الغفلة... عندما تصيب الدعاة!!

منذ 2021-11-03

الغفلة داءٌ يصيب القلب فيصرفه عن مهمَّته الأُولى، ويبدأ هذا الداء يسيرًا؛ بحيث لا يَنتبه له المصاب به، وقد لا يدري أنه مصاب بهذا المرض.

الغفلة داءٌ يصيب القلب فيصرفه عن مهمَّته الأُولى، ويبدأ هذا الداء يسيرًا؛ بحيث لا يَنتبه له المصاب به، وقد لا يدري أنه مصاب بهذا المرض.

والغفلة هي عبارة عن: فقد الشعور بما حقُّه أن يُشعر به[1]، أو هي: ألا يخطر ذلك الشيء ببالك[2].

وبمثل ما يُصَاب بها فردٌ يُصَاب بها مجتمع وجماعة؛ بل أمَّة بأكملها، وهل أُمَّتنا اليوم إلا في حالة فَقْدِ شعور عمَّا يجب عليها أن تشعر به نحو دينها، وعدم اهتمام بما يجب عليها أن تهتمَّ به؟.

والغافل هو الشخص الذي يملك مقوِّمات اليقظة لكنَّه يفضل الغفلة، ويتلذَّذ بالنوم، والعيش في الظُّلمة رغم وجود النور[3].

فكلُّ صاحب مهمة حينما يفقد شعوره نحوها فإنه في غفلة، ومن ذلك الدعاة فمهمَّتهم الأولى هي الدعوة إلى الله، وهي شغلهم الشاغل، وقضيتهم الرئيسة، ولا يعني ألا يهتمُّوا بشؤونهم الخاصَّة، لكن المقصود أن مهمَّتهم الأولى التي ارتضَوا بها وانتمَوا إليها هي الدعوة إلى الله، فإذا ما انشغلوا عنها بغيرها أو نزلت عن مرتبتها في اهتماماتهم، فقد أُصِيبوا بغفلة نحوها وإن لم يشعروا.

 

فالداعية الذي بدأتِ اهتماماتُه بالتجارة والاستثمار مثلًا تتقدَّم على اهتماماته الدعوية، فقد أُصِيب بداء الغفلة وإن كان لا يزال يُعطي مِن وقته للدعوة، وكذلك المشغول بوضعٍ خاصٍّ؛ كبناء بيت، أو زواج، أو الحصول على شهادة، وأعطاها أعلى جهوده وأخَّر حصَّة الدعوة مِن جهده، فقد أُصِيب ولو بنسبة يَسيرة مِن هذا الداء الخبيث، داء الغفلة؛ لأنه لو بقي همُّه الأوَّل الدعوة فإن باقي الأمور تَسِير بسلامة ويُمكن تحصيلُها أو الاستفادة مِن العمل فيها وتوجيهها لصالح العمل للدعوة.

 

مظاهر غفلة الدعاة:
الدعاة أطبَّاء المجتمعات في هذا الداء، فكيف بهم وقد أصيبوا به؟! نسأل الله السلامة والعافية!
وإذا كان واجب الدعاة وموقعهم هو الشعور بحال الأمَّة والتفكير في إصلاح الناس وهدايتهم إلى الخير، والقيام بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر - فإن الانشغال عن ذلك أو ضعف الإحساس بذلك يُعَدُّ غفلةً منهم، وعلى مَن أصيب به البحث عن علاج، ومعرفة ما إذا كان الداء موجودًا أوْ لا، في شخص أو جماعة.

نذكر بعض المظاهر التي تدلُّ عليه، ومن ذلك:
1- تغير الهمِّ الرئيس:
ليصح الوصف وتتحقق الصفة؛ فإن همَّ الدعاة الأوَّل هو دعوة الناس إلى الخير، وكلٌّ بحسبه - الداعية والمدعوُّ - فلا غرابة أن يهتمَّ عامَّة الناس بحياتهم، وأن يكون همُّهم الأول هو معيشتهم، بل هذا هو عينُ العقل كما يُقَال، والصواب إذا لم يتعارض مع واجباتهم الدينية، ولكن الدعاة وقد اختاروا الدعوة إلى الله طريقًا ووظيفة - فإنه لا يُقْبَل منهم مثلُ هذا بل يُعَدُّ منهم تقصيرًا في مهمتهم الرئيسة ووظيفتهم الأصلية.

عندما يُصبح شُغل الداعية الشاغل وقضيته التي يتحرَّك لأجلها، ويقوم ويقعد ويناقش ويسافر ويعود - هي قضية أخرى غير الدعوة - كتجارة، أو بناء، أو نحوها - فإنه يُعدُّ غافلًا عن الدعوة وإن أعطاها بعد ذلك مِن وقته، لكنه لم يُعْطِها على أنها قضيته الأولى، وبمثل هذه الحالة تُصَاب الدعوة بما تُصَاب به مِن نتائج بسبب غفلة الدعاة.

2- ضعف الشعور بأهمية الوقت:
أهمية الوقت لا تَخفى على عموم المثقَّفين، فكيف بالداعية وهو يعرف أن وقته أصلًا محاسَبٌ عليه؛ ((وعن عمره: فيمَ أفناه؟))، وكم هو رائعٌ أن تجد الداعية إلى الله لا تمرُّ عليه لحظةٌ إلا وهو يستغلُّها أتمَّ استغلالٍ في سبيل دعوته! لكن عندما يَضعف شعوره نحو الوقت تتقطَّع ألمًا وأنت تراه يَقضي الساعاتِ الطوالَ في جلسات عادية، أو قُلْ: غير مهمة، أو يُتابع مواضيع وقضايا لا تستحقُّ وقتَ أمثاله، والبعض تراه وقد أصيب بالغفلة يتفنَّن في إظهار الانشغال وهو في حقيقته قد ضعُف لديه الشعور بأهمية الوقت، فلا يبالي في أي عمل أهلكه، وتَغِيب من فكره قضية ترتيب الأولويات في برامجه ويوميَّاته، فقد يَقضي الوقت بما لا فائدة منه، أو على الأقل بما هناك أولى منه وأهمُّ، لكن ضعْف الشعور جرَّه لمثل هذا، ومما يتفنَّن به البعض أنه يُعطي مبرِّرات يُلبسها لباسًا شرعيًّا لإهماله لوقت الأمة؛ فمثلًا يتعلَّل - وبقوة - بحقِّ الأسرة، وحاجتهم لجزء مِن وقته، ولا خلاف في ذلك لكنَّه يُصبح عند البعض برنامجًا يوميًّا وبشكل غير تربوي، وهو يحقِّق ذاته أكثر مِن أنه يُعطي أسرته هذا الجزء الثمين مِن وقته.

3- ضعف الاهتمام بالآخرين:
مِن أبرز صفات الداعية وأهمِّ سجاياه: أنَّه قريب ممَّن حوله يتلمَّس أحوالهم ويَطَّلع على همومهم ومهمَّاتهم، فيُسدِّد ويَنصح، ويُؤيد ويُشجع ويدعم، وهكذا، فإذا بدأ وضع الانكفاء على الذات وقلة السؤال، فهذا دليلٌ على الغفلة مِن الداعية عمَّن حوله، فالغفلة فَقْدُ الشعور بمَن حقُّه أن تشعر به، فصورتها هنا واضحة.

4- العيش في الزمن الحاضر فقط:
الداعية يَعيش يومه، ويبني لغده، ويستشرف مستقبله بما يقدِّمه من أملٍ مشرق لِمَن حوله، فإذا بدأ يقدِّم روتينًا يوميًّا ويُصبح كالآلة، ويَدور بنفس العملية دون وضْع لَبِنَات المستقبل وبذور الغد، ويُصبح همُّه أن ينتهي يومُه ليتخلَّص مِن رقم في عمره، بغضِّ النظر عن تحقيقه لأهداف دعوته وتقدُّمه فيها؛ يعني ذلك: أنه بدأ يَسْبَح في بحر الغفلة إن لم يتدارك نفسه أو يدركْه مَن معه، فلا غرابة أن يَغرق فيه، وقد يَموت إنْ لم يجد مَن يُنقذه مِن الغرق.

5- برود الإحساس نحو الأحداث مِن حوله:
الداعية المتيقِّظ يعيش الحدث بكلِّ أحاسيسه، وخاصَّة الحدث الكبير الذي يؤثِّر في المجتمع مِن حوله، سواءً الحدثُ الدولي والمحلي، ويمتاز الداعية صاحب المنهج السليم أن الأحداث لا تَجْرفه أو تَقُوده، لكنه يَتفاعل معها منطلقًا من أصوله ومبادئه، متأمِّلًا في مواقع الفُرَص فيها لِعَرْض دعوته، ومتحرِّزًا من أماكن الخطر؛ حفاظًا على دعوته، فالأحداث فيها فُرَص ومخاطر تحتاج إلى يَقَظَة، وعندما يمرُّ الحدث بالداعية مرورًا عابرًا وإن ذكره مِن ضمْن خطبة أو محاضرة، ربما استجابة لِسُوق العرْض والطلَب الجماهيري، إلا أن الحقيقة أن التفاعل الداخلي بارد، فهذا مؤشِّر خطير ينبئ عن الإصابة بداء الغفلة.

6- كثرة الاعتذارات عن القيام بأعمال دعوية:
مِن حق الشخص - وإن كان داعية - أن يعتذر عمَّا لا يستطيع القيامَ به، فإنَّ اعتذاره أنفعُ للعمل مِن أن يقوم به على ضعف، وخاصَّة أنَّ هناك غيره يمكن أن يقدِّم أفضل منه، لكن المصيبة أن تصبح الاعتذارات منهجًا وديدنًا، وفي كل مهمة حتى ما يعلم أنه يُجيدها، وخاصَّة عندما يُعلم مِن حاله أن اعتذاراته بمبرِّرات واهية، وإنْ أصرَّ عليها أو على منطقيَّتها فليُبحث عن حقيقتها؛ فإنه يُخشى أن وراءها داء الغفلة ولم يتَّضح له بعد.

أسباب حصول الغفلة عند الدعاة:
1- الانفراد والانعزال - الفردية -:
(الروح الفردية) سلاحٌ ذو حدَّين، لكن مهما يكن الأمر فإن الغالب أن سلبياتها تغلب على سلبيات الروح الاجتماعية عند الداعية، وقد تكون الفردية مناسبةً لأفراد يَمتازون بعلوِّ الهمَّة، وقد أخذوا قسطًا وافرًا مِن التربية، وعندهم رصيدٌ مِن التجارب، غير أنهم - وهم مَن هُم - لا غِنى لهم عن أن يكون لهم على الدرب رُفْقَةٌ، وفي الطريقة صحبة، لكن قد يُعتذر لهم بما قدَّمنا مِن مواصفات إنْ هم أصرُّوا على الفردية، لكنَّ غيرهم - وهم كثير - لا يصحُّ لهم أن يَضعوا أنفسَهم موضعَ هؤلاء، فالحاجة إلى مَن يكون عونًا وسندًا وناصحًا، وأيضًا محفِّزًا على الاستمرار والنشاط - لا تتوقَّف في أيِّ مرحلة؛ فعندما يتعرَّض الفرد لمرحلة يَنعزل فيها عن مُحيطه ورفقته، فإنه - وإن بدأ قويًّا وصلبًا - يُتوقَّع منه أن يَصل إلى مرحلة تؤدِّي به إلى الغفلة، بل في غالب الظن أنه سيصل إليها، فقط تتأخَّر الإصابة بسبب قوة المناعة المكتسبة والتي تختلف مِن شخص لآخر.

2- ضعف التربية:
يَحصل في ظرفٍ ما نوعُ استعجالٍ في تأهيل وتربية الداعية؛ فيبرز للناس قبل تمام النضج، بل ربما قبل بدوِّ النضج، فيرى في الطريق عقباتٍ لم يكُن يَتوقَّعها، ولم تكُن في حسبانه فقد يَصمُد عند بعضها، لكن هناك نوعٌ مِن العقبات لا يَتجاوزها إلَّا مَن أخذ جرعة كافية مِن تربية معينة، فعندما يَضعف عن مقاومتها يَستسلم لها، أو بالأصحِّ تَهجم عليه فيقع في الغفلة مباشرة.

3- حب الدنيا:
مِن أخطر ما يَختفي في صدور الناس: نواياهم غيرُ السليمة، فقد تراه تَظن منه الإخلاصَ لكن صدره يمتلئ رياءً ولا يشعُر به مِن الخلْق أحد.

يمتلئ قلبُ البعض حبًّا للدنيا؛ لكن إمَّا أنه يقاومه أو أنَّه يؤخِّر صُدُورَه عن صدره ويتحيَّن الفرصة المناسبة لإبرازه، فأوَّل ما يظن أنه وجدها أعلن، غير أنه قبل أن يَصِل إليها تجده قد مرَّ بمرحلةٍ وقد تطول من الغفلة عن مهمته.

4- البيئة:
قد تكون بيئةً خاصَّة أو عامَّة؛ فقد تكون عامَّة كالمجتمع المُحيط، أو تكون خاصَّة كالأسرة مثلًا، فيوجد فيها عوامل وظروف تسبِّب الغفلة، مِن أهمِّها - وخاصَّة ما يتعلَّق بالداعية - أن تكون بيئةً فقيرة ثقافيًّا، أو بيئةَ تَرَف، أو بيئةَ مشاكل وحروب، أو بيئةَ فساد أخلاقي أو إداري أو اجتماعي، فهذه وأمثالها تَشغل الداعية عن مهمَّته، وخاصَّة إذا لم يجد مَن يَمدُّه بوقودٍ تربوي، ويُجدِّد نشاطه ودمه الدعوي مِن خارج البيئة، فلا يَشعر إلا وقد قُيِّد بما فيها مِن سلاسل وأغلال.

5- ضعف العِلم الشرعي:
العِلم الشرعي يُعتبر بالنسبة للداعية هو الزاد الذي يُمْكن أن يَفتح الآفاق، وَيَمُدَّ الجُسور، ويُوسِّع الأمل، ويقوِّي اليقين، وخاصة إذا كان عِلمًا حيًّا في حياة صاحبه، وليس مجرَّد تخزين معلومات ونسخ أقوال، فهذا يُعتبر مصدرَ قوَّة لصاحبة ويقظة، فعندما يكون ضعيفًا أو قريبًا مِن العدم، فإن الغفلة ستجد طريقًا بسهولة إلى قلب الداعية وحياته.

ومما يمكن أن يكون أسبابًا لحصول الغفلة: المثاليةُ وعدمُ الواقعية في التعامل مع المجتمع المحيط، والاستعجال في حصول النتائج، والتأثُّر بالطرح المُضَادِّ، وغياب التوازن في الحياة، وضعف التجربة وقلة الخبرة في العمل الدعوي مع تولِّيه عملًا أكبر مِن مستواه العلمي والعملي.

أمَّا نتائج الغفلة وثمارها السيئة على الداعية والدعوة، فقاسية، وإن اختلفتْ مِن شخص إلى آخر، أو مِن جماعة لأخرى؛ بل مِن بلد لغيره، غير أن الذي يَجمعها أنها تعوق العملَ الدعويَّ، وتؤخِّر النصر، وتوسِّع الفجوة بين الدعوة والمجتمع.

ومِن أخطر تلْكُم النتائج على مستوى شخص الداعية: اليأس - ولو بعد حين - والتنازُل تِلْوَ التنازُل عن الثوابت والمبادئ، وطبعًا بالتدريج، وقبلها يبدأ الفتور، والاهتمام الزائد بالذات (حالة الأنا).


وأمَّا أثرها على الدعوة؛ فهي لا شكَّ أشدُّ وطئًا وأقسى ألمًا؛ لأنها تمسُّ الدعوة كدعوة وليس شخص الداعية، ومنها زرعُ اليأس في قلوب المدعوِّين مِن إمكانية الوصول إلى الهدف المنشود، وتتغيَّر في أذهانهم الصورة الرائعة عن الدعوة إلى صورة مشوَّهة، وأنه لا فرق بين الدعاة وغيرهم، وإعطاء الجمهور الجرأة ولو بصورة غير مباشرة على التهكُّم على الدعوة والدعاة مِن جهة، وعلى المعاصي والمخالفات مِن جهة أخرى، كما أنها تُعطي الفرصة لكلِّ حاقد على الدعاة أو الدعوة بأن يَملأ فمَه نقدًا وتهكُّمًا، مستدلًّا بحال بعض مَن أُصِيب بالغفلة وتغيَّرت حاله مِن الدعاة - نسأل الله العافية.

وأما علاج هذا الداء فبعلاج أسبابه المذكورة آنفًا، إلى جانب التركيز والعناية بأعمال القلوب؛ مِن إخلاص ومراقبة لله، والتأكيد على الثبات، والتذكير بخطرِ وضررِ الانحرافِ عن الجادَّة، وأهمُّ الوسائل العملية للعلاج: التعاهُدُ بالنُّصح والتوجيه وتكثيف اللِّقاءات، والجلسات التربوية الإيمانية، والحرص على استمرار التواصُل بين الداعية وإخوانه أو مؤسَّسته أو جماعته، وأن يُعطى هذا الأمرُ أهميةً بالغة، خاصَّة أننا في زمن سريع الأحداث والتغيُّرات، فلا يُسمح بتأخُّر التواصُل أو تأجيلِه مهما كان المُبَرِّر.

اللهُ وليُّنا، نسأله أن يُثَبِّتَنَا على طاعته، وأن يُكْرمنا بمرافقة نبيِّه، وأن يُلحقنا بالصالحين مِن عباده.

 


[1] المناوي: "التوقيف على مهمات التعاريف": صـ 540، نقلًا عن "موسوعة نظرة النعيم".

[2] الجرجاني: "التعريفات": صـ162.

[3] خليل صقر: "صناعة المستقبل": صـ 36.

______________________________________________
الكاتب: نبيل بن عبدالمجيد النشمي