العمل الخيري والسيرة الذاتية

منذ 2021-10-11

لديك حياة واحدة، ونفس واحدة، فهل يمكن أن تخاطر بها أو عليها تراهن؟

لديك حياة واحدة، ونفس واحدة، فهل يمكن أن تخاطر بها أو عليها تراهن؟ إن العاقل يعلم ذلك علم اليقين، وعليه يضع منهج حياته، كما يعلم يقينًا أنه لو قُدِّر له عمرًا، فإنه - على الأغلب وحسب التحديد النبوي العام لأعمار الأمة - محصور بين دفتي (الستين والسبعين)، وأنت الآن – غالبًا – فوق عمر العشرين، هذا إن لم يكن فوق الثلاثين والأربعين وربما الخمسين، وعلى ذلك: هل راجعت سيرتك الذاتية؟ وكم لعمل الخير والبر فيها من نصيب؟

 

من رحمة الله بعباده أنه فتح لهم أبواب الخير، وجعلها كثيرة ومتعددة، فما عجز إنسان عن باب إلا وجد غيره، وما سُدَّ باب إلا فتح الله له أبوابًا؛ ولهذا قال الله: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [البقرة: 110]، {وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ [آل عمران: 115]، ﴿ الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَاأُولِي الْأَلْبَابِ} [البقرة: 197]، {إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المزمل: 20]،نلاحظ في هذه الآيات أن الله تعالى ذكر (الخير) على إطلاقه، ولم يقيِّدْهُ بقيد، أو يحدده بمجال دون آخر، كما نجد في كثير من الآيات الكريمة (الذين آمنوا وعملوا الصالحات)، فأشار إلى عمل الصالحات أيًّا كانت، وانظر إلى هذا الموقف الجميل لبعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ عن أبي ذر ((أن ناسًا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله، ذهب أهل الدُّثُور بالأجور، يصلون كما نصلي، ويصومون كما نصوم، ويتصدقون بفضول أموالهم، قال: «أوَليس قد جعل الله لكم ما تصدقون؟ إن بكل تسبيحة صدقةً، وكل تكبيرة صدقةً، وكل تحميدة صدقةً، وكل تهليلة صدقةً، وأمرٌ بالمعروف صدقة، ونهيٌ عن منكر صدقة، وفي بضع أحدكم صدقة» ، قالوا: يا رسول الله، أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر؟ قال: «أرأيتم لو وضعها في حرام أكان عليه فيها وزر؟ فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجر» [رواه مسلم (1006)]، وأبو ذرٍّ هو الذي روى أيضًا قول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تحقِرَنَّ من المعروف شيئًا، ولو أن تلقى أخاك بوجه طَلْقٍ»  [رواه مسلم (2626)].

 

ومثل ذلك - مما يدل على سعة الخير وتعدد أبوابه - ما يلي؛ فتأملها:

عن كعب بن عجرة، قال: ((مرَّ على النبي صلى الله عليه وسلم رجل، فرأى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من جَلَدِهِ ونشاطه، فقالوا: يا رسول الله، لو كان هذا في سبيل الله؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن كان خرج يسعى على ولده صغارًا فهو في سبيل الله، وإن كان خرج يسعى على أبوين شيخين كبيرين، فهو في سبيل الله، وإن كان يسعى على نفسه يعفها فهو في سبيل الله، وإن كان خرج رياءً ومفاخرةً، فهو في سبيل الشيطان» [المعجم الكبير للطبراني (282)]، وفي حديث سعيد بن أبي بردة، عن أبيه، عن جده، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «على كل مسلم صدقة» فقالوا: يا نبي الله، فمن لم يجد؟ قال: «يعمل بيده، فينفع نفسه ويتصدق» قالوا: فإن لم يجد؟ قال: «يعين ذا الحاجة الملهوف» قالوا: فإن لم يجد؟ قال: «فليعمل بالمعروف، وليمسك عن الشر، فإنها له صدقة» [البخاري (1445)].

وعن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه، ومن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومن فرج عن مسلم كربةً، فرَّج الله عنه كربةً من كربات يوم القيامة، ومن ستر مسلمًا ستره الله يوم القيامة» [البخاري (2442)].

 

وعن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: «كل سُلامَى عليه صدقة، كل يوم، يعين الرجل في دابته، يحامله عليها، أو يرفع عليها متاعه صدقة، والكلمة الطيبة، وكل خطوة يمشيها إلى الصلاة صدقة، ودَلُّ الطريق صدقة» [البخاري (2891)].

 

فالمولى عظيم رحيم كريم؛ فتح لك الأبواب، ويسر لك السبل، وشملك بلطفه عز وجل، وقبل منك العمل مهما قل، وما بقي عليك هو: الصدق والبذل والسعي.

 

ذاك البذل والسعي هو ما أردت الإشارة إليه في هذه السطور، في محاولة لتحفيزك نحو مراجعة السيرة الذاتية لك ولحياتك، وكم فيها من نقاط أثرٍ وتأثير، وأعمال لازمة ومتعدية، وخير وتوفيق!

 

أنت على كل حال ساعٍ ومجتهد وباذل، وأنت مجازى على كل ذلك؛ إما أجرًا وإما وزرًا، وإما –والله أعلم - كفافًا لا عليك ولا لك، وتأمل ماذا قال الله في ذلك: {إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى * فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى * وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى * وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى} [الليل: 4 - 11]، وبناءً على ذلك؛ فما هو سعيك؟ وأين هو؟ وفي ماذا؟ وكيف؟ ولماذا؟

 

من توفيق الله لبعض الناس أنه يسَّر له سبيل الخير، وأرشده إليه، وألهمه إياه، فترى له في كل غنيمة منه سهمًا، ومن كل خير حظًّا، حتى لا يكاد يُذكَر الخير إلا كان في قائمة أصحابه، ولا يكاد يسمع ببرٍّ إلا كان من أول طلابه، حتى يصل به الحال إلى اقتران اسمه به، فيُذكر معه في السياق، وتشخص الأبصار نحوه في كل سباق، ويثبت أنه دائمًا بالخير جدير، وبالتجارة مع ربه حريص وخطير؛ إذ يستشعر ما حثه عليه مولاه: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ} [البقرة: 207]،فكان بذلك من أوائل المستدلين بأصدق دلالة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الصف: 10]، فأقدَمَ بكل حب وقناعة، وعلم يقينًا أنها أفضل التجارة، وأرجى البضاعة: {إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ}  [فاطر: 29].

 

هذا المرء من كتب حقًّا سيرته الذاتية بمآثرَ خالدة، يجدها دومًا في حياته وبعد مماته، وما أعظمها من مآثر حاضرة شاهدة بين يدي ملك الملوك في يوم يُحمَد ذخرها، كما يحمد ادخارها.

 

هل يمكن أن يستويَ من تراه اليوم يذهب إلى المجتمعات المحتاجة باختلاف جغرافيتها وأماكنها، ينفق من ماله ووقته وجهده، ويترك أولاده وشهواته، ويؤثر أن تكون رحلاته واستجمامه في تلك البلدان، ليحفر بئرًا، أو يفتح مدرسة، أو يطعم طعامًا - هل يستوي هو ومن ينفق ماله يسرة ويمنة، لا يراعي فيه فقيرًا، ولا يمكن أن تجد في قاموسه خيرًا؟ عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن مما يلحق المؤمن من عمله وحسناته بعد موته علمًا علِمه ونشره، وولدًا صالحًا تركه، ومصحفًا ورثه، أو مسجدًا بناه، أو بيتًا لابن السبيل بناه، أو نهرًا أجراه، أو صدقةً أخرجها من ماله في صحته وحياته يلحقه من بعد موته» [صحيح ابن ماجه (200)].

 

أما الحب والمودة والمروءة والرحمة والكرم الذي يتمتع به فاعل الخير، حتى لَتجد سيرته الذاتية بها مليئة ناصعة؛ فانظر إلى قوله تعالى منكرًا على المجتمع الجاهلي: {كَلَّا بَلْ لَا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ} [الفجر: 17]، {فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ}  [الضحى: 9]، {أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ * فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ * وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ} [الماعون: 1 - 3].

 

وما أجمل أن تكون ممن يمدون أياديهم فيُغْنُون، أو يحضرون فيكفون؛ عن ابن عمر: ((أن رجلًا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، أي الناس أحب إلى الله؟ وأي الأعمال أحب إلى الله؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أحب الناس إلى الله تعالى أنفعهم للناس، وأحب الأعمال إلى الله تعالى سرورٌ تُدخله على مسلم، أو تكشف عنه كربةً، أو تقضي عنه دينًا، أو تطرد عنه جوعًا، ولأن أمشيَ مع أخي في حاجة أحبُّ إليَّ من أن أعتكف في هذا المسجد -يعني مسجد المدينة شهرًا- ومن كفَّ غضبه ستر الله عورته، ومن كظم غيظه، ولو شاء أن يمضيَه أمضاه - ملأ الله قلبه رجاءً يوم القيامة، ومن مشى مع أخيه في حاجة حتى يتهيأ له، أثبت الله قدمه يوم تزول الأقدام»  [المعجم الكبير للطبراني (13646)].

 

فانظر إلى سعة رحمة المولى الكريم سبحانه؛ يرشدك إلى فعل الخير، وييسر لك أسبابه، ويفتح لك أبوابه، ويحثك على ما يعود عليك أنت بالخير والبركة في الدنيا والآخرة، ويجعل إسهامك في مساعدة الآخرين سببًا في رضاه عنك، وتوفيقه لك، وهو الغني عنك تبارك في علاه؛ فتأمل قوله تعالى: {وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا} [المزمل: 20]، فإعانة الآخرين والتيسير عليهم، حتى لو كانت قرضًا مردودًا؛ فإنها من أعمال الخير التي تبني لصاحبها سيرته الخيرية عند الله وعند خلقه؛ وعن البراء بن عازب رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من منح مَنِيحةَ لبنٍ، أو ورقٍ، أو هَدَى زِقاقًا، كان له مثل عتق رقبة» [صحيح الجامع: (6436)]؛ قال الحافظ المنذري: "معنى قوله: ((منيحة ورق)): يعني به قرض الدرهم".

 

ختامًا؛ لتعلم أن الذي يعمل الخير وينفق ليس معناه أنه لا يحب المال، ولكنه يؤثر ما عند الله، ويتطلع إلى ما يناله مقابل إنفاقه من تلك الخيرات التي يعلم بعضها، وربما يحفظ الله له أكثر منها مما لا يعلمه: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا * إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا} [الإنسان: 8، 9].

 

هذا المرء لخيره وخيريته دخل في قول الله تعالى: {وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ * لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} [المعارج: 24، 25]، وعن أبي سعيد الخدري: ((... وإن هذا المال خضِرةٌ حُلوة، ونعم صاحب المسلم هو لمن أعطاه المسكين واليتيم وابن السبيل، فمن أخذه بحقه، ووضعه في حقه، فنعم المعونة هو، ومن أخذه بغير حقه، كان كالذي يأكل ولا يشبع، ويكون عليه شهيدًا يوم القيامة))؛ [صحيح الجامع (2317)].

 

فراجع سيرتك الذاتية، وأحسِنْ بناء مقامك عند مولاك، وليكن أمامك قوله تعالى عن نبيه موسى عليه السلام: {وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا} [الأحزاب: 69].

__________________________________________
الكاتب:د. محمد علي السبأ