ماتت أمك

منذ 2021-08-31

صلاحك وهدايتك وبرك بوالديك في حياتهما وبعد مماتهما من الأمور التي يبلغهم نفعها في حياة البرزخ؛ "أو ولد صالح يدعو له".

هكذا هاتفني الطبيب المشرف على وضع والدتي الحنونة الصحي بعد أن تردى وضعها في الساعات الأخيرة. كان ذلك صبيحة يوم الجمعة السابع والعشرين من شهر ذي الحجة لعام 1442هـ الموافق للسادس من أغسطس لعام 2021م الساعة العاشرة وخمس وأربعون دقيقة، صدمني الخبر وتلعثمت وحزنت ودمعت عيناي، إنها الفطرة، لكنني ما لبثت أن حمدت الله واسترجعت ثم باشرت الإجراءات النظامية المطلوبة لتعجيل الصلاة والدفن.

 

الموت حق وهو سنة الله في خلقه، والبقاء لله وحده لكمال حياته وقيوميته تبارك وتعالى: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ}  [آل عمران: 185]، {قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ} [الجمعة: 8]، {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ} [الرحمن: 26، 27].

 

تجرعت مرارة فقد الأب قبل ذلك منذ عام 1414هـ وتحديدًا في السادس والعشرين من شهر جمادى الأولى، أي قبل ثمان وعشرين عامًا قبل أن أبدأ تجربة الحياة بلا أم.

 

"ماتت أمك"، أو "مات أبوك" هذه العبارة ستطرق سمعك وستعيش تجربتها، إن كان في قدر الله أن يموتوا قبلك، فاستغل حياتهما قبل مغادرتهما وفوات الأوان حتى لو كانا على سرير المرض أو لا يدركان فإن كان برُّهما واجبًا في حياتهما فإنه يتأكد بعد موتهما.. وتعويضهما مستحيل.

 

أنا وإخوتي وأخواتي لسنا صغارًا وليس فينا قاصر، ومنَّا من لديه أحفاد لكننا والله رغم ذلك نشعر باليُتم وإن كان متأخرًا، ونشعر بأن صمام الأمان قد فُقِد وليس لأحدٍ أن يقوم مقامه.

 

إنها الأم؛ فهي العش الدافئ وهي لأولادها كالكعبة للطائفين والأمان للخائفين.

 

كتبتُ هذه الأبياتِ إثر وفاةِ والدتي الحبيبة، رحمها اللهُ رحمةً واسعة:

رَبَّاهُ "أُمّيْ" قد مضتْ للقاكا 

رَبَّاهُ فاكتب فوزها بِرضاكا 

 

رَبَّاهُ "أمّيْ" قد مضت محبوبةً 

لمْ ترجُ يومًا مُحسنًا إلَّاكَا 

 

رَبَّاهُ "أمّيْ" بالصلاةِ تعلقتْ 

بالذكرِ ترجو أنْ تنال جزاكا 

 

بالصومِ ترجو أن تفوزَ بأجرِهِ 

من ذا يُجازيْ بالصيامِ سِواكا 

 

رَبَّاهُ أكرم في الجنانِ مقامَها 

وارحم عظامًا تحتمي بحماكَا 

 

رَبَّاهُ يا سلوى الفؤادِ وجبرَهُ 

اجبرْ فؤادًا بالدموعِ دعاكا 

 

رَبَّاهُ فاجمعنا بها في جنةٍ 

وكذا أَبِيْ في الفائزين هُناكا 

 

يا غافلًا ذا الموتُ يأتي بغتةً 

من ذا الذي عن ذكرهِ أغواكَا 

 

فاعمل ليومٕ سوف ترحل بعدهُ 

ولسوف تلقى ما جنَتهُ يداكا 

 

رَبَّاهُ صَلِّ على النبي وآلهِ 

وأجبْ دعاءَ مقصرٍ ناداكا. 

 

 

فتفاعل معي أحد الأخيار الذين وصلتهم بطريق غير مباشر ودون سابق معرفة به، فأتاني تفاعله الجميل (معارضة كما هو المصطلح في الشعر)؛ لأنه قد تجرع مرارةَ فقدِ الأمِ فكانت هذه الأبيات الجميلة:

يا من رفعتَ يديك في شكواكَ 

تدعو الذي من فضله أعطاكَ 

 

وكتبتَ من هولِ المصابِ قصيدةً 

ترجو بها الرحماتِ من مولاكَ 

 

حبلُ الوصالِ تقطعت أسبابُه 

والفقدُ آذاني كما آذاكَ 

 

الأم؛ لا شيءٌ يقوم مقامَها 

وهي التي بحنانها ترعاكَ 

 

الأم؛ فيضُ مشاعرٍ رقراقةٍ 

لا نستطيع لكُنْهِها إدراكا 

 

مهما تقولُ وما تنمقُ أحرفًا 

ستظَل تعجزُ عن بلوغِ مناكَ 

 

أمي وأمك في ضيافةِ ربنا 

ماذا تظن بربنا إذ ذاكَ 

 

يا رب فاجمعنا بهنّ بجنةٍ 

وأجب لهنّ دعاءَ من ناداكَ 

 

يا رب صل على النبي وآله 

بعداد ما تحوي السما أفلاكا 

 

 

فألفيتُ مواساتَه أجملَ مما كتبتُ، ووقعتْ أبياتُه في نفسي موقعَ العزاء وجبرِ المصيبة وتخفيفِ لوعةِ الألم، وحركت في نفسي حسنَ الظنِّ بالله والفألَ الحسن والتذكيرَ برحمةِ الله ولطفِ أقداره.

 

رسالة من القلب لكل مَنْ والداه، أو أحدهما باقٍ على قيد الحياة أن يتعاهدهما بالبر والصلة والدعاء وأن يلزم قدميهما، خصوصًا الوالدة فثمَّ الجنة كما ورد في الحديث الصحيح: قال أتيتُ النبيَّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ، فقلتُ: يا رسولَ اللهِ إني أريدُ الجهادَ في سبيلِ اللهِ تعالى، فقال: «أُمُّكَ حَيَّةٌ»؟، فقلتُ: نعمْ، فقال: «الزم رجلها فثمَّ الجنَّة».

 

قيل: « الزم رجلها »؛ بمعنى: الزم برها وطاعتها والأدب معها فثم الجنة. بمعنى: الجنة في طاعتها.

 

وأما مقولة: (الجنة تحت أقدام الأمهات) فليس بحديث وإنما حكمة.

 

البر - كما يقال - دَين، كما أن العقوق من المعاصي التي تُعجّل عقوبتها في الدنيا قبل الآخرة، وقد ورد في الأثر: « بروا آباءكم تبركم أبناؤكم ».

 

صلاحك وهدايتك وبرك بوالديك في حياتهما وبعد مماتهما من الأمور التي يبلغهم نفعها في حياة البرزخ؛ "أو ولد صالح يدعو له". وقد ورد أن الوالد (الأب والأم) ترفعُ درجتُه في الجنة ببركةِ دعاءِ أولادِه له. ومعلومُ أن الولدَ يشمل الذكَر والأنثى كما في قوله تعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} [النساء: 11].

 

رحم الله من مات من والدِينا أجمعين، ورزقنا برهم بعد موتِهم، وجمعنا بهم ومن نحب في جنته، وأحسن عزاءَنا جميعًا في كل عزيزٍ وحبيبٍ فقدناه، وجبرَ مصابَنا أجمعين وأخلفَنا خيرًا.

 

ولا نقول إلا ما يرضي ربنا: إنا لله وإنا إليه راجعون، والحمد لله رب العالمين.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه

______________________________________________
الكاتب: د. سليمان بن إبراهيم الميمان