صلة الرحم

منذ 2021-09-19

ممَّا افترضه الله عليْنا صلة الرحم، فقد أمر الله بصِلة الرَّحِم في كتابه في مواضع، ومن ذلك الآية التي تفتتح بها خطبة الجمعة وغيرها: {وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ} .

ممَّا افترضه الله عليْنا صلة الرحم، فقد أمر الله بصِلة الرَّحِم في كتابه في مواضع، ومن ذلك الآية التي تفتتح بها خطبة الجمعة وغيرها: {وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ} [النساء: 1]، فأمرنا ربُّنا بتقواه وأن نتقي الأرْحام فلا نقطعها، وأن نصلها، فقطيعة الرَّحم من كبائر الذنوب.

 

فعن جبير بن مطعم: أنَّه سمع النَّبيَّ - صلَّى الله عليْه وسلَّم - يقول: «لا يدْخُل الجنَّة قاطع» (رواه البخاري (5984).

 

فقاطع الرَّحِم من أهْل الوعيد، فلا يدخُل الجنَّة مع أوَّل الدَّاخلين؛ بل يعذب أوَّلاً إن لم يشملْه الله بعفوه، وعلى ضدِّ ذلك صِلة الرَّحم، فهِي من أسباب دخول الجنَّة؛ فعن أبي أيُّوب قال: جاء رجلٌ إلى النَّبيِّ - صلَّى الله عليْه وسلَّم - فقال: دلَّني على عمل أعمله يُدْنيني من الجنَّة ويباعدني من النَّار، قال: «تعبد الله لا تشرك به شيئًا، وتقيم الصَّلاة، وتؤْتِي الزَّكاة، وتصل ذا رحمِك»، فلمَّا أدبر قال رسولُ الله - صلَّى الله عليْه وسلَّم -: «إن تمسَّك بما أُمِرَ به دخل الجنَّة» (رواه البخاري (5983) ومسلم (13).

 

إخوتي:

هنا سؤال يطرح نفسَه، والإجابة عليْه ملحَّة، وهو: من هم الأقارب الَّذين تجب صِلَتُهم، ومَن قصَّر في صِلَتِهم يُعْتَبَر عاصيًا؟

 

فالجوابُ: مَن تَجب صلتُه هم أصْحاب الرَّحِم المحرَّمة من جهة الأمِّ والأب، فكلُّ شخصَين لو كان أحدُهُما ذكرًا والآخر أنثى، إذا لم يَجُز التَّناكُح بينهما، كانت صلة الرَّحم بيْنهما واجبة، وإذا جاز التَّناكُح بيْنهما لم تَجب صلتُهما، فالأعمام والعمَّات والأخوال والخالات من الرَّحم المحرَّمة، التي يَجب صلتُها، وأولادُهم ليسوا من الرَّحم المحرَّمة، فصِلَتهم مستحبَّة لا واجبة؛ فعنْ أبِي هُرَيْرة - رضِي الله عنْه - قال النبي - صلَّى الله عليْه وسلَّم -: «لا يُجْمع بين المرْأة وعمَّتها ولا بين المرأة وخالتها»؛ رواه البخاري (5109) ومسلم (1408)، فيحرم على الرجل أن يجمع في النِّكاح بين المرأة وعمَّتها وبين المرأة وخالتها.

 

لما يحصُل بين الضَّرائر من خصام بسبب الغيْرة، فيؤدِّي إلى قطيعةِ الرَّحم بين المرأة وعمَّتها وخالتها، و يجوز الجمع بين المرْأة وبين بنت عمِّها وبنت عمَّتها، وبين المرأة وبنت خالها وبنت خالتها، مع أنَّه قد يحصل بينهما تقاطع بسبب غيرة النِّساء، فدلَّ ذلك على أنَّ مَن تجِب صلته من الأقارب هي الرَّحِم المحرَّمة، وبِهذا الضَّابط يزول الإشْكال؛ لأنَّنا إذا قُلْنا تجِب صلة الرَّحِم وهم الأقارب لصعُب ضبطُهم؛ لأنَّ النَّاس كلَّهم أقارب يرجِعون لآدم، وإذا قلنا هذا تجب صلته وهذا لا تجب صلته، فهذا تحكُّم؛ لأنَّه لا دليل يسنده، هذا الذي أراه راجحًا من أقوال أهل العلم، والله أعلم.

 

هذا في باب التَّقرير العِلْمي، أمَّا في باب الواقع العملي فينبغي للشَّخص أن يصِل ما استطاع صِلَته من أقاربِه، فصلة عامَّة المسلمين قُرْبة وطاعة، فالأقارب وإن بعدوا أوْلى وأحرى بهذه الصِّلة.

 

إخوتي:

الَّذين تجب صلتُهم هم الأقارب الَّذين من النَّسب، أمَّا أقارب الرَّضاعة فليست صلتهم واجبةً، وإن كانوا يدْخُلون في تحريم النِّكاح، فالنُّصوص الواردة في الصِّلة هي في صلة النَّسب لا صلة الرَّضاعة، وقد قال النَّبيُّ - صلَّى الله عليْه وسلَّم -: «يحرُم من الرَّضاعة ما يَحرم من النَّسب» ولم يقُل - صلَّى الله عليْه وسلَّم - يجب للرَّضاعة ما يجب للنَّسب؛ فلِذا لا يرِث القريب من الرَّضاعة ولا تجب له النَّفقة، لكن من حسن المعاملة الإحسان إليْهم، واشتهر في كتُب السيرة أنَّ الشَّيماء بنت الحارث أخت رسول الله - صلَّى الله عليْه وسلَّم - من الرَّضاعة حينما قدمت على النبي - صلَّى الله عليْه وسلَّم - أكرمها ونحلها مالاً.

 

صلة الرَّحِم وردتْ في الشَّرع ولم تُقَيَّد، فيرجع فيها إلى عرف الناس في نوعِها وفي وقتها، فصلة الرحم تارة تكون بالمال مع الحاجة، سواء كان هذا المال من باب الهديَّة أم الصَّدقة الواجبة أم التطوُّع؛ فهم أوْلى من غيرهم، فحينما ذكرت ميمونة لرسول الله - صلَّى الله عليْه وسلَّم - أنَّها أعتقتْ وليدةً لها، قال لها النبي - صلَّى الله عليْه وسلَّم -: «لو أعطيتِها أخوالك كان أعظم لأجْرِكِ» (رواه البخاري (2592) ومسلم (999).

 

وتارة تكون الصِّلة بقضاء حاجة القَريب، من بيع وشراء، وخدمة وشفاعة حسنة عند الآخرين، وتارة تكون الصِّلة بزيارته، وتَحديد المدَّة التي تكون بين الزِّيارتين يختلف بحسب قُرْب الشَّخص، فزيارة الأبوَيْن ليْسَتْ كزِيارة الإخْوة والأخوات، وزيارة الإخوة ليستْ كزيارة الأعمام والأخوال، وزيارة من هو في نفس البلد ليست كزيارة مَن هو في بلد آخَرَ، ويختلف أيضًا بحسب أعمال الشخص ومشاغله الدنيويَّة.

 

وقد تكون صلة الرَّحِم بالسَّلام من خلال الهاتِف والاطْمِئنان على الشَّخص، إذا لم تتيسَّر الزِّيارة.

 

وإن لم يتيسَّر هذا ولا هذا، فتكون عن طريق الرَّسائل، فالواجب تحرِّي صلة الرَّحِم وتجنُّب قطيعة الرَّحِم؛ {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16]، فصلة الرحِم درجات بعْضُها أرفع من بعض، وأدْناها ترْك المهاجرة، ولو وصل بعض الصِّلة ولَم يصل غايتَها لا يسمَّى قاطعًا، ولو قصر عمَّا يقْدِر عليْه من الصِّلة لا يسمَّى واصلاً.

 

إخوتي:

صلة الرَّحِم الواجبة لا تتعلَّق بصلاح صاحِب الرَّحِم وفسقِه، فصلة الرَّحم واجبة للقريب الصَّالح والفاسق؛ فعن عبدالله بن عمرو: أنَّ النَّبيَّ - صلَّى الله عليْه وسلَّم - قال: «ليس الواصِل بالمكافِئ، ولكن الواصل الَّذي إذا قُطِعَتْ رحِمه وصلها» (رواه البخاري (5990).

 

فأخبر النَّبيُّ - صلَّى الله عليْه وسلَّم -: أنَّ الواصل الحقيقيَّ هو الَّذي يصل مَن يقطعه من أقاربه، والقاطع فاسق بقطْعِه رحِمَه، ومع ذلك أمر النَّبيُّ بصلتِه ولَم يجعل فِسْقَه بقطع الرَّحِم مانعًا من صلته.

 

فحتَّى القريب الكافِر تُشْرَع صلته؛ فعن أسْماء بنت أبي بكر - رضِي الله عنْهُما - قالتْ: قدمتْ علي أمِّي وهي مشركة في عهد رسول الله - صلَّى الله عليْه وسلَّم - فاستفتيتُ رسولَ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - قلت: وهي راغبة، أفأصِل أمي؟ قال: «نعم، صِلِي أمَّك» (رواه البخاري (2620) ومسلم (1003).

 

وعن عبدالله بن عمر - رضِي الله عنْهُما - قال: رأى عمر بن الخطَّاب حلَّة سيراء - أي حرير - عند باب المسجِد، فقال: يا رسول الله، لو اشتريْتها فلبسْتَها يوم الجمعة وللوفد، قال: «إنَّما يلبسها مَن لا خَلاق له في الآخِرة»، ثمَّ جاءت حلل فأعْطى رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - عُمَر - منها حُلَّة، وقال: أكسوْتَنيها وقلت في حلَّة عُطَارِد ما قُلْت؟! فقال: «إنِّي لم أكسُكها لتلبسها»، فكساها عمر أخًا له بمكَّة مشركًا؛ رواه البخاري (2612) ومسلم (2068).

عباد الله، يجب عليْنا أن نصل أرحامَنا، وصَلُونا أو قطعُونا، فليْس الواصل بالمكافِئ، ولكنَّ الواصل الَّذي إذا قُطِعَتْ رحِمه وصلَها، فعلى كلِّ قريبَين واجب الصِّلة، فإذا قصَّر أحدُهُما في واجبِه فعليه إثْم تقصيرِه، وليْست معصيته بقطيعة الرَّحم تبيح للآخَر قطعه وعدمَ صلته، فعلى كلِّ واحد منهما ما حمل؛ فعن أبي هُرَيْرة - رضي الله عنه -: أنَّ رجُلاً قال: يا رسول الله، إنَّ لي قرابةً أصلُهم ويقطعونني، وأحسن إليْهِم ويسيئون إليَّ، وأحلم عنهم ويجهلون عليَّ، فقال: (( «لئن كنتَ كما قلتَ فكأنَّما تسفُّهم الملَّ -والملُّ: الرَّماد الحار- ولا يزال معك من الله ظهير عليْهم ما دُمْتَ على ذلك» (رواه مسلم (2558).

 

فوصل القاطع ينزل على قلبه نزول النَّار المحرقة؛ لما يجده في نفسِه من الدَّناءة والحقارة، وربَّما ارعوى وثاب إلى رشده.

 

عباد الله:

صلة الرَّحِم واجبة على المكلَّفين، وليستْ حقًّا خاصًّا للكبير، فهي واجبةٌ على الجميع، ومِن الخطأ ما يعتقِدُه بعض كبار السِّنِّ أنَّ الحقَّ لهم، وأنَّهم هم الَّذين يجب أن يُوصَلوا وأن يزاروا، ولا يجب عليهم أن يصِلوا من هم أصغر منهم سنًّا، فليس في ذلك نصٌّ عن الشَّارع؛ بل النصوص في صلة الرَّحم عامَّة لا مخصّص لها.

 

ولا شكَّ أنَّ الكبير له في الشَّرع ما ليس للصَّغير؛ لكن سقوط صلة الرَّحم عن الكبير تَحتاج إلى دليل ليخصِّص عموم الأدلَّة، ولا مخصِّص.

 

صلة الرَّحِم من الواجبات التي افترضها الله على الرِّجال والنِّساء، فيجب على الزَّوج أن يأذَنَ لزوجته في صِلة رحِمِها ويحرم عليه منعها؛ فقد ورد الأمر بالإذْنِ لها فيما دون ذلك؛ فعن ابن عمر - رضي الله عنه - عن النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال:  «إذا استأذنتِ امرأةُ أحدِكُم إلى المسجِد فلا يمنعْهَا» (رواه البخاري (873) ومسلم (442).

 

وإذا نَهاها عن صِلَة رحِمِها فلا يَجب عليْها طاعتُه؛ بل تحرم طاعتُه؛ فإنَّما الطَّاعة في المعروف، وليس لمخلوق طاعة في معصية الخالق.

 

لكن إذا كان يترتَّب على الزِّيارة مفسدة في حقِّ الزَّوج، أو يَخشى عليْها أو على أولادِه، فيخشى عليْهِم من أقاربها؛ لكونهم أهل شرٍّ وفساد، فله منعها من زيارتهم، ويمكن أن تصِل الزَّوجة من هذه صفتُهم من الأقارب بالاتِّصال بالهاتف، أو الهديَّة، أو غير ذلِك من أنواع الصِّلة.

 

يقع بعضَ الأحيان خصامٌ بين الزَّوجَين، أو بين الأبوين وبعض الأقارب، فيطلب الأبوان أو أحدهما من أوْلادهم عدم زيارة الآخَر، وعدم رفْدِه بالمال، وعدم قضاء حوائجِه، أو يطلبان من أوْلادهم عدم زيارة بعْض أقاربِهم، كالخال والعم، فيقع الأوْلاد في هذه الحال في حيرة من أمرهم، والَّذي يجب على الأوْلاد في هذه الحال: بذل النُّصح للوالدين، وتذْكيرهم بحرمة القطيعة، ومطالبتهم بالعفْو عن أخطاء الآخَرين، وإذا أصرَّا على طلبِهم من أوْلادِهم أن يقطعوا الرَّحِم المحرَّمة، فلا طاعة لهُما، وليتلطَّف الأوْلاد في الصِّلة ولو خفية، من غيْر علم المعترِض من الأبوين.