الحكمة من وجود الشر

منذ 2021-08-27

لا يُمكن أن يفهم أحد الحكمة من وجود الشر قبل أن يوقن أن هذه الدنيا دار مؤقتة، وأنها دار امتحان وابتلاء ونقص، و إنَّ الذي ينتظر رؤية الكمال المـُطلَق فيها فإنه معارِضٌ للحكمة الإلهية التي اقتضت أن تكون الدار الآخرة هي دار الكمال..

إن عدم إحسان التعامل مع سؤال (لماذا يوجد الشر وتحدث المصائب مع أن الله رحيم) أدى إلى شك شريحة من الشباب والفتيات في وجود الله سبحانه وتعالى، وبعضهم تجاوز الشك والحيرة إلى صريح الإنكار والجحود. وما أكثر ما تغيب الحقائق بسبب النظرة الجزئية ونقص التصور وتعجّل الأحكام قبل التأمّل، مع أنّهم حين ألحدوا وتركوا الإسلام هل وجدوا تفسيراً صحيحاً لموضوع الشر؟!

لا؛ بالطبع، إنهم لم يجدوا ولن يجدوا تفسيراً منطقياً سليماً لهذا الموضوع في دائرة الإلحاد؛ لأنهم يعتقدون أنّ الذي مات مظلوماً مقهوراً فإن نهايته تحت التراب ولن يأخذ حقه أبداً، والذي مات ظالماً جبّاراً فإن نهايته كذلك تحت التراب ولن يعاقب على طغيان، وهذه مفارقة غير مفهومة في ميزان العدالة أبداً.

ويتوهم مثيرو هذا السؤال التعارض بين المصيبة والرحمة، مع أن وقوع المصائب والابتلاءات موافق لخبر الله تعالى وليس معارضاً له، فالله سبحانه وتعالى قد أخبرنا في كتابه في مواضع كثيرة أنه سيبتلي عباده بأنواع من البلاء، منها الخوف والجوع ونقص الأموال والأنفس الثمرات، وهو سبحانه يذكر حكمة ذلك في كتابه؛ فالتعامل مع هذا السؤال وكأن الله لم يخبرنا فيه بشيء يُعد نقصا في التصور والبحث.

ولكي نُحْسِن النظر في قضية وجود الشر، ونجمع بينها وبين وجود الخالق الحكيم فلنتأمل هذه الحقائق الإسلامية:

الحقيقة الأولى:
{وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ} [العنكبوت:٦٤]
لا يُمكن أن يفهم أحد الحكمة من وجود الشر قبل أن يوقن أن هذه الدنيا دار مؤقتة، وأنها دار امتحان وابتلاء ونقص، و إنَّ الذي ينتظر رؤية الكمال المـُطلَق فيها فإنه معارِضٌ للحكمة الإلهية التي اقتضت أن تكون الدار الآخرة هي دار الكمال، وأن تكون هي الحيوان: أي الحياة الدائمة الباقية، فالإسلام يؤكد أن هذه الدنيا ليست في نظر الله شيئًا.

فإن قيل: هذا يفيد المؤمنين، ولكن إذا تحدثنا مع الملحدين فكيف نقنعهم بذلك؟
فالجواب: أن قضية الحكمة من وجود الشر لا يُمكن فهمها بدون إيمان بالله وباليوم الآخر، فإذا كان الـمُناقَش مُلحداً فلا بد من الرجوع معه إلى المربع السابق وهو مربع إثبات وجود الله سبحانه وتعالى ثم إثبات صدق رسالته، -وكل ذلك ممكن بدلائل العقل وليست برهنته متوقفة على نص يستلزم الإيمان المسبق-؛ فإذا ثبت هذان الأمران: (الوجود والرسالة) فقد ثبت اليوم الآخر والبعث، وهو المربع الذي نناقش فيه هنا.
قال الله تعالى عن يوم القيامة: {الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لا ظُلْمَ الْيَوْمَ} [غافر:١٧].
فيقضي الله يوم القيامة بين عباده بالحق، يأخذ للمظلوم حقه، ويعاقِب الظالم على ظلمه، وليس هذا على صعيد البشريّة فحسب، بل يشمل ذلك الحيوانات؛ فقد جاء في الحديث الصحيح عن النبي ﷺ أنه قال: «لَتُؤَدُّنَّ الحُقُوقَ إِلَى أهْلِهَا يَومَ القِيَامَةِ، حَتَّى يُقَادَ للشَّاةِ الجَلْحَاءِ مِنَ الشَّاةِ القَرْنَاءِ». أي أن الشاة التي لم يكن لها قرون في الدنيا فنُطحت من قِبَل ذات القرون تأخذ حقها يوم القيامة، حتى الشياه! فكيف بابن آدم؟!
والذي عاش فقيراً بئيساً وأحسن في حق ربه فإنه يُغمَس في الجنّة غمسة ينسى بها كل بؤس وكل شقاءٍ مرّ به.
فالذي يختزل نظرته إلى الشرور التي تقع على الإنسان فيجعلها نظرة دنيوية فقط، فهو بلا شك سيرى في الأمر ظُلماً، ولكننا نؤمن تماماً بأن الدنيا إنما هي معبر إلى الدار الآخرة.
فلا بد من فهم قضية وجود الشر في ضوء هذه الحقيقة: الدنيا ليست دار جزاء ولا أخذَ حقوق إنما هي دار امتحان واختبار.

الحقيقة الثانية:
الله سبحانه وتعالى جعل للإنسان إرادة يختار فيها بين الخير أو الشر, وذلك لأجل التكليف، فالــمُجبَر لا يمكن تكليفه، والـمُخيَّر هو الذي يمكن تكليفه.
وحين يختار الإنسان الشر (كالقتل والظلم والسرقة والاغتصاب والاضطهاد ومنع الحقوق ونحو ذلك) فإنه يُنسب إليه لا إلى الله سبحانه وتعالى، وأكثر الشرور الموجودة في الدنيا إنّما هي بسبب الإنسان ومِن صنعه, فالمخلفات الصناعيّة التي تسبب الأمراض، والحروبُ التي يقتل فيها ملايين الأشخاص = كلها من صنع الإنسان.


والله سبحانه سيستوفي للمظلومين حقوقهم من الظالمين، ولكنْ في الدار الآخرة التي أراد سبحانه أن يجعلها دار وفاء واستيفاء.


وقد يُعتَرَضُ على هذه الحقيقة بأن الله قدر كل شيء وعلمه. ويجاب عنه بأن من تقديره أن جعل للإنسان اختياراً حقيقياً، فكيف لا يُنسب لصاحب الاختيار نتائج اختياراته؟

وقد يُعترض كذلك ببعض المصائب والكوارث التي ليست من فعل الإنسان مباشرة كالبراكين ونحوها، ويجاب عن ذلك بالحقائق الأخرى التي ذكرتُها هنا، إضافة إلى أن ما يجري من كوارث في الكون على أنواع، فبعضُه عقوبة على فساد الناس، وبعضه جريان لقوانين وسنن تتطلبها حركة الكون وتوازن البيئة ونحو ذلك، وبعضها تذكير للإنسان بعظمة خالقه في مقابل محدودية قدرته البشرية وضعفه أمام أقدار الله تعالى، وغير ذلك من الحكم التي يعلمها الله سبحانه.

الحقيقة الثالثة:
أنَّ كثيراً من الشرور التي نراها ليست شروراً محضة من كلّ وجه، بل يكون فيها جوانب خير، وكم في ثنايا ما نراه شراً من خير كبير، فقد يُصاب الإنسان بمرض يكون سبباً صارفاً له عن شرٍّ أعظمَ منه، وقد يخسر الإنسان صفقة مالية ربما لو كسبها لطغى وتجبّر، وقد يموت للإنسان ولد ربما لو عاش لكان وبالاً عليه، و قد يكون الإنسان مستحقًا للنار بعمله -وهي الكارثة الحقيقية- فيصيبه الله بمصيبةٍ فيصبر عليها فيجزيه على صبره بالجنة -وهي الخير الحقيقي الدائم-. فالله سبحانه وتعالى لا يخلُقُ شرّاً مَحضاً، ولا يُنسَب إليه الشر كما في الحديث الصحيح يقول النبي ق: «وَالشَّرُّ لَيْسَ إِلَيْكَ»،

الحقيقة الرابعة:
أن الله يرى ما لا نرى، ويعلم ما نجهل، ويخلق ما لا نعلم، وهو الحكيم الذي ظهرت آثار حكمته على كل شيء من خلقه، والرّحيم الذي أطعمنا ونحن في بطون أمهاتنا وسخّر لنا كل شيءٍ حولنا؛ فنحن نسلّم بهذا الأصل، فلو رأينا شيئاً لا نعلم حكمته فإن العقل يقتضي جر القياس كما نفعله في كل باب آخر. فإننا حين نرى شركة منتجة لصناعات متقنة غاية الإتقان، ونخبُر منتجاتها فنرى تميزها وإتقانها وإحكامها ثم نرى شيئاً في بعض منتجاتها غير مفهوم الفائدة فإننا نستصحب أصل جودة منتجاتهم وإتقان عملهم فنبحث عن فائدة خفية أو حكمة متوارية، فما بال بعض الناس يسارع في جحوده إذا كان الأمر متعلقاً بالله الذي خلق فسوى وأحين كل شيء خلقه؟

الحقيقة الخامسة:
أن الله جعل من السنن في هذه الدنيا: المدافعة بين الحق والباطل، ولذلك خلق إبليس رأسَ الشرّ، ولم يجعل له من سلطان على الناس إلا الإغواء وتزيين المعصية والكُفر، ولم يتركنا الله سبحانه دون بيان ما يعترض طريقنا من خطر الشيطان وحزبه وإغوائهم؛ فقال سبحانه: {إِنَّ الشَّيْطَــــٰنِ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا} [فاطر: ٧]؛ وقال {يَا أَيُّها الَّذِينَ ءَامَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُــوَٰتِ الشَّيْطَــــٰنِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بَالفَحْشَآءِ وَالمُنْكَرِ} [النور: ٢١]، فمَن اتبعه كان من حزبِه حزبِ الباطل {اسْتَحْوَذَ عَلَيْهمُ الشَّيْطَــــٰنِ فَأَنْسَـــٰـهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُلَـــٰۤــئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَــــٰنِ أَلآ إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَــــٰنِ هُمُ الخَــــٰسِرُونَ} [المجادلة: ١٩]، ومن جاهده وتطلّب رحمة الله ورضاه كان من المـُفلحين الراضين المـرضيّين.

فالبعض يغيب عنه هذا المعنى الذي أراده الله تعالى ثم يسأل عن بعض التفصيلات سؤال المعترض، فيسأل عن سبب خلق إبليس، وعن سبب وجود الطغاة، ونحو ذلك.

الحقيقة السادسة:
أن وجود الله سبحانه وتعالى قد ثبت بدلائل كثيرة متنوعة ضرورية قطعية لا يصمد أمامها شيء من الشبهات ولا يصل إلى مستواها من الدلالة، وعلى ذلك؛ فإن تجاهل هذه الأدلة بسبب شبهة معينة -كشبهة وجود الشر- إنما هو في الحقيقة تغليب للجانب الأضعف على الجانب الأقوى، وتقديم للفرع على الأصل، وتغافل عن الثغرات الموجودة في الشبهة في مقابل الإتقان الموجود في الأصل.