَعُون منه نِساءَهم وأبناءَهم، فبايَعُوه على ذلك وقالوا: لا نقيل ولا نستقيل.

 

كانت هذه وغيرُها مُقدِّمات وإرهاصات بين يدي الهجرة المبارَكة، نتبيَّن من خِلالها أمورًا مهمَّة:

أولاً: أنَّه مهما طالَ بالمؤمنين أَمَدُ البَلاء، فلا بُدَّ وأنَّ الله - عزَّ وجلَّ- جاعلٌ لهم فَرَجًا ومَخرَجًا.

ثانيًا: بَيان فضيلة السابقين إلى الإسلام كسُوَيد بن الصامت وإيَاس بن مُعاذ - رضي الله عنهما.

ثالثًا: بَيان فضْل أهل بَيْعَةِ العقَبَة وشرَفهم - رضِي الله عنهم.

رابعًا: مَعرِفة سُنَّةِ الله في خَلقِه، ومنها التَّدافُع بين الحق والباطل إلى أنْ يُظهِر الله دينَه ﴿ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ ﴾ [الصف: 8].

 

وبعد أنْ هيَّأ الله - جلَّ جلالُه - الأجواءَ لبناء دولة الإسلام في مُهاجَر نبيِّه - صلَّى الله عليه وسلَّم - أَذِنَ - سبحانه - بالهجرة إلى طَيْبَةَ، والتي انطَلَق منها النورُ مُبدِّدًا ظُلمات الشِّرك والكفر في الخافقين.

وفي المقال القادم - إن شاء الله تعالى - نستَعرِض أهمَّ مواقف الهجرة مُتلمِّحين منها العِبَر والعِظات.

أسأل الله بمنِّه وكرَمِه أن يتقبَّل منَّا جميعًا، وأنْ يُوفِّقنا لِحُسْنِ التأسِّي بحبيبه - صلَّى الله عليه وسلَّم.

وآخِر دَعوانا أنِ الحمدُ لله ربِّ العالمين.