ما بعد كورونا

منذ 2021-11-01

قد نكون في أيامنا هذه نعيش اللحظات الأخيرة لها وأنفاسها المتقطعة تتحشرج، تبذل أقصى جهدها للبقاء ولو كلفها الأمر بتحوير ذاتها مرارًا وتكرارًا، فهل سترحل من دون رجعة، أم ستبقى وما علينا إلا معايشتها، وتقبُّلها كأي كائن فضولي متطفل يسعى لأن يكون جزءًا من يومياتنا ومن خصوصياتنا؟

قد نكون في أيامنا هذه نعيش اللحظات الأخيرة لها وأنفاسها المتقطعة تتحشرج، تبذل أقصى جهدها للبقاء ولو كلفها الأمر بتحوير ذاتها مرارًا وتكرارًا، فهل سترحل من دون رجعة، أم ستبقى وما علينا إلا معايشتها، وتقبُّلها كأي كائن فضولي متطفل يسعى لأن يكون جزءًا من يومياتنا ومن خصوصياتنا؟

 

سمعنا عنها الإشاعات في بلاد الشرق، فتعاملنا معها باستهزاء وسخرية وقلَّلنا من شأنها، حتى غزتنا في عقر ديارنا وأرقت مضاجعنا، وهدَّدت حياتنا وحياة أحبابنا وأهالينا، ولا سيما ونحن نرى بعض الدول الغربية كإيطاليا وإسبانيا والولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا، ممن يملكون ترسانة جيدة في الإمكانيات العلاجية، ومع ذلك أعجزها هذا الوباء وأرقها، فلم تجد حلولًا طبية ولا علاجًا فعالًا، وقد نادى البعض بفكرة مناعة القطيع، فهي الحل الأمثل، وغيرهم من لجأ إلى حل الحجر والتباعد والإغلاق التام، حتى ينحسر الوباء ويرحل.

 

عندها شعرنا بالخوف والقلق، بعدما أرغمنا على الحجر الصحي والإغلاق شبه التام، فتملكتنا هستيريا الشراء والاستحواذ لكل ما يصل إلينا من مواد استهلاكية، المواد الغذائية ومواد التعقيم، وكل ما من شأنه يضفي علينا الوفرة والاطمئنان، وضمان العيش لأشهر دون الخروج والتبضع.

 

ثم أعقبتها أيام للحجر، كان حجرًا فعليًّا في أغلبه، تعطل فيه السفر وتوقف النقل بين الدول، وخروج نادر وتوجس من كل دخيل، وكل من تظهر عليه أعراض المرض ولو كانت أنفلونزا عادية.

 

كان إغلاقًا تامًّا، أو يكاد يكون كذلك، المؤسسات التربوية والتعليمية أوصدت أبوابها، بعض الإدارات، المقاهي وكل التجمعات سواء كانت رياضية ترفيهية وحتى العبادة، فقد أغلقت المساجد وأبقِي على الأذان فقط لكل صلاة يختم بعبارة "الصلاة في بيوتكم"، وما أصعبها على رواد المساجد ومن تعلَّقت قلوبهم بها، حتى رمضان وصلاة التراويح لم تُقَم في المساجد، بل كل عائلة أدت صلواتها في بيتها مكتفية بالرخص، وتلاها عيد الفطر وعيد الأضحى تمت الصلاة في البيت بين أفراد العائلة الواحدة.

 

وحل الصيف ونادت بعض الهيئات بالفتح، لكنه قوبل بالرفض، ومضى على ذلك وقت يكاد يكون أربعة أشهر أو خمسة، واعتقد البعض أنها زالت وفي طريق الانحسار، لكنها كانت موجة ثانية تلتها ثالثة وتحوُّرات في كل موجة.

 

وفي عامها الثاني، كانت أشدها وطأةً الموجة الثالثة المتحورة دلتا التي أودت بالكثير في عدة بلدان كالهند وغيرها.

 

مرت الشعوب كلها بتلك الجائحة، وقد عانت أغلبها، وفقدت الأسر الكثير من أبنائها من مختلف الأعمار.

 

وها هي الآن في طريقها للانحسار بعد أن أذاقتنا مرارة الفقد والمرض والقلق والتوتر والانطواء. فهل أثرت فينا؟ وهل كان حضورها المفاجئ المباغت ومكوثها المطول غير المرغوب فيه أي أثر فينا سواء على مستوى الأفراد أو الجماعات أو الدول؟

 

هل نحن أنفسنا منذ سنتين أم تغيرنا؟ والتغير الذي طرأ كيف هو؟

 

تساؤلات تطرح بإلحاح.

 

على المستوى الفردي لكلٍّ منَّا:

هل غيَّرت طريقة تفكيرنا ونظرتنا للحياة وتقديرها واحتمالية فِقدان الأهل والأصدقاء بمجرد أن أحمل الفيروس إليهم؟

 

هل تجاوزنا محنة الوباء وحولناها إلى منحة باستغلال أوقات الفراغ التي أرغمنا عليها، من خلال تعطيل المدارس والكثير من المؤسسات الخدماتية؟

 

على المستوى الجماعة:

هل كانت تلك المحنة التي أبعدتنا عن الجماعات والتواصل؛ كالصلاة والاجتماعات العلمية والعملية ذات كسب ودلالات، ذات فائدة أم أنها قد أرخت بظلالها القاتمة علينا وغيبت كل ما هو جميل.

 

على مستوى التعليم:

هل استفاد التلاميذ والطلبة من العطلة التي أجبروا عليها، وهل استطاعوا أن يتوافقوا مع التدريس عن بعد باستغلال التكنولوجيا الحديثة، وهل الكل استطاع أن يواكبها ويستفيد منها.

 

على مستوى المهني والاقتصادي:

هل تأثرت بعض المهن والوظائف بتلك الجائحة؟ وهل بقي العمال محتفظين بأعمالهم ورواتبهم، وهل تمكن البعض من تطويع المحنة إلى منحة باستغلالها وَفق ما تدر عليه من أرباح وفوائد، وهل كان الكل رحماءَ بينهم متآزرين متكافلين، أم أن الجشع قد وجد سبيله إلى بعض النفوس المريضة، فزادوا مرضًا وجشعًا، واستغلوا الكارثة أحقر استغلال ولو على حساب الضعفاء والمساكين.

 

هي تساؤلات كثيرة قد تكون لبعضها إجابات واضحة علنية بديهية، وقد تكون بعضها مستحيلة.

 

إننا بلا شك لسنا نحن قبل سنتين وقد تغيَّرنا، وتغيَّر نمط حياة أغلبنا، وكل منا اختار سبيلًا لذلك التغيير، سواء كان مجبرًا عليه أو مخيرًا، فما أرغمتنا عليه تلك الجائحة من تغيير في تلك المدة، لم يكن ليحدث خلال سنوات أو حتى عمر، تعاملنا معها احتياطاتنا حينًا واستهتارنا أحيانًا أخرى، تقبلنا إياها حينًا وأنكرنا وجودها أحيانًا أخرى، بين الهلع القاتل والنكران التام كنا نحن.

 

ولا نعرف قيمة النعمة إلا بفِقدانها، فقد افتقد المسلمون زيارة بيت الله حاجين أو معتمرين، وافتقد الجميع التواصل والتقارب، واشتاقوا لكلمة سَوُّوا صفوفكم يرحمكم الله، تراصوا يرحمكم الله؛ عن عبدالله بن عمر أن الرسول صلى الله عليه وسلم: "أقيموا الصفوف، فإنما تصفون الملائكة وحاذوا بين المناكب، وسدُّوا الخلل، ولينوا في أيدي إخوانكم، ولا تذروا فُرُجات للشيطان، ومن وصل صفًّا وصله الله تبارك وتعالى، ومن قطع صفًّا قطعه الله تبارك وتعالى"، فالتباعد الذي فرض على المصلين قسرًا خوفًا من العدوى، وحفاظًا على السلامة ذكرهم بقيمة التراص والمنكب إلى المنكب، وأنها ليست مجرد سلوكات تبدأ بالإقامة وتنتهي مع التسليم، وإنما هي منهج حياة وسلوك دائم لا يقتصر على الصلاة؛ إذ عرفوا قيمته بعدما فقدوه، وتذكروا أنهم كالبنيان المرصوص يشد بعضهم بعضًا، فإن اختل هذا البنيان وكبرت الفجوة بين لبناته تصدَّع وصار آيلًا للسقوط في أي لحظة..

 

إذًا فكورونا لم تكن محنة كليًّا، بل كانت في بعض الأوقات منحًا، استخلصنا منها العبر، ونعمل على تحقيق أكبر قدر من الفوائد، وتذكير الناس بها وتوجيههم إلى أفضلها.

_________________________________________________
الكاتب: الزهرة هراوة