جحا بين الحقيقة والوهم

منذ 2021-09-01

كثيرة هي القصص والحكايات الساخرة التي تحكى عن جحا، فهل كل هذه القصص والحكايات كانت من أرض الواقع أم من نسج الخيال؟ وهل جحا شخصية واقعية أم مجرد أسطورة؟

كثيرة هي القصص والحكايات الساخرة التي تحكى عن جحا، فهل كل هذه القصص والحكايات كانت من أرض الواقع أم من نسج الخيال؟ وهل جحا شخصية واقعية أم مجرد أسطورة؟

 

1- من هو جحا؟

الأمر الذي قد لا يعلمه الكثيرون أن جحا تابعي عاش في قرن من خير القرون.

 

اسمه الحقيقي: دجين بن ثابت، اليربوعي، البصري، أبو الغصن، الكوفي الفزاري.

 

عاش في القرن الثاني من الهجرة، وقد ذكر الزركلي في الأعلام أنه توفي حوالي سنة 130هــ = 747م[1].

 

وقيل: ولد عام 60 من الهجرة، وتوفي عام 160هـــ.

 

وقد عاش معظم حياته في الكوفة، وذكر بعض أهل العلم والسير كالحافظ ابن عساكر أنه عاش أكثر من مائة سنة.

 

قال الحافظ الذهبي رحمه الله تعالى: "رأى دجين أنسًا، وروى عن أسلم، وهشام بن عروة شيئًا يسيرًا.

 

وعنه: ابن المبارك، ومسلم بن إبراهيم، وأبو جابر محمد بن عبد الملك، والأصمعي، وبشر بن محمد السكري، وأبو عمر الحوضي"[2]اهــــــ.

 

وجحا اسم لا ينصرف لأنه معدول من جاح مثل عمر من عامر، يقال: جحا يجحو جحوًا إذا رمى[3].

 

وقد اختلف في دجين بن ثابت فذهب جمع من الأئمة إلى أن دجين بن ثابت هو جحا، منهم أحمد الشيرازي في "الألقاب"، وروي ذلك عن يحيى بن معين، وذكره الحافظ الذهبي في "السير" بقوله: "جحا أبو الغصن، صاحب النوادر، دجين بن ثابت، اليربوعي، البصري"[4].

 

وممن خالف الحافظ ابن حجر حيث قال في "الميزان" و"تعجيل المنفعة" كلاهما له: "هو الذي يتوهم أحداث أصحابنا انه جحا وليس كذلك"[5]، وكذلك ابن الصلاح فقد جاء في تاج العروس: "قالَ ابنُ الصَّلاح: قيلَ: إنَّه جُحا المَعْروفُ، والأَصحّ أنَّه غيرُهُ؛ قالَ: وعلى الأَوّل مَشَى الشِّيرازِيُّ في الأَلْقابِ ورَواهُ عن ابنِ معينٍ".[6] اهــــ.

 

ونقل المرتضى الزبيدي ما ورد في كتابِ المنهج المطهر للقلْب والفُؤادِ للقطبِ الشَّعْراني وهذا نَصَّه: "جُحا هو تابِعيٌّ كما رأَيْتُه بخطِّ الجلالِ السّيوطيّ، قالَ: وكانتْ أُمُّه خادِمَةً لأُمِّ أَنَس بنِ مالِكٍ، وكانَ الغالِبُ عليه السَّماحَة وصَفَاء السَّرِيرَةِ، فلا يَنْبغِي لأَحدٍ أَنْ يَسْخَر به إذا سَمِع ما يُضافُ إليه مِن الحِكَاياتِ المُضْحِكَة، بل يَسْأَلُ اللَّهَ أَنْ يَنْفَعه ببَرَكاتِه.

 

قالَ الجلالُ: وغالِبُ ما يُذْكَر عنه مِن الحِكَاياتِ المُضْحِكَة لا أَصْل له"[7]. اهـ.

 

وقد روى الشيرازي في الألقاب عن مكي بن إبراهيم قال: "رأيت جحا الذي يقال فيه: مكذوب عليه، وكان فتى ظريفًا، وكان له جيران مخنثون يمازحونه، ويزيدون عليه"[8].

 

وفي رواية أخرى: "رأيت جحا وكان لبيبًا فاضلا عاقلا وليس مما يقول الناس شيئًا"[9].

 

وروي عن قبيصة بن عقبة قال: اجتزت بجحا وهو جالس على الطريق يأكل خبزًا فقلت له: يا أبا الغصن تجالس جعفر بن محمد وتأكل على الطريق؟ فقال: حدثني جعفر بن محمد عن نافع عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: مطل الغني ظلم فطالبتني نفسي بالمأكول وخبزي في كمي فلم أحب أن أمنعها فأمطلها فألقى الله ظالما"[10].

 

وعن عباد بن صهيب: حدثنا أبو الغصن جحا وما رأيت أعقل منه.

 

قال الحافظ الذهبي رحمه الله تعالى معلقًا: "لعله كان يمزح أيام الشبيبة، فلما شاخ، أقبل على شأنه، وأخذ عنه المحدثون"[11].

 

وفي مخطوطة حديثة سميت (قطعة من تراجم أعيان الدنيا الحسان) في المكتبة الشرقية اليسوعية ببيروت: كان أبو الغصن جحا البغدادي صاحب مداعبة ومزاح ونوادر[12].

 

جاء في "أخبار الحمقى والمغفلين" لابن الجوزي: "ومنهم جحا ويكنى أبا الغصن، وقد روي عنه ما يدل على فطنة وذكاء إلا أن الغالب عليه التغفيل، وقد قيل إن بعض من كان يعاديه وضع له حكايات والله اعلم.

 

عن مكي بن ابراهيم أنه يقول: رأيت جحا رجلا كيسًا ظريفًا وهذا الذي يقال عنه مكذوب عليه وكان له جيران مخنثون يمازحهم ويمازحونه فوضعوا عليه. وعن أبي بكر الكلبي أنه قال خرجت من البصرة فلما قدمت الكوفة إذا أنا بشيخ جالس في الشمس فقلت: يا شيخ أين منزل الحكم؟ فقال لي: وراءك فرجعت إلى خلفي، فقال: يا سبحان الله أقول لك وراءك وترجل إلى خلفك، أخبرني عكرمة عن ابن عباس في قوله تعالى: {وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا}  [الكهف: 79]، قال: بين أيديهم. فقلت أبو من؟ قال: أبو الغصن، فقلت: الاسم؟ قال: جحا... قال المصنف وجمهور ما يروى عن حجا تغفيل"[13].

 

وقد ذكر بعضهم أن الجاحظ كان أول مؤلف عربي ذكر جحا في مؤلفاته، ذكره في رسالة عن علي والحكمين، وذكره في كتاب البغال[14].

 

2- خطورة الكلام في المسلم بما ليس فيه:

بعد تتبعي لترجمة دجين بن ثابت في كتب التراجم يظهر أن هناك خلاف في صحة نسبة هذا الاسم لجحا. ومهما يكن فهناك احتمال قوي أن تكون شخصية جحا التي تؤلف حولها الحكايات الساخرة وتنقل عنها القصص والنكت المضحكة أن تكون هي شخصية ذلك التابعي الجليل دجين بن ثابت الذي لقي أنسًا رضي الله عنه.

 

ولا يخفى ما للمسلم عمومًا من حرمة فكيف إذا كان هذا المسلم من القرون التي شهد لها رسول الله صلى الله عليه وسلم بالخيرية وأخبر عنها بالأفضلية.

 

يقول صلى الله عليه وسلم: «خير الناس قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم»، رواه الترمذي وغيره وصححه الألباني.

 

وفي راية: «خير الناس قرني ثم الثاني ثم الثالث ثم يجيء قوم لا خير فيهم»؛ رواه الطبراني وصححه الألباني.

 

وفي رواية: "خير القرون قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم".

 

فهذا ثناء على القرون الثلاثة المباركة: قرن الصحابة والتابعين وأتباع التابعين.

 

ولا شك أن ما ينقل عن جحا (دجين بن ثابت) هو من البهتان في حقه لأن تلك الحكايات تنسب إليه على أنه صاحبها أو قائلها مع أنه بريء من كل ذلك.

 

وقد سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الغيبة فقال: «ذكرك أخاك بما يكره»، قيل أفرأيت إن كان في أخي ما أقول؟ قال: "إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهته"؛ صحيح سنن أبي داود.

 

والبهتان من أعظم الظلم في حق من بهت لأنه كذب وافتراء عليه.

 

ثم إن في تلك السخرية بشخص جحا ازدراء له وتحقير له.

 

يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم"؛ مسلم. أي: يكفيه من الشر أن يحقر أخاه المسلم وإن لم يضف إليه شر آخر ليس فيه، فكيف إذا نسب إليه أشياء وأشياء ليست فيه؟

 

وهنا لا بأس أن أذكر قصة تبين عظم حرمة المسلم ففيها عبرة، عن عائشة رضي الله عنها قالت: قلت للنبي صلى الله عليه وسلم: حسبك من صفية كذا وكذا - تعني قصيرة - فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لقد قلت كلمة لو مزجت بماء البحر لمزجته». قالت: وحكيت له إنسانًا فقال: ما أحب أني حكيت إنسانًا وأن لي كذا وكذا"؛ صحيح سنن أبي داود.

 

إن كانت مجرد كلمة قالتها الصديقة بنت الصديق في حق صفية رضي الله عنها، يخبر الصادق المصدوق أنها لو مزجت بماء البحر لمزجته، فكيف بالحكايات الساخرة والنكت المضحكة التي تحكى وتنسج حول التابعي الجليل دجين بن ثابت الملقب بجحا، والتي لا يعلم عددها - من كثرتها - إلا الله سبحانه؟

 

ثم إن وعيدًا شديدًا قد يلحق كل من تناقل تلك الحكايات الساخرة بغية إضحاك الناس، إذا كان عالمًا بعدم صحة نسبتها لجحا وأنها كذب عليه.

 

يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ويل للذي يحدث فيكذب ليضحك به القوم ويل له ويل له»؛ صحيح سنن أبي داود.

 

يقول العلامة عبد المحسن العباد حفظه الله تعالى: "هذا فيه التحذير من الكذب... وذلك بالتعبير بالويل: [(ويل له ويل له!)] وتكرار ذلك، فهو يكذب ويتعمد الكذب لأجل أن يضحك الناس بالكذب الذي يخبر به وهو غير صادق، بل هو كاذب، وهذا كذب سواء كان للإضحاك أو كان لغير الإضحاك؛ لأن الكذب محرم مطلقًا كما مر في الحديث السابق: (إياكم والكذب). فعلى الإنسان أن يتجنب الكذب ويحذر الكذب. ثم أيضًا هذا يدل على تحريم التمثيل الذي ابتلي به كثير من الناس في هذا الزمان؛ لأن التمثيل مبني على الكذب، وعلى أخبار غير واقعة. إذا حدث الرجل بقصة أو بطرفة وهي لا حقيقة لها وليس لها أساس، فالمحظور قائم؛ لأنه إخبار بشيء لا حقيقة له، ويكون قد صرح لهم بأنه كذاب. وقد كرر فيه ذكر الويل ثلاث مرات"[15].

 

3- كيف نسبت كل تلك الحكايات الساخرة والنوادر المضحكة لجحا؟

سؤال مهم يطرح نفسه بقوة:

إذا كان دجين بن ثابت الملقب بجحا رجلا صالحا عاقلا لبيبا فطنا، فكيف نسبت له كل تلك الحكايات الساخرة والنوادر المضحكة؟

 

هناك أمور يمكن أن تكون أسبابًا لهذه النسبة:

أ- قيل: إن جحا كان له جيران يمازحهم ويمازحونه، ويزيدون عليه وينسبون له ما هو منه برئ من الحكايات والنوادر.

 

ب- وقيل: إن جحا كان له أعداء - وقل من يسلم من الأعداء -، فأرادوا النيل منه فوضعوا له حكايات مكذوبة هو منها براء براءة الذئب من دم يوسف عليه السلام.

 

ت- وقيل: إنه رغم عقله الراجح وفطنته إلا أنه كان عنده شيء من المرح والمزاح والدعابة زمن الشباب، لكنه ترك كل ذلك عند كبر سنه وأقبل على الجد في شأنه كله وترك الهزل والمزاح بالكلية، لكن ذلك لم يشفع له عند البعض ممن سجل عليه ما كان منه زمن شبابه، وروج تلك الحكايات والنوادر التي كان قد تبرأ منها.

 

ح- ومن الأسباب كذلك ما ذكره الإمام جلال الدين السيوطي رحمه الله تعالى في كتابه "إرشاد من نحا إلى نوادر جحا"، فقد وصفه بأنه كان يتمتع بصفاء النفس والسماحة وأكد على أن معظم القصص التي تروى عنه ليست حقيقية وإنما هي من تأليف أشخاص آخرين عاشوا بعد عصر جحا، فألفوا هذه الحكايات ونسبوها إليه كي يضمنوا لها الانتشار، وخصوصا تلك التي تظهر جحا في صورة إنسان مستهتر أو شخص يتصف بالحمق والغباء.

 

وهؤلاء الأشخاص مجهولون، كما ذكر ابن النديم في فهرسته: "أسماء قوم.. ألف في نوادرهم الكتب لا يعلم من ألفها (منها) نوادر جحا"[16].

 

ج- وقد ظهر لي سبب أخر لا أستبعده، وهو الخلط الذي ربما وقع في نسبة تلك النوادر والحكايات، فدجين بن ثابت كان عربيًّا بلا شك فهو جحا العربي، لكن هناك جحا رومي يلقب بخوجة نصر الدين (التركي)، فلعل الكثير من تلك الحكايات والنوادر إنما هي متعلقة بهذا الأخير فنسبها بعض الكتاب بقصد أو بغير قصد لدجين بن ثابت (جحا العربي).

 

وقد تكون خاصة بشخصيات أخرى تحمل نفس اللقب (جحا) فنسبت لدجين بن ثابت التابعي، فالأمر الذي يجب اعتقاده هو أنه ليست هناك شخصية واحدة تحمل اسم جحا بل أكثر من شخصية واحدة، وهذا ما أشار إليه الدكتور عباس العقاد رحمه الله تعالى حيث يقول: "يستحيل أن تصدر هذه النوادر عن شخص واحد لأن بعضها يتحدث عن أناس في صدر الإسلام وبعضها يتحدث عن أناس في عصر المنصور العباسي أو عصر تيمورلنك..."[17].

 

وقد أشار ابن النديم في كتابه الفهرست أن من الكتب المصنفة في أخبار المغفلين (نوادر حجا) وعلق الزركلي صاحب الأعلام بقوله: "هذا حتما غير كتاب (نوادر جحا) المطبوع بمصر وبيروت المترجم عن التركية، المنسوبة أخباره إلى جحا الرومي المعروف بخوجه نصر الدين"[18].

 

4- تحذير وتذكير:

ألا فليتق الله تعالى مروجو هذه الحكايات وناقليها، وليوقنوا أنهم سيقفون بين يدي الله تعالى وأن جحا سيكون خصمهم بين يديه سبحانه، حيث القصاص من الظالم للمظلوم.

 

وأخيرًا أقول هب أن تلك الحكايات تصح نسبتها إلى جحا.

 

أليس هو قد مات وأفضى إلى ما قدم؟

ألسنا مأمورين بذكر موتانا بخير؟

 

يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا مات صاحبكم فدعوه لا تقعوا فيه»؛ صحيح سنن أبي داود.

 

وروي عنه صلى الله عليه وسلم: "اذكروا محاسن موتاكم و كفوا عن مساويهم"؛ لكنه ضعيف ويغني عنه قوله صلى الله عليه وسلم: "لا تسبوا الأموات فإنهم قد أفضوا إلى ما قدموا"؛ رواه النسائي وغيره وصححه الألباني.

 

قد يقول قائل: وأين السب في مثل هذه الحكايات التي تروى عن جحا؟

 

فالجواب أن جعل شخصية جحا محورًا لهذه الحكايات الساخرة والقصص المضحكة التي تمثله كالأبله أو الأحمق هو كالسب بل ربما أعظم من السب والشتم.

 

وأخيرًا أذكر نفسي وإخواني بقول النبي صلى الله عليه وسلم: "من رد عن عرض أخيه رد الله عن وجهه النار يوم القيامة"؛ صحيح الترمذي.

 

فأسأل الله تعالى أن تكون كلماتي تلك ردًّا عن عرض التابعي الجليل دجين بن ثابت الفزاري، ألقى بها ربي يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم.

 

والله أعلم وأحكم ونسبة العلم إليه سبحانه أسلم.

 


[1] الأعلام للزركلي: 2/ 112.

[2] سير أعلام النبلاء: 8/ 172.

[3] حياة الحيوان الكبرى 1/ 330.

[4] نفسه.

[5] تعجيل المنفعة بزوائد رجال الأئمة الأربعة: 1/ 508.

[6] تاج العروس: 37/ 325.

[7] نفسه.

[8] سير أعلام النبلاء: 8/ 173.

[9] توضيح المشتبه في ضبط أسماء الرواة وأنسابهم وألقابهم وكناهم: 3/ 138.

[10] نفسه.

[11] سير أعلام النبلاء: 8/ 173.

[12] الأعلام للزركلي: 2/ 113.

[13] أخبار الحمقى والمغفلين: 44 - 45.

[14] الأعلام للزركلي: 2/ 112.

[15] شرح سنن أبي داود.

[16] الفهرست: 435.

[17] جحا الضاحك المضحك: 91/ 92.

[18] الأعلام للزركلي: 2/ 112.