الأخوة الإيمانية

منذ 2021-11-11

عندما وطِئَتْ أقدامُ محمد - عليه الصلاة والسلام - أرض طيبة الطاهرة، عني عناية خاصةً بإقامة رابطة الأُخُوة الإيمانية بين أبناء مجتمعِه الأول، فكانتْ على رأس سُلم أَوْلَويَّاته - عليه الصلاة والسلام.

عباد الله:
لقد امْتَنَّ ربُّكم عليكم بنعمتَيْن عظمتين، هما: نعمة التأليف بين قلوبكم، ونعمة إنقاذكم بهذا الدين من النار، وقرن - سبحانه - هاتين النِّعمتين بنعمةٍ ثالثةٍ عظيمة، لا تقلّ عن سابقتها، ألا وهي: جَعَلَنا إخوانًا مُتحابِّين؛ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ}[1]، {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ}[2].

 

أيها المسلمون:
لقد أرْشد المصطفى - صلى الله عليه وسلم - أمَّته إلى أهمية التآخِي بينهم؛ فقال - عليه الصلاة والسلام -: «كونوا عباد الله إخوانًا»، ولَم يكتفِ - عليه الصلاة والسلام - بالدعوة إلى الأُخُوَّة، بل امْتَثَلَهَا في حياته، ويكفي في بيان ذلك ما كان بينه - صلى الله عليه وسلم - وبين صاحبه أبي بكر - رضي الله عنه - مِن موَدَّة وتآخٍ، صوَّرَها - عليه الصلاة والسلام - بقوله: «لو كنتُ متَّخذًا خليلاً غير ربي، لاتَّخَذتُ أبا بكر خليلاً، ولكن أُخُوة الإسلام ومودته»، وفي رواية: «ولكن أُخوة الإسلام أفضل».

 

عباد الله:
عندما وطِئَتْ أقدامُ محمد - عليه الصلاة والسلام - أرض طيبة الطاهرة، عني عناية خاصةً بإقامة رابطة الأُخُوة الإيمانية بين أبناء مجتمعِه الأول، فكانتْ على رأس سُلم أَوْلَويَّاته - عليه الصلاة والسلام.

 

أخرج الشيخان عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: قدم علينا عبدالرحمن بن عوف المدينة، فآخَى النبي - صلى الله عليه وسلم - بينه وبين سعد بن الربيع، وكان سعد كثير المال، فقال سعد: قد علمت الأنصار أنِّي من أكثرها مالاً، سأقسم مالي بيني وبينك شطرَيْن، ولي امرأتان - وكان ذلك قبل فرض الحجاب - فانظر أعجبهما إليك، فأُطَلِّقها حتى إذا حلَّت تزوجْتَها، فقال: عبدالرحمن بن عوف: بارك الله لك في أهلك، دلوني على السُّوق، ثم أصبح عبدالرحمن بعد ذلك من أكثر الصحابة - رضي الله عنهم - مالاً.

 

عباد الله:
الأُخُوَّة قوام الحياة، بل هي ماء العيش؛ كما قال سفيان - رحمه الله -: لا بد مِن أخ تبثُّه شكواك، ويُعينك على بلْواك، ومن وَجَد له أخًا تَهْواه نفسُه، وتعجبه فعالُه، ويرضى الله عن خصاله، فلْيَتَمَسَّكْ به؛ فإنَّ أعجز الناس من فرَّط في طلَب الإخوان الأوفياء، وأعجز منه مَن ضيَّع من ظفر به منهم، ويقول عمر - رضي الله عنه -: لقاء الإخوان جلاء الأحزان.

وَمَا    المَرْءُ    إِلاَّ    بِإِخْوَانِهِ        كَمَا يُقْبَضُ الكَفُّ  بِالمِعْصَــمِ
وَلاَ خَيْرَ فِي الكَفِّ مَقْطُوعَةً        وَلاَ خَيْرَ فِي السَّاعِدِ الأَجْذَمِ

أيها المسلمون: 

إن ثمرة الأُخُوَّة لا تقتصر على الدنيا فقط، بل يَمْتَدُّ أثَرُها ونَفْعها إلى الدار الآخرة، وهي الدار التي أحْوج ما يكون فيها المرءُ إلى إخوانه وإحسانهم، وهل هناك أعز وأغلى من أخٍ لك لَم تلدْهُ أمك يكون سببًا في الشفاعة لك، وإنقاذك من النار؟!

 

قال بعضُ السلَف: استكثروا من الإخوان؛ فإنَّ لكل مؤمن شفاعة يوم القيامة، وشاهد ذلك ما جاء في الصحيحَيْن: «فيشفع النبيون والملائكة والمؤمنون».

 

عباد الله:

إن الأُخُوَّة والأُلْفة بين المؤمنين لتبقى معهم في دنياهم، وفي برزخهم أيضًا، كما جاء في الأثر: ((إن أرواح المؤمنين تَتَزَاوَر في البرزخ))، وأما إذا أنْعَمَ الله على الأَخَوَيْن بدخول الجنة، فأُخُوَّتُهم هناك تَخْتلف عن أُخُوَّة الدنيا، فهي أُخُوَّة صافية خالصةٌ، جاءتْ بعد نزع الأحقاد والضغائن التي بقيتْ من آثار الدنيا؛ {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ}[3].

 

عباد الله:

إنَّ الأُخُوَّة في الله لا تُؤتي أكلها وتجني ثمرتها ما لَم تكنْ في الله ولله، فهي قرينةُ الإيمان لا تَنْفَكُّ عنه؛ ولذا جَمَع الله بينهما في قوله - سبحانه -: {إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ}[4].

 

يقول العلامة ابن سعدي - رحمه الله -: هذا عقدٌ عقَدَهُ الله بين المؤمنين: أنه إذا وُجِدَ مِن أي شخص كان - في مشرق الأرض ومغربها - الإيمانُ بالله وملائكته وكُتُبه ورسله واليوم الآخر، فإنه أخٌ للمؤمنين، أُخُوةٌ توجِبُ أن يحبَّ له المؤمنون ما يُحِبُّونه لأنفسهم، ويكرهون له ما يكرهون لأنفسهم. اهـ - رحمه الله.

 

أيها المسلمون: 
إنَّ من الأمثلة التي تُصَوِّر أصالة الأُخُوة وارتباطها بالدين والإيمان: موقفَ مصعب بن عمير - رضي الله عنه - مع أخيه أبا عزيز، الذي قدم مع معسكر المشركين يوم بدر، فتحرَّكَت في نفس مصعب - رضي الله عنه - أواصرُ الأُخُوَّة الإسلامية، حينما تعارضَتْ مع أُخُوَّة النسَب، يقول أبو عزيز: مرَّ بي أخي مصعب بن عمير، ورجل من الأنصار يأسرني، فقال مصعب لأخيه في الإسلام من الأنصار: شدَّ يديك به، فإن أمه ذات متاع؛ لعلها تفديه منك، فقال له أُخُوه في النسب أبو عزيز: يا أخي، أهذه وصاتك بي؟! فقال مصعب - رضي الله عنه -: إنه أخي دونك.

كَمْ مِنْ أَخٍ لَكَ لَمْ يَلِدْهُ أَبُوكَ        وَأَخٌ أَبُوهُ  أَبُوكَ  قَدْ  يَجْفُوكَ


إنَّ العلاقة بين الحبِّ والتآخي علاقةٌ وثيقة لحمتها العقيدة، فكلُّ مَن عقد الله بينك وبينه عقدَ الأُخُوة يستَحِقُّ منك مبادلته بلَوَازِم الحبِّ في الله، وكل مَن يعاملك بالمحبة الإيمانية، يستوجب عليك حقوق الأُخُوة الإسلاميَّة، وإن الميزان الضابط لمفهوم الأُخُوة، والذي لا يتمُّ الإيمان إلا به، ما بَيَّنَه - صلى الله عليه وسلم - بقوله: «والذي نفسي بيده، لا يؤمن عبدٌ حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسِه من الخير».

 

ويُعَلِّق الكرماني - رحمه الله - على الحديث بقوله: ومن الإيمان أيضًا أن يبغضَ لأخيه ما يبغض لنفسه من الشرِّ، ولَمْ يذكره؛ لأن حبَّ الشيء مستلزم لبُغْض نَقِيضه، فتَرَك التنصيص عليه اكتفاء. اهـ.

 

عباد الله: 
لقد حثَّ المصطفى - صلى الله عليه وسلم - الأخ إذا أحبَّ أخاه، أنْ يُعْلِمَهُ بتلك المكانة والمنْزلة؛ قال - عليه الصلاة والسلام -: «إذا أحبَّ أحدُكم صاحبَه، فلْيأته في منْزله، فليُخبره أنه يُحبه لله»، وفي رواية: «فإنَّه أبقى في الأُلْفة، وأثبت في الموَدَّة».

 

أيها المسلمون: 
إنَّ مِمَّا يُعبر عن صدْق الأُخُوَّة وحقيقة الأُلْفة: ما يُقَدِّمه الأخُ لأخيه من دعوات صالحة؛ حيث لا يسمعه ولا يراه، وحيث لا شُبهة للرِّياء أو المداهَنة؛ يقول - صلى الله عليه وسلم -: «دعوة المرء المسلم لأخيه بظَهْر الغيب مُستَجابة، عند رأسه ملك موكَّل، كلَّما دعا لأخيه بخَيْر، قال الملَك الموكَّل به: آمين، ولك بِمِثْل»؛ (رواه مسلم).

 

يقول النووي - رحمه الله -: وكان بعضُ السلَف إذا أراد أن يدعوَ لنفسه، يدعو لأخيه المسلم بتلك الدعوة؛ لأنَّها تُستَجاب، ويحصل له مثلها.

 

عبد الله:
اعلم أنَّ وثاق الأُخُوَّة لا يستمر إلا بالْتِمَاس الأعذار، وإقالة العثرات، والتغاضِي عنِ الزَّلاَّت؛ قال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: "لا تظن بكلمةٍ خرَجتْ من أخيك المؤمن شرًّا، وأنت تجد لها في الخَيْر مَحْملاً"، ولقد دخل على الشافعي - رحمه الله - أحدُ إخوانه يَعُوده، فقال له: قوَّى الله ضعفك، فقال له الشافعي: لو قوَّى الله ضعفي لقَتَلَنِي، فقال الزائر: والله ما أردتُ إلا الخير، فقال الإمام: أعلم أنك لو سبَبْتني ما أردتَ إلا الخير، وقال بعضُ السلَف: ليكنْ حظ أخيك المؤمن منك ثلاث: إن لَم تنفعه فلا تضرّه، وإن لَم تفرحه فلا تغمَّه، وإن لَم تمدحه فلا تذمه.

إِذَا مَا المَرْءُ  أَخْطَأَهُ  ثَلاَثٌ        فَبِعْهُ وَلَوْ  بِكَفٍّ  مِنْ  رَمَـــادِ
سَلامَةُ صَدْرِهِ وَالصِّدْقُ مِنْهُ        وَكِتْمَانُ السَّرَائِرِ فِي الفُؤَادِ

عباد الله:

صلوا على الرَّحْمة المهداة.

 

ــــــــــــــــــــــ

[1] [آل عمران: 102].

[2] [آل عمران: 103].

[3] [الحجر: 47].

[4] [الحجرات:10].

_____________________________________________________
الكاتب: الشيخ أحمد الفقيهي