من كتاب العزلة للحافظ أبي سليمان حمد بن محمد الخطابي البستي -1
قال أبو الدرداء رضي الله عنه: نعم صومعة الرجل بيته, يكف سمعه, وبصره, ودينه, وعرضه.
بسم الله الرحمن الرحيم
من كتاب العزلة للحافظ أبي سليمان حمد بن محمد الخطابي البستي
الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين, نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.....أما بعد: فالأصل أن المسلم يخالط الناس ولا يعتزلهم, والعزلة تكون عند الحاجة والضرورة, قال سماحة الشيخ ابن باز رحمه الله: " الخلطة أفضل للمسلم إذا اقتضت المصلحة ذلك, أما العزلة فعند الحاجة والضرورة, وإلا الذي يخالط الناس ويأمرهم وينهاهم فهو خير له."
وعليه فيحتاج المسلم للقراءة في هذا الموضوع ليكون على بينة من أمره, والإمام الخطابي رحمه الله له كتاب: " العزلة ", ذكر بعض الأمور المتعلقة بالعزلة والخلطة, وقد يسر الله الكريم فاخترت بعضاً مما ذكره في كتابه أسأل الله أن ينفع بذلك الجميع
الأخذ بحظ من العزلة:
قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: خذوا بحظكم من العزلة.
المقصود بالعزلة:
نريد بالعزلة ترك فضول الصحبة, ونبذ الزيادة منها, وحط العلاوة التي لا حاجة إليك بها, فإن من جرى في صحبة الناس والاستكثار من معرفتهم على ما يدعو إليه شغف النفوس, وإلف العادات وترك الاقتصاد فيها والاقتصار على الذي تدعوه الحاجة إليه. كان جديراً ألا يحمد غبه, وأن تستوخم عاقبته, وكان سبيله في ذلك سبيل من يتناول الطعام في غير أوان جوعه, ويأخذ منه فوق قدر حاجته, فإن ذلك لا يلبث أن يقع في أمراض مدنفة, وأسقام متلفة, وليس من علم كمن جهل, ولا من جرب وامتحن كمن ماد وخاطر.
ولينظر المرء لدينه ويحسن الارتياد لنفسه نسأل الله السلامة من شر هذا الزمان وأهله
العزلة عند الفتن:
العزلة عند الفتنة سنة الأنبياء, وعصمة الأولياء, وسيرة الحكماء والأولياء, فلا أعلم لمن عابها عذراً, لا سيما في هذا الزمان القليل خيره, البكيء دره, وبالله نستعيذ من شره وريبه.
حفظ الجوارح والعزلة:
قال أبو الدرداء رضي الله عنه: نعم صومعة الرجل بيته, يكف سمعه, وبصره, ودينه, وعرضه.
عزلة الأبدان:
وأما عزلة الأبدان ومفارقة الجماعة التي هي العوام, فإن من حكمها أن تكون تابعة للحاجة وجارية مع المصلحة, وذلك أن عظم الفائدة في اجتماع الناس في المدن وتجاورهم في الأمصار, إنما هو أن يتضافروا فيتعاونوا على المصالح ويتآزروا فيها, إذ كانت مصالحهم لا تكمل إلا به, ومعايشهم لا تزكو إلا به. فعلى الإنسان أن يتأمل حال نفسه فينظر في أية طبقة يقع منهم, وفي أية جنبة ينحاز من جملتهم ؟ فإن كانت أحواله تقتضيه المقام بين ظهراني العامة لما يلزمه من إصلاح المهنة التي لا غنية له عنها, ولا يجد بداً من الاستعانة بهم فيها, ولا وجه لمفارقتهم في الدار, ومباعدتهم في السكن والجوار, فإنه إذا فعل ذلك تضرر بوحدته, وأضر بمن وراءه من أهله وأسرته.
وإن كانت نفسه مستقلة, وحاله في ذاته متماسكة, فالاختيار له هذا الزمان اعتزال الناس, ومفارقة عوامهم, فإن السلامة في مجانبتهم, والراحة في التباعد عنهم.
ولسنا نريد رحمك الله بهذه العزلة التي نختارها مفارقة الناس في الجماعات والجمعات, وترك حقوقهم في العبادات, وإفشاء السلام, ورد التحيات, وما جرى مجراها من وظائف الحقوق الواجبة لهم وصنائع السنن والعادات المستحسنة فيما بينهم.
ترك الناس:
قال الفصيل بن عياض رحمه الله: كفى بالله محباً, وبالقرآن مؤنساً, وبالموت واعظاً, اتخذ الله صاحبا, وذر الناس جانباً. وقال أبو الربيع: قلت لداود الطائي: أوصني. قال: صم عن الدنيا, واجعل فطرك الآخرة, وفرّ من الناس فرارك من الأسد.
** قال وهيب بن الورد: بلغنا أن الحكمة عشرة أجزاء: تسعة منها في الصمت, والعاشرة في عزلة الناس.
مناقب العزلة وفوائدها
** قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: في العزلة راحة من خليط السوء.
قال إسماعيل بن محمد: سمعت ابن إبراهيم يقول: " لو لم يكن في العزلة أكثر من أنك لا تجد أعواناً على الغيبة لكفى.
صدق أبو محمد رحمه الله, فإنه ما من أحد جالس الناس في الزمان وعاشرهم إلا قلت سلامته من الغيبة.
** في العزلة السلامة من المأثم في المنكر يراه الإنسان فلا يغيره, والأمان من غوائل أهله ومن عاديتهم إذا غيره, فقد أبى أكثر هذا الزمان قبول النصائح, ونصبوا العداوة لمن دعاهم إلى هدى, أو نهاهم عن ردى. فلو لم يكن في الوحدة والتباعد منهم إلا السلامة من إثم المداهنة وخطر المكافحة لكان في ذلك الربح الرابح والغنيمة الباردة.
قال الفضيل بن عياض: من خالط الناس لم يسلم من أحد اثنين, أما أن يخوض معهم إذا خاضوا في الباطل, أو يسكت إن رأى منكراً فيأثم, وقد جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم في الوعيد وسوى في العقوبة بين من أتى المنكر, وبين من رآه فلا يغيره ولا يأباه.
** لو لم يربح الإنسان في العزلة والتخلي عن الناس, وعن مساويهم والانقطاع عن محاورتهم إلا ما يكفاه من فضل مؤنة التحرز منهم, وما يستفيده من الأمان أن يرفعوا عليه قولاً يسمعونه يتكلم به في حال غفلة واسترسال أو يتأولوا عليه كلاماً لا يبلغ عقولهم كنهه فيوجهوه إلى غير جهته وينحلوه غير صفته, لكان فيه كفاية وعصمة واقية.
** لو لم يكن في العزلة إلا السلامة من صحبة العامة, والراحة من تعب مجالستهم, ومصابرة أخلاقهم, وما يستفيده الإنسان بمفارقتهم, ويكفاه من مؤونة تقويمهم, ويأمنه من غوائلهم في صدقهم عن أنفسهم, وامحاض النصيحة لهم, فإن الحق كما قيل مغضبة, وبعض النصح للعداوة مكسبة, لكان في ذلك راحة مريحة, وقد قل من يعرف, وأقل من ينصف.
** من مناقب العزلة: أنها خالعة عنك ربقة ذل الآمال, وقاطعة رق الأطماع, ومعيدة عز اليأس من الناس, فإن من صحبهم وكان فيهم ومعهم, لم يكد يخلو من أن يحدث نفسه بنوع من الطمع فيهم, إما في مال, أو جاه, والطمع فقر حاضر, وذل صاعر.
** ومن مناقب العزلة: السلامة من آفات النظر إلى زينة الدنيا وزهرتها, والاستحسان لما ذمه الله تعالى من زخرفتها, وعابه من زبرج غرورها, وفيها منع النفس من التطلع إليها والاستشراف لها, ومن محاكاة أهلها ومنافستهم عليها, قال الله تعالى: ( ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم زهرة الحياة الدنيا لنفتنهم فيه ) [طه:131] وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( انظروا إلى من هو دونكم, ولا تنظروا إلى من هو فوقكم, فإنه أجدر أن لا تزدروا نعمة عليكم )
قال عون بن عبدالله: كنت أجالس الأغنياء فلا أزال مغموماً, كنت أرى ثوباً أحسن من ثوبي, ودابة أفره من دابتي, فجالست الفقراء فاسترحت.
** قال إسماعيل سمعت ابن إبراهيم يقول: " لو لم يكن في العزلة إلا السلامة من آفة الرياء, والتصنع للناس, وما يدفع إليه الإنسان إذا كان فيهم من استعمال المداهنة معهم وخداع المواربة في رضاهم لكان في ذلك ما يرغب في العزلة ويحرك إليها
فمن أحب السلامة من هذه الخلة فليقل من مخالطة الناس, وليحذر مداخلتهم والتوسط في أمورهم, فإنه إذا مني بذلك وابتلي بشيء منه لم يسلم أن يلقى هذا بوجه وصاحبه بوجه.
لزوم القصد في حالتي العزلة والخلطة:
الإغراق في كل شيء مذموم, وخير الأمور أوسطها, والحسنة بين السيئتين.
عن ابن عائشة قال: ما أمر الله تعالى عباده بأمر إلا وللشيطان فيه نزعتان: فإما إلى غلو, وإما إلى تقصير, فبأيهما ظفر قنع.
والطريقة المثلى في هذا الباب أن لا تمتنع من حق يلزمك للناس وإن لم يطالبوك به, وأن لا تنهمك لهم في باطل لا يجب عليك, وإن دعوك إليه, فإن من اشتغل بما لا يعنيه فاته ما يعنيه, ومن انحل في الباطل جمد عن الحق, فكن مع الناس في الخير, وكن بمعزل عنهم في الشر.
قال أكثم بن صيفي: الانقباض عن الناس مكسبة للعداوة, ومعرفتهم مكسبة لقرين السوء, فكن للناس بين المنقبض والمقارب, فإن خير الأمور أوسطها.
وقال محمد بن الحنفية: ليس بالحكيم من لم يعاشر بالمعروف من لا يجد من معاشرته بداً, حتى يجعل الله له فرجاً, أو قال مخرجاً.
التحذير من قرناء السوء:
** وعظ المخزومي ابنه فقال: إياك وإخوان السوء, فإنهم يخونون من رافقهم, وقربهم أعدى من الجرب, ورفضهم من استكمال الأدب, والمرء يعرف بقرينه.
** الإخوان اثنان, فمحافظ عليك عند البلاء, وصديق لك في الرخاء, فاحفظ صديق البلية, وتجنب صديق العافية, فإنهم أعدى الأعداء.
** مخالطة الأنذال والسفلة تحط الهيبة, وتضع المنزلة, وتكل اللسان, وتزري للإنسان
** عن شريك بن عبدالله كان يقال: لا تسافر مع جبان فإنه يفر من أبيه وأمه, ولا تسافر مع أحمق فإنه يخذلك أحوج ما تكون إليه, ولا تسافر مع فاسق فإنه يبيعك بأكلة وشربه. ** معاشرة الأشرار تورث سوء الظن بالأبرار.
** لا يقول رجل في رجل خيراً لا يعلمه منه إلا أن يوشك أن يقول شراً يعلمه منه.
** لا يصطحب اثنان على غير طاعة الله عز وجل, إلا يوشك أن يفترقا على غير طاعة الله.** من ودك لأمر ولى مع انقضائه.
- التصنيف: