قهوة الصباح وشاي المساء...

منذ 2021-10-19

من العجيب حقًّا أن يمتلك البعضُ هذه القدرة الفائقة على حُبِّ الذات، وعدم المُبالاة بالآخرين، فإذا به يرى كل ما يواجهه مِن مشكلات على أنها نوازل، ثم لا هو يُعير لما يُكابده ويُعانيه غيرُه كثيرَ بال.

من العجيب حقًّا أن يمتلك البعضُ هذه القدرة الفائقة على حُبِّ الذات، وعدم المُبالاة بالآخرين، فإذا به يرى كل ما يواجهه مِن مشكلات على أنها نوازل، ثم لا هو يُعير لما يُكابده ويُعانيه غيرُه كثيرَ بال. وفي حين أنه لا يَفْتُر يُطالب الآخرين بحقه في الحياة والسعة والنعيم، تَجِده يَنسَى واجبَه في دفع ما بالآخرين مِن موت وفقر وجحيم، بما هو في حدود طاقته وما يستطيع.

 

وقد تَقوم الدنيا مِن حوله لأحداث جسَام، بينما هو منشغلٌ بأموره الحياتية، وبعاداته اليومية، التي لا يكاد ينفع وجودها إن انعدم ضررها: ما بين قهوة الصباح بالكريمر، وشاي المساء بالكيك أو البسكويت، وأشربة لا يمكن تناولها إلا باردة، وأطعمة تكون أشهى ما تكون وهي ساخنة...

 

ومُباريات رياضية، وجلسات للترويح والتفريح والدردشة في لا شيء مهم، مع قزقزة اللب والمكسرات المختلفة...

 

ويُؤسفني أن هذا البعض ربما يكون هو الغالبية منا، وأننا قد أغرقنا في عاداتٍ وطقوس مِن الترف أَنْسَتْنا واجباتنا، وألْهَتْنا عن التفكر في نهاية هذا الطريق...

 

فإن قيل: وما المشكلة في أن نتمتع بالحياة وبما رزقنا الله؟

قلنا: ليست المشكلة بالتأكيد في التمتع بما رزقنا الله عز وجل، إذ يقول تعالى: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} [الأعراف: 32].

 

ولكن المشكلة – كما ذكرنا - أن نغرق في هذه المتع حتى نصِل إلى حد الترف المذموم، وأن تصبح هذه الحياة المُترفةُ غايةً في حدِّ ذاتها وليستْ وسيلة لتحقيق الهدف الذي خُلقنا مِن أجله، فإذا بها تتحول إلى عائق في طريق الوصول إلى الله عز وجل، والنجاة في الدار الآخرة.

 

ولنتدبَّر قولَ الصحابي الجليل أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه في قول الله عز وجل: {وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [البقرة: 195].

 

فقال رضي الله عنه: (إنما نزلتْ فينا معشَر الأنصار، لمَّا أعز اللهُ دِينه، وكثر ناصروه، قلنا فيما بيننا: "لو أقبلنا على أموالنا فأصلحناها؟" فأنزل الله هذه الآية..)[1].

 

... فعلينا إذاً أن نعيد حساباتنا مرة أخرى، في طريقة معاشنا وحياتنا وتصرُّفنا فيما أنعَم اللهُ علينا به، حتى لا يكون فيه هلَكتنا، بانصرافنا فيه إلى الدنيا عن الآخرة.

 

فإذا كان هذا ما قيل لِخير القرون وقد بَذلوا النفْس والمال حتى انتصر الحق، وأعز الله بهم الدين، فماذا يمكن أن يُقال لنا نحن وقد انشغلنا بدنيانا، في أحوج ما يكون الدين لنا؟

 

وتركْنا الأمرَ بالمعروف والنهي عن المنكر، والجهاد في سبيل الله – إلا مَن رحم ربي - حتى احتُلَّت بلاد فتَحها المسلمون بدمائهم وأموالهم وأعمارهم، وحتى دِيسَت البيوت، وهُدِّمتْ على مَن فيها، وذُبِح الأطفال والشيوخ، وانتُهكت حرمات النساء والرجال، ونُهبت الأموال، وجُوِّع الناس وأُفقِروا، وأُسيء إلى الدِّين ولم نحرك ساكنًا...

 

... ذلك أن أعداء الأمَّة لما أيقنوا أن المسلمين لا يُغلبون ما تمسكوا بتعاليم دينهم وأقاموا شعائره، تآمروا على حُبِّ الجهاد في نفوس المسلمين بتسليط الشهوات عليهم، وتحويلهم إلى أمَّة مستهلِكة لا تكاد تحرِّك عقولها بالفكر، ولا أيديَها بالعمل، حتى نامت قلوبها، وأنساها الشيطان ذكْر ربها...

 

ولقد حذَّرَنا نبيُّنا صلى الله عليه وسلم مِن الانشغال بالدنيا وترْك الجهاد فقال: «إذا ضَنَّ الناسُ بالدينار والدرهم، وتبايعوا بالعينة، واتَّبعوا أذنابَ البقر، وتركوا الجهادَ في سبيل الله؛ أنزل الله بهم بلاء؛ فلا يرفعه حتى يُراجعو دينهم» (إسناده صحيح) [2].

 

... وظلَّ التآمُر على ثوابت المسلمين يَنسجُ خيوطَه مِن الخارج والداخل ليلًا ونهارًا حتى ما بات الناس يعرفون معروفًا، ولا ينكرون منكرًا...

 

فكان أنْ تجرَّعنا مرارة ما جنَت أيدينا، وتَحقَّق فينا ما جاء في الحديث الشريف مِن وعيدٍ إذا بلغ حالنا هذا الحد، إذ يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «والذي نفسي بيده، لتأمرُنَّ بالمعروف، ولتنهونَّ عن المنكر، أو ليُوشِكَنَّ اللهُ أن يَبعث عليكم عِقابًا مِن عنده، ثم لتدْعُنَّه فلا يستجيب لكم»  (إسناده صحيح).

 

... أما العجَب حقًّا فَمِمَن يقرؤون في قصص القرون الأولى – وإن نزلت في غير المؤمنين - ثم لا يأخذون منها العبرة!

 

ألا فكيف نظنُّه كان حال الأمم التي أهلكَها اللهُ مِن قَبلنا مِن المترفين؛ إذ يقول جل وعلا: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا} [الإسراء: 16]؟

 

هل كانوا أشراراً ذوي أنياب مرتفعي الحواجب محمري العيون؟!

أم أنهم كانوا بشرًا ربما أكثر جمالًا وأناقة وتحضُّرًا منا، ولكنهم لم يصبرو على النعمة ففتنوا بها واغتروا، وغرقوا في نعيمها، ونسوا أن الحياة فترة اختبار، ودار عمل لارتقاء الدرجات العلا في الحياة الآخرة الدائمة؟!...

 

إذ يقول الله عزو جل: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} [القصص: 77].

 

ويقول: عز وجل: {تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [القصص:83].

 

إن المُتابع لأحوال الدنيا اليوم لَيضع يده على قلبه أن يكون قد {اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ} [الأنبياء: 1].

 

فلمَ لا نفيق مِن غفْلتنا، ونستيقظ مِن سُباتنا الطويل قبل أن يتحقق فينا ما تحقق فيمَن قبلنا مِن الأمم التي وَعَظَنا اللهُ عز وجل أن نكون مثلهم؟!، إذ يقول في كتابه العزيز: {وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنْشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا آخَرِينَ * فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَرْكُضُونَ * لَا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ} [الأنبياء: 11- 13].

 

.. إلى أين؟!

.. إلى أين تركضون مِن الزلازل والسيول والأعاصير المهلكة؟!...

.. إلى أين تركضون مِن الطاعون والسرطان والإيدز والأنفلونزا القاتلة؟!

.. إلى أين تركضون مِن أوجاع لم تكُن فيمَن سَبَقَنا، جلبْناها على أنفُسنا جلبًا؟!

.. ارجعوا إلى ما أُترِفتم فيه ومساكنكم الفارهة وطعامكم الشهي ومجالس لهوكم...

 

.. أكنتم تَظنون أن المسلمين سيَظلون أبد الدهر يموتون جوعًا وعطشًا في بقاع شتَّى، ويُساوَمون على ترْك دِينهم مِن أجل حياتهم أو حياة أطفالهم؟ وأنتم تكنزون الأموال في بنوك مَن حَرَمهم الحياة، ومَنَعهم الطعام والشراب؟!

 

.. أم كنتم تظنون أن يدوم الحال والمسلمون يتجرعون الظلم أجيالًا وراء أجيال، وتُحتل الأرض، وتُنتهك الأعراض، وتُداس المقدسات، وتُقام المذابح الجماعية للمسلمين، وتَعلو صرخاتهم يستنفروننا، ومرة بعد المرة نخذلهم؟! ويستنصروننا في الدين فلا ننصرهم؟!

 

.. أم أنكم نَسيتُم أن دعوة المظلوم ليس بينها وبين الله حجاب...

 

.. ألا فلنحذر {فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} [آل عمران: 19].

 

ولا يَكُوننَّ نصيبنا مِن الدنيا أن نكُون ممَّن قال الله عز وجل فيهم: {حَتَّى إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذَابِ إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ * لَا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِنَّا لَا تُنْصَرُونَ} [المؤمنون: 64- 65]، {قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ * فَمَا زَالَتْ تِلْكَ دَعْوَاهُمْ حَتَّى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيدًا خَامِدِينَ} [الأنبياء: 14- 15].

 

.. {فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ} [الذاريات: 50].

 

.. فمِن رحمة الله بنا أنه لا زالت الحياة تدبُّ فينا، ولا زالت بأيدينا الفُرصة أن نعود، فنُقِيم شرْع الله، ونحقِّق عبوديته عز وجل لنا، فمِن أجْل ذلك خلقنا.. ولنُجاهد بالنفس والمال والكلمة، ولنأمُر بالمعروف ولننْهَى عن المنكر، ولننصُر المظلوم، ونأخُذ على يد الظالم بالضوابط الشرعية، ولنُحيِي الإسلام فينا وندْعو إليه بالحكمة والموعظة الحسنة، حتى ننثُر خيرَه ونورَه وبركاتِه على البشرية جمعاء...

 

ولنتَّخذ ممَّا أنعَم اللهُ علينا مِن مال وصحة وعمر وعِلم مَطايا إلى الفردوس الأعلى، فلا يضِنَّنَّ أحدٌ على نفسِه في الدنيا بالحياة الطيبة، وفي الآخرة بنعيم مُقيم وملك لا يَفنى...

 


[1] "صحيح تفسير ابن كثير" اختصره وخرج أحاديثه فضيلة الشيخ أبو عبد الله مصطفى العدوي.

[2] الآيات القرآنية الكريمة: موقع الإسلام، التابع لوزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد، بالمملكة العربية السعودية. www.al-islam.com.

الأحاديث النبوية الشريفة وتخريجها: الموسوعة الحديثية بموقع الدرر السنية: http://dorar.org/enc/hadith.

___________________________________________________
الكاتب: غادة الشافعي