الإنسان ونظرية المعرفة عند ابن تيمية

منذ 2021-09-25

يذكر شيخنا أن القلب بنفسه يقبل العلم، ولكن الأمر يتوقف على شروط أو استعدادات، فإذا تم الفعل بواسطة الإنسان أي رغب في العلم أصبح مطلوبًا. يمكن أن يأتي العلم فضلًا من الله ويصبح في هذه الحالة موهوبًا

يعرف ابن تيمية الإنسان بأنه (حي، حساس، متحرك بالإرادة)[1].

 

وقد ظهر لنا عند عرضنا لأفكاره حول المعرفة بالله عز وجل وأنها فطرية، أنها تتم عن طريق القلب أنه يتقيد بنص الحديث الذي يعرف القلب بأنه سيد الأعضاء ورأسها «إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب» [2].

 

ولكن كيف يتم العلم؟ وما هي نظرية المعرفة عنده؟

 

نظرية المعرفة:

يذكر شيخنا أن القلب بنفسه يقبل العلم، ولكن الأمر يتوقف على شروط أو استعدادات، فإذا تم الفعل بواسطة الإنسان أي رغب في العلم أصبح مطلوبًا. يمكن أن يأتي العلم فضلًا من الله ويصبح في هذه الحالة موهوبًا[3].

 

وإذا كان الإنسان هو الراغب في العلم فإن القلب يوجهه نحو الأشياء ابتغاء العلم بها مستخدمًا في ذلك وسيلتين هما: السمع والبصر. وهذه الأعضاء الثلاثة عنده هي أمهات ما يدرك به العلم الذي يميز الإنسان عن سائر الحيوانات التي تشاركه في الشم، والذوق، واللمس.

 

ولكى يتم صلاح القلب ينبغي أن يعقل الأشياء ولا يقتصر على العلم بها فحسب "والذى يعقل الشيء هو الذى يقيده ويضبطه ويعيه ويثبته في قلبه، فيكون وقت الحاجة إليه غنيًا فيطابق عمله قوله، وباطنه ظاهره، وذلك هو الذى أوتي الحكمة"[4].

 

ويشبه سائر الأعضاء بانهم كالحجبة للقلب، فالأذن مثلًا تحمل الكلام المشتمل على العلم إلى القلب، والعين تبصر ما تنظر إليه، وإذا علم القلب ما نظر إليه فذاك مطلوبه ولكن خصائص العين تقصر عن القلب والأذن لأن بواسطتها يرى صاحبها الأشياء الحاضرة والأجسام فحسب، ولهذا يمتاز القلب والأذن عنها بأن الإنسان يعلم بهما ما غاب عنه من الأمور الروحانية والمعلومات المعنوية.

 

وينفرد القلب وحده بأنه يعقل الأشياء بنفسه ويختلف بذلك عن الأذن التي يقتصر دورها على حمل القول والكلام إلى القلب فيأخذ منه ما فيه من العلم "فصاحب العلم في حقيقة الأمر هو القلب وإنما سائر الأعضاء حجة له توصل إليه من الأخبار ما لم يكن ليأخذه بنفسه"[5].

 

أما الغرض من القلب فإنه قد خلق لذكر الله سبحانه إذ عبر عن ذلك سليمان الخواص - على الأرجح - بقوله: "الذكر للقلب بمنزلة الغداء للجسد فكلما لا يجد الجسد لذة الطعام مع السقم فكذلك القلب لا يجد حلاوة الذكر مع حب الدنيا"[6].

 

ويقلب أبن تيمية ما اشتملت عليه هذه العبارة من معاني تدور حول خلق القلب، وطبيعته، ثم ينتقل من هذا إلى البرهنة على أنه أداة معرفة بالله. فمن حق القلب أن يوضع في موضعه فينشغل بالله ويتفكر في العلم. وعلى العكس من ذلك، فإنه إذا وضع في غير موضعه وصرف في الباطل، فإن الهوى سيضله عن معرفة الحق، إما بشغله بفتن الدنيا، ومطالب الجسد وشهوات النفس أو بصده عن النظر في الحق منذ البداية وبصرفه الى الباطل الذي يتمثل في الأفكار والهموم المرتبطة بعلائق الدنيا، وشهوات النفس، وفي الأهواء المؤدية إلى الهلاك[7].

 

وتظهر طبيعة القلب إذا ما قارناه بعلاقته بالعلم، فإنه يشبه الإناء للماء. فإذا قبل الذكر والحلم أصبح رقيقًا صافيًا، وإذا انصرف إلى الباطل عاند الحق ووضع في غير موضعه[8].

 

ولكن القلب المشغول بالله الناظر في العلم فهو الموضوع في موضعه، فيتحقق به معرفة الله - وهو الحق المبين "إذ كان كل ما يقع لمحة ناظر أو يجول في لفتة خاطر فالله ربه ومنشئه وفاطره ومبدئه لا يحيط علمًا إلا بما هو من آياته البينة في أرضه وسمائه"[9].

 

ويظهر لنا المقصود من تعريف الإنسان بأنه متحرك بالإرادة عندما ننظر فيما يذكره ابن تيمية من أن الإرادة هي عمل القلب[10]، ويفرق بين الإرادة والهم أي بين المريد والفاعل لينتقل بالفكرة إلى معالجة الأفعال الإنسانية التي يحاسب عليها، وصلة ذلك بارتكاب الذنوب والتوبة منها، إلى غير ذلك من السلوك الإنساني. فالهم بالحسنة تكتب واحدة مع أنها لم تتحقق ولكن الهم في ذاته يدل على الطاعة، فإذا ما نفذت "كتبها الله له عشر حسنات"[11] وبالعكس، فالهم بالسيئة التي لم يقم صاحبها بتنفيذها مع قدرته عليها لا تحتسب عليه وذلك ما يوافق قول الرسول صلى الله عليه وسلم «إن الله تجاوز لأمتي ما حدثت به أنفسها ما لم تتكلم به أو تعمل به»[12]. ولهذا وقع الفرق - كما يرى الإمام أحمد بن حنبل بين هم الخطرات وهم الإصرار، فإن يوسف أثيب على هم تركه لله، بينما همت امرأة العزيز هم إصرار، وأصبحت إرادتها جازمة وإن لم يتحقق لها المطلوب[13].

 

أما ارتباط القلب بالإرادة، فلأنه بسبب ما فيه من التصديق الجازم يتبعه موجبه من العمل بحسب الإمكان، ومتى عمل الذنب دل على أنه ليس بتصديق جارم، أي لا يكون إيمانًا تامًا. وقد يختلف العمل مع وجود الإيمان من أهواء النفس كالكبر والحسد "لكن الأصل أن التصديق يتبعه الحب، وإذا تخلف الحب كان لضعف التصديق الموجب له"[14].

 


[1] منهاج السنة ج 2 ص 4.

[2] المنهج ص 308.

[3] نفس المصدر ص 309.

[4] المنطق ص 309.

[5] نفس المصدر ص 310- 311.

[6] المنطق ص 313.

[7] نفس المصدر 317.

[8] المنطق ص 317.

[9] نفس المصدر ص 312.

[10] السلوك ص 736.

[11] نفس المصدر ص 737.

[12] نفس المصدر ص 738.

[13] الرسالة العرشية ص 24.

[14] شرح العقيدة الأصفهانية ص 124.

مصطفى حلمي

أستاذ العقيدة و الفلسفة الإسلامية بكلية دار العلوم بجامعة القاهرة.