ألحد نجعلك مبدعًا
فما على الواحد من هؤلاء إلا أن يأتي ويسبَّ اللهَ، أو الرسول، أو الإسلام، أو يستهزئ بالشريعة؛ فله وظيفةٌ مرموقة، وشهادة خبرة معتمدة، أن المذكور شاعر حداثي، أو أديب تنويري، أو روائي مجدِّد، أو مفكر إصلاحي، وقد أعطيت له هذه الشهادة بغير طلبه؛ بناء على ما قام به من "وقاحة".
الأصل أن مهمة وزارة الثقافة أن تنشر الثقافةَ والوعي بين أفراد الشعب، بأنْ ترعى المبدعين من الكتَّاب والأدباء والشعراء والروائيين، وتقدِّمَ أعمالَهم للجمهور، وتشجعَهم وتنشرَ إبداعهم.
ومن المفترض أن في الثقافة ثوابتَ، كما أن لكل حرفةٍ وعلم ومؤسسة ثوابتَ لا تتنازل عنها، فكان على وزارة الثقافة المصرية أن يكون من ثوابتها احترامُ معتقدات الشعب الذي يتعاطى موظَّفوها أموالَهم من جيوبه.
غيرَ أن وزارة الثقافة أخذتْ على عاتقها منذ أمدٍ بعيد إهانةَ مقدسات الشعب - الذي يدفع من جيوبه رواتب موظفيها، وجوائز مبدعيها - بحُجة التنوير وحرية الفكر والرأي؛ يعني: من أجل حرية كاتبٍ أو أديب، لا بأس من إهانة مشاعر الملايين؛ عملاً بالحكمة العلمانية العوراء "حريتي على حساب حرية الآخرين"!
عقودٌ مضتْ على سياسة وزارة الثقافة والشعبُ المصري المغلوب على أمره تُستنزف أموالُه في إعطاء جوائزَ ونشرِ أعمالٍ فيها ما يهين معتقداتِه، ويسخر من مقدساته، ويستخف بمسلَّماته، ويحارب قيمَه ومُثُلَه العليا، وهو صابر صامت، لا يملك سوى الآهات والحوقلة، يخشى إن خرج عن صمته أن تصفه وزارة الثقافة بالجمود والرجعية والظلامية، أو أن تلفق له وزارة الداخلية تهمةَ التطرف والإرهاب، والتعاون مع (القاعدة) و(الزاوية) و(الضلع)!
وعمل الشعبُ الظريف، ذو الأمثال العجيبة، والنكات الحكيمة، بالمثل القائل: "ابق مع الكذاب إلى الباب"، فبقي مع وزارة الثقافة التي وعدتْه بأن هذه الأعمال التي تتبنَّاها، وتنفق على طبعها وترويجها، وتكرِّم أصحابَها وتعطيهم الجوائز، وإن كان فيها سبُّ الرب الذي يؤمن به هذا الشعبُ، واستهزاءٌ بالدين الذي يدين به، وانتقاصُ الشريعة التي يعتنقها وينضوي تحت رايتها - هي الباب الذي نلج منه إلى جنة التحضُّر آمنين سالمين، وأن من شأن حرية الفكر أو (الكفر) أن يقطع دابر المشكلة الاقتصادية التي أنهكتِ البلادَ والعباد، وأن يأخذ بأيدينا كي نحيا متمدِّنين متحضرين، وأنه بذلك ستغيب عنا شمسُ الرجعيَّة، وتشرق علينا شمس المدنية؛ فيأكل الناس اللحوم والكنتاكي، بدلاً من الفول والطعمية، وتصبح بولاق كالزمالك، والكيت كات كجاردن سيتي، وتكون المواصلات آدمية لنقل الركاب كما هي في نيويورك، بدلاً من "الشعبطة في الأتوبيسات"، وأننا سنكتب على القنبلة الذرية والصواريخ عابرة القارات: "صنع في مصر"، وأن الناس سيتعلَّمون الأمانة بعد أن كان يرتشي المحافظ والوزير فما دون، وأن الرجال والشباب سيمشون في الطريق لا يمسُّ النساءَ منهم مكروهٌ من تحرشٍ باللفظ أو بالفعل، بعدما أصبح الجنس حقًّا على المشاع في إبداعات كُتاب وزارة الثقافة، وأفلام وزارة الإعلام!
بقي الشعب المسكين - الذي عاش دائمًا يعتز بدينه، ويفاخر بقيمه - يتجرَّع إهانات "مبدعي" وزارة الثقافة يومًا بعد يوم، في انتظار موعود (قديسي) العلمانية بوزارة الثقافة، الذين أعطوا صكوك التنوير والتجديد لكل من أساء إلى دين الله، أو رضي بذلك؛ ليدخل جنة التحضر والتمدن، بعد تعميده في نهر كتابات (آباء الحرية) في باريس ولندن وواشنطن.
لكن لم يحدث ما انتظره الشعب البائس المغلوب على أمره، الذي لا يجد بعضُ أفراده ما يسد به جوعتَه، أو يستر به عورتَه، ولا يجد بعضُ مَرضاه سريرًا له في المستشفى، في الوقت الذي تنفق حكومتُه (المتحضرة) الآلافَ المؤلفة على حفلات (الأوبرا) الموسيقية، ومباريات كرة القدم، جاعلةً شعارَها الفقرة (ب) من الإصحاح الخامس في التلمود العلماني: "الحق نقول لكم: لا تكونوا كالبهائم تريدون طعامًا وشرابًا وعلاجًا! كم من مريض كان شفاؤه في سيمفونية لـ"بتهوفن"! وكم من جائع قد شبع بعد تمتعه بهدف لـ"مارادونا"! وكم من عارٍ قد اكتسى بعد رؤيته أفلام "شارل شابلن"! تمتَّعوا بالفن والرياضة، تشبعوا وتصحُّوا وتكتسوا"!
ومرَّت السنون ولم يحصل موعودُ قديسي وزارة الثقافة، ولم يرَ الغلابةُ جنةً ولا يحزنون، وظهر أن صكوك وزارة الثقافة كصكوك الغفران في القرون الوسطى، وأن (حرامية) العلمانيين نسخةٌ متأخرة من (حرامية) الكنيسة.
فبرم الناس بتنوير وزارة الثقافة وبرمتْ بهم، ومقَتُوها ومقتتْهم؛ فهم يرون فيها بوقًا غريبًا يهينهم ويهين مقدساتهم، وهي ترى فيهم حجرَ عثرة أمام أهدافها وطموحاتها؛ فهي ترى في معظم المصريين - الذين لا يزالون يعظِّمون ربَّهم الذي آمنوا به، ورسولَهم الذي صدَّقوه، وقرآنَهم الذي أنزل إليهم - رجعيين ظلاميين متخلفين؛ إذ مفهوم التنوير والتحضر عند وزارة الثقافة هو سبُّ الله ورسوله ودين الإسلام، وجلُّ المصريين لا يرضون ذلك، ولا يعدُّونه تنويرًا وتحضرًا؛ فجلُّ المصريين - تبعًا لنظرية التنوير عند وزارة الثقافة - في حكم الأنعام والبهائم؛ لأنهم ليسوا متمدنين يسبُّون الربَّ صباح مساء كما تفعله مطبوعات وزارة الثقافة، ولا يرضون بذلك كما ترضى به القلةُ القليلة، التي هي (النخبة المتنورة) عند الوزارة.
ولست أدري ما الحيلة التي يمكن أن تتَّخذها وزارة الثقافة للتخلُّص من هؤلاء الرجعيين الظلاميين؟!
قصة الوثيقة الجديدة:
كانت الوثيقة القديمة مفادُها تنويرُ الناس بالصورة التي تراها الوزارة تنويرًا؛ فكلُّ عمل فني فيه إبداع مكفولٌ له أن تنشره وزارة الثقافة وترعاه وتكافئ صاحبه، بقطع النظر عما فيه من تطاول على دينٍ، أو موروثٍ، أو هدمٍ لأخلاق وقيم المجتمع وثوابته، فلا يشترط في العمل الفني مع الإبداع إلا أمران: ألاَّ يكون العمل من وجهة نظر إسلامية؛ فهي عند وزارة الثقافة تعني الرجعيةَ والعودة إلى عصور الظلام (والآن الدنيا كلها كهرباء)، والشرط الثاني: ألاَّ يتعرَّض (للرؤوس الكبيرة) بالنقد، أو الغمز، أو اللمز؛ فهذا خط أحمر، يخلع عنده العلمانيون كلَّ ثياب الحرية التي ينالون من الدِّين متسربلين بها.
أقول: كان الحال كذلك فيما تنشره وزارة الثقافة وتتبناه من أعمال، فكانت تشبُّ بين الفينة والفينة معاركُ بين وزارة الثقافة ومَن سار على هواها ممن يرون الإبداع والفن حاكمًا على كل شيء، وبين من يرون قداسة الإسلام باعتباره دينًا صحيحًا لم يدخله تحريف ولا تبديل؛ فليس يمكن أن يخالف حقيقةً علمية، أو بديهةً عقلية؛ لذا ينبغي أن يكون حاكمًا على كل شيء، وأنه متى ما آمنَّا بأن الدين حقٌّ، فكل ما خالف الحقَّ فهو باطل، والباطل لا يمكن أن يعد فنًّا أو إبداعًا، وإن تسامحْنا وجعلناه إبداعًا، فلا ينبغي أن نسمح بإبداعٍ هادم، يقلب الحقيقةَ، ويحارب الصدق.
وظلَّتْ هذه المعارك تخبو حينًا، وتشتعل أحيانًا؛ لكن لم يكن بمقدور أحد أن يشكِّكَ في كون الأعمال الفنية التي بها مخالفاتٌ وانتهاكات لقدسية الدين أو قيم المجتمع، بها جانب إبداعي فيما دخلتْ تحته من ألوان الفن، فلا تنكر أن "أولاد حارتنا" رواية فنية بالمفهوم العلمي للرواية، وأن قصص "يوسف إدريس" داخلة في مسمى القصة، وأن أشعار "صلاح عبدالصبور" فيها نَفَس الشاعر، ثم يختلف الناس بعد ذلك في تقييم هذا العمل من جوانبَ أخرى، فيقول قوم: إن سلاح الإبداع لا يجعلنا نرفع الرايةَ البيضاء أمام ما هو ضارٌّ بنا أو بقيمنا، وأن هذا المبدع الذي يظلُّ يفكر ألف مرة، ويحور فكرته، ويجمل كلماته؛ حتى لا يصطدم بسيف السلطان - عليه كذلك ألاَّ يصطدم بمقدسات القراء العزل، ويقول قوم آخرون: إن الكاتب عليه أن يكتب ما يمليه عليه إبداعُه دون مواربة، وأن يطلق العنان لقلمه، فكيفما اتجه أعطاه حريته.
هذا عهدُ الناس بوزارة الثقافة، حتى جاءت السنوات الأخيرة، فإذا بالوزارة تغيِّر نهجَها، وتحرق وثيقتها القديمة في تعاملها مع مقدسات الناس وعقائدهم، وتتنازل عن شرط الإبداع الذي وضعتْه قالبًا يصدر من خلاله مهاجمة الإسلام ورموزه؛ بل جعلت الشرط فيما تنشره وتموله من جيوب الشعب المسكين، وتعطي عليه جوائزها: أن يكون فيه هجومٌ على الإسلام، وطعنٌ في الثوابت والمقدسات، فكل من جاء يقول: "يا ليل يا عين" وضمَّن ذلك سخريةً بشعيرة من شعائر الإسلام، أو رمزٍ من رموزه، فله عند وزارة الثقافة جائزةٌ واحتفاء، وشهادة خبرة وتصريح عمل بأنه شاعر، إن كان هجومه على الدين شعرًا، أو أديب وقصاص ومفكر وروائي إن كان هجومه على الإسلام نثرًا.
فجاء "المعلم حلمي سالم" الذي يَسخَر من الرب الكريم، ويتكلم بلغة "طبالين الموالد"، فتجد في كلامه عبارات: "يزغط البط"، و"لطخ"، فرصَّ كلمة بجوار كلمة على طريقة عمال البناء، ثم زعم أن الذي يقوله قصيدًا وشعرًا، ولم يسوغ هذا أحدٌ سوى وزارة الثقافة، التي منحتْه جائزتها ولسانُ حالها: كفى به مبدعًا أنه يسخر من الله.
ثم أخيرًا جاء "الأسطى سيد القمني"، فظن أن الثقافة ورشة حدادة أو نجارة، فهو يطرق بعنف ها هنا، ويكسر هناك، فما جاء بغير الضجيج، ومع هذا كرَّمتْه الوزارة؛ لأن ضجيجه تضمَّن شرطَ الإبداع عندها، وهو الهجوم على الإسلام وشريعته، بقطع النظر عن كذب المهاجم أو صدقه.
فهنيئًا هنيئًا لكل "الأسطوات" و"المعلمين"؛ بل ولكل "العاطلين" و"البطالين"؛ فقد فتحتْ لهم وزارةُ الثقافة فرصَ عمل جديدة في قطاعاتها؛ لتتعاون مع الحكومة في الحدِّ من البطالة المنتشرة بين أفراد الشعب، فما على الواحد من هؤلاء إلا أن يأتي ويسبَّ اللهَ، أو الرسول، أو الإسلام، أو يستهزئ بالشريعة؛ فله عند وزارة الثقافة وظيفةٌ مرموقة، وشهادة خبرة معتمدة من سعادة "الوزير"، أن المذكور شاعر حداثي، أو أديب تنويري، أو روائي مجدِّد، أو مفكر إصلاحي، وقد أعطيت له هذه الشهادة بغير طلبه؛ بناء على ما قام به من "وقاحة" مشكورة في سبِّ الدين المقدس عند أفراد الشعب، الذين هم عند وزارة الثقافة بمثابة العجماوات، لا يفهمون، ولا يراد منهم ولا لهم أن يفهموا.
______________________________________________________
الكاتب: علي حسن فراج
- التصنيف: