فن الكتابة فى الصفحة البيضاء - قواعد: (10) تفصيل قاعدة {ليس لك من الأمر شيء}
وأعلمُ أن كثيرًا منا قد تَرَبَّى خلافَ هذا ورُبَمَا يَعوقُهُ ذلكَ كثيرًا عن المجاهدَة..
فإن سألتِ: كيفَ نحقق قاعدةَ "ليسَ لكَ مِنَ الأمرِ شَيء"، دون إهمالِ تَعلِيمِهم تَحَمُّلِ عَواقِبِ الأمور؟
مثلا، إذا سَقَطَ منه كوبُ العصير دون قصدٍ أو إهمال، أو لم يصنعْ لكِ كوبَ قَهوَتِكِ كما تحُبِينَهُ، أو دَخَلَ إلى المنزِلِ بحذائِهِ الممتليءِ بالرملِ، أو أغلقَ السيارةَ قبل أن تنزِعوا المفاتيحَ منها، أو أضاعَ هاتفَهُ أو نَزَلَ إلى المَسبَحِ ناسيًا أن الهاتفَ فِي جَيبِهِ.. إلى آخِرِ تلكَ المواقفَ اليوميةِ العفويةِ التي لا تتماسُّ مع العقوقِ أو الحقوقِ، ومتصلةٌ بأمورٍ دنيويةٍ لا دينية، وليس فيها شُبهَةُ إهمالٍ أو سوءُ خُلُق..
فبدايةً:
-استهدِي باللهِ وحَوقِلِي واسترجِعِي واحمَدِي اللهَ علَى كُلِ حال..
ثم اقبَلِي اعتِذارَهُ ولا تُشعِلِي البيتَ حرائقَ على مِثلِ تلكَ الأمور، مهما كانتْ مُوجِعةً لكِ وسخيفة..
-وفهّمي ولدَكِ أنها دنيا لا تُساوِي عِندَ اللهِ جَناحَ بَعوضةٍ فلن تغضَبِي لفواتِ دُنيا، وأنكِ ستحتَسِبِينَ أجرَ كَظمِ الغيظ، لأنكِ دومًا تَدْعِين أن يُصَبِرَكِ اللهُ على مصائبِها ومُنَغِّصاتِها وسخافاتِها كي تَغنَمِي أجرَ الصبرِ الجميلِ، وأنكِ تَحمَدِينَ اللهَ أنها ليست مَصائبَ في الدينِ ولا فِيهم فالحمدُ للهِ أنهم بِخير.. وأن قُدوَتَكِ في ذلكَ النبيُ ﷺ الذي لم يغضَب لنفسِهِ ولا انتقمَ لها قَط ..
-واجعَلِيهِ يُساهِمُ في إصلاحِ الخطأِ قدرَ استطاعتِهِ، فلا تَحمِلِي عنهُ واجِبَ الإًصلاحِ إلا قليلًا حسبَ تقديرِكِ للظرفِ الراهِنِ، بكلِ هدوءٍ وصبرٍ وحِلم..
فمادامَ قد أخطأَ رُغمًا عنهُ ودونَ إهمال، ووَجَدتِهِ نادمًا، فسامحِيه.. ولا تلومِيهِ كأنه مُتُعَمِدٌ.. ففي الحديث: «رُفِع عن أمَّتِي الخطأَ والنسيانَ وما استُكْرِهُوا عَلَيه»
ولو كان أخطأَ عن قَصدٍ وهناكَ شبهةُ إهمالٍ، لكنهُ نادمٌ، فاجعلِي غايتَكِ أن يَتَعَلمَ الدرسَ المُستفادَ مِن خَطَئِهِ، وسُرعَةَ إزالتِهِ بإقرارٍ واعتذارٍ وإصلاحٍ: {ويدرؤون بالحسنةِ السيئة}، وقال النبي ﷺ: «أتبِعِ السيئةَ الحسنةَ تمْحُها» ..
ولا تكن غايتُكِ أن يرى قدراتَكِ على الانتقامِ والبَطشِ/ وشِدةَ اعتدادِك بحظِّ نفسِكِ والعياذُ بالله/، ورَفْضَكِ لقبولِ الإصلاحَ مِنه/
فلا يدفَعُكِ حِرصُكِ على ردعِهِ إلى أن تفعَلي ذلك..: {إنما التوبةُ على اللهِ للذينَ يعمَلُونَ السُوءَ بجهالةٍ ثم يتُوبُونَ مِن قَرِيب} .. {إلا من ظَلَمَ ثُم بَدَّلَ حُسْنًا بعدَ سُوءٍ فَإنِي غَفورٌ رحيم} ..
فإن الشعور َبالذنبِ أقوَى رادعٍ عن الخطأِ بالفِعل، وقد تحقَقْ لكِ..
أما إن كان قد أخطأَ عامدًا مُتَعَمِّدًا وتكرارًا، ولديهِ استهانةٌ بحقِ الآخرينَ أو النعمةِ، مع عدمُ الشعورِ بالذنبِ أو الندم، فلتكُنْ غايتُكِ هنا كذلكَ وأنتِ تتخيرينَ وسيلةَ الردعِ، أن تربيَهُ على النفورِ من تَكرارِ الخطأِ والحرصِ على الحقِ واجتنابِ الظلمِ، لا أن تَجعَلِيهِ يكتئِبُ وييأسُ من نفسِهِ بسببِ شِدةِ ردِّ فِعلِكِ..
وأحيانًا تَضعُفُ مقاومَتُنا ولا رَيْب.. فلو غَضِبتِ لنفسِكٍ في موقِفٍ ليسَ لديكِ نيةٌ للهِ من ورائِهِ بل ثأرًا لحظِّ نفسِكِ فقط، وتَجاوَزتِ الحَدَّ في رِدِّكِ وظَلَمْتِ وقَصَّرتِ في تطبيقِ القواعد، فحذارِ أن تُبَرِرِي ذلكَ بأعذارٍ تَنفِي بها أنّ ما صدرَ مِنكِ كان خَطَئًا وظُلمًا يَستَوجِبُ توبةً واعتذارًا، ولا تُلقِي بالخطأِ على ولدِكِ كما قلنا سابقًا،
بل على النقيض: بادِري بالإقرارِ بشجاعةٍ وتواضُعٍ أنه كان سلوكًا خاطِئًا وكلُنا ذوُو خَطأٍ وخَيرُ الخطائينَ التوابون.. {يا أيُّها الذِينَ آمَنُوا كونُوا قَوامِينَ بالقِسطِ شُهَداءَ للهِ ولو على أنفُسِكُم}..
وإن كان خَطَؤُهُ في أمورٍ دينيةٍ أو أخلاقيةٍ، كتَكاسُلٍ عن مَوعِدِ الصلاةِ مَثَلاً أو التلفُظِ بالسبِّ أو الكذِبِ أو خيانةِ أماناتٍ وأسرار
أو السخريةِ والاغتيابِ لغيرِه وما إلَى ذلك، فاغضَبِي ها هنا للهِ إن شِئتِ ولا حرج عليكِ، لأنك تُعَلِّمِينَهُ بغضَبِكِ هنا أن يَعمَلَ حِسابًا لغَضَبِ الله لا غَضَبِك، فغَضَبُكِ هنا تربيةٌ إسلاميةٌ قَوِيمةٌ، وإن رأوْا أوداجًا مُنتَفِخَةٌ ووَجهًا مًتَمَعِّرًا حتى، فليسَ عليكِ مَلام..
وفهِمِيهِم كلَ مَرةٍ هذا التمايُزَ السلوكِيَ بينَ المواقفِ التِي ((للهِ))، والمواقفِ التي ((لنَفسِكِ))، غرسًا لقِيمةِ الأُولَى في نفُوسِهم، وطلبًا للمساعدةِ منهم كصُحبَةٍ صالحةٍ، حالَ ضَعفِكِ في الثانية،
وأن رسولَهم ﷺ لم يغضَبْ لنفسِهِ قَط، إلا إنّ يَقَعَ مُنكَرٌ أمامَه أو تَهاوُنٌ في حقوقِ الغَير وما إلى ذلك، وأن غضَبَهُ ﷺ كان درجاتٍ:
-أولُها يَسكُتُ ويَتَغَيَّرُ وجهُهُ بالعُبُوسِ أو بتعبيراتِ الاستياءِ، وتَختَفِي ابتسامتُه الحَنونةُ الدائمةُ، وقد تَحِلُّ مَحِلَّها ((ابتسامةُ المُغضَب)) كما حدثَ في قِصةِ كعبٍ بنِ مالِكٍ وغزوةِ تَبُوك.
-ثانيها يسكُتُ ويَحْمَرُّ وجهُهُ ويُقرَأُ الغضبُ في وجهِه، وتَضطَرِبُ لذلكَ قلوبُ رِجالٍ كالفاروقِ عُمَر..
-ثالِثُها يَنهَرُ المُخطِيءُ بغضَبٍ واضحٍ يَهابُ مِن وَقعِهِ الحاضِرُون..
فخِتامًا...
كُونِي قدوةً في الاعتِرافِ بالخطأِ/ والتواضعِ للحقِ/ والتوبةِ من قريبٍ/ والغضبِ للهِ لا للنَفسِ/ وكُونِي في ذاكِرَتِهِم الأمَّ التقيةَ الرحيمةَ العَفُوَّةَ، التي تُسامِحُ في أمورِ الدنيا إجمالًا، لكِنَها في حَقِ اللهِ وتربيتِهم على الاستقامةِ لا تِتهاوَن..
وبذلكَ تُحَقِقِينَ التَوازُنَ في {لَيسَ لَكَ مِنَ الأمرِ شَيءٌ} ، وتُضاعِفِينَ مِن أمانِ أبنائِكِ النفسيِّ والدِينِيّ، بإذن الله..
وأعلمُ أن كثيرًا منا قد تَرَبَّى خلافَ هذا ورُبَمَا يَعوقُهُ ذلكَ كثيرًا عن المجاهدَة..
والجواب في القاعدة القادمة بإذن الله..
أمةالله-عفا الله عنها
أسماء محمد لبيب
كاتبة مصرية
- التصنيف: