حكم الدعاء في الركوع

منذ 2021-11-21

الركوع محل تعظيم لله تعالى لا محل دعاء، فيقول المصلي ما ورد من الدعاء في بعض أذكار الركوع، ومنه حديث الشيخين عن عائشة رضي الله عنها، أن النبي صلى الله عليه وسلم (كان يقول في ركوعه وسجوده: «سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، اللهم اغفر لي»

في أوساط بعض المسلمين عمومًا، وطلبة العلم خصوصًا، عدمُ مشروعية الدعاء في الركوع، وأن موضع الدعاء المطلق في الصلاة إنما يُشرع في السجود وقبيل السلام. ولكن المسألة -بالنسبة للدعاء في الركوع- فيها خلاف بين العلماء، وسنعرف هذا الخلاف والراجح فيه فيما يأتي:

اختلف العلماء في حكم الدعاء في الركوع إلى ثلاثة أقوال:

القول الأول: كراهية الدعاء في الركوع. وهذا مذهب مالك.

قال في المدونة: "كان مالك يكره الدعاء في الركوع، ولا يرى به بأسًا في السجود"[1].

 

وقال ابن رشد: "وسئل مالك عن الدعاء في الركوع، قال: لا أحب ذلك، قيل: ففي السجود؟ قال: نعم؛ قد دعا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو ساجد"[2].

 

وهناك ما يشبه أن يكون قولًا عند الحنابلة في كراهية الدعاء في الركوع؛ فقد نقل السفاريني الحنبلي عن ابن تيمية قوله: "قد تنازع العلماء في الدعاء في الركوع والسجود؛ فقيل: يكره فيهما؛ كقول أبي حنيفة[3]، ورواية عن الإمام أحمد. وقيل: يكره في الركوع دون السجود؛ كقول مالك"[4].

 

وقال ابن أبي موسى الحنبلي: "... ويعتقد الخضوع لله عز وجل بركوعه وسجوده، ولا يدعو في ركوعه بشيء"[5].

 

وقال ابن رجب الحنبلي: "وروي عن أحمد رواية، أنه قال: لا يعجبني الدعاءُ في الركوع والسجود في الفريضة"[6].

 

حجج القائلين بالكراهة:

احتج من قال بالكراهة بما يأتي:

أولًا:حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ألا وإني نُهيتُ أن أقرأ القرآن راكعًا أو ساجدًا، فأما الركوع فعظِّموا فيه الربَّ عز وجل، وأما السجود فاجتهدوا في الدعاء، فقَمِنٌ أن يستجاب لكم»[7].

 

وجه الدلالة:

قال أبو الوليد الباجي: "فوجه الدليل منه: أنه أمر بتعظيم الله تعالى في الركوع، وهذا يقتضي إفراده لذلك. ووجه ثانٍ وهو: أنه خص كل حالة من الحالتين بنوع من العمل، فالظاهر اختصاصه به، وإلا بطَلتْ فائدة التخصيص، فلا يعدل عن هذا الظاهر إلا بدليل"[8].

 

ثانيًا:أن الداعي في الركوع قد يوافق في دعائه ما في القرآن، فيكون قد خالف ما نهى النبيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ من قراءة القرآن في الركوع[9].

 

ثالثًا:إذا كان من حسن الأدب فيمن كانت له إلى كبير حاجةٌ ألا يبدأ بطلبها حتى يقدِّم الثناء عليه قبل ذلك؛ تعيَّن في حق الله عز وجل ألا يدعوه في السجود حتى يقدم التعظيم له في الركوع[10].

 

رابعًا:أن السنةَ في الركوع التقصيرُ، والدعاءُ يُطوِّله[11].

 

خامسًا:قال ابن بطال: "فجعل في هذا الحديث الركوع لتعظيم الله تعالى، وإن كانت قراءة القرآن أفضلَ من ذكر التعظيم؛ فلذلك ينبغي أن يكون في كل موضع ما جعل فيه، وإن كان غيره أشرف منه. ويؤيد هذا المعنى: ما روى الأعمش عن النخَعي قال: كان يقال: إذا بدأ الرجل بالثناء قبل الدعاء استوجب، وإذا بدأ بالدعاء قبل الثناء كان على الرجاء. وروى ابن عيينة عن منصور بن المعتمر، عن مالك بن الحويرث، قال: (يقول الله: إذا شغل عبدي ثناؤه عليَّ عن مسألتي، أعطيتُه أفضلَ ما أُعطي السائلين)، فلهذه الآثار كره مالك الدعاءَ في الركوع"[12].

 

تنبيه: يرى المالكية القائلون بكراهة الدعاء في الركوع أن النهي عن الدعاء في الركوع ليس للتحريم، بل للكراهة، وبناء على ذلك يرون أن من دعا في ركوعه لم يرتكب محرَّمًا ولا تبطل صلاته.

 

قال زروق المالكي: "النهي عن الدعاء في الركوع نهي كراهة"[13].

 

وقال ابن عبدالبر: "ويكره الدعاء في الركوع كما تكره فيه القراءة، فإن دعا راكعًا فلا حرج، ولو سمى أحدًا يدعو له أو يدعو عليه لم يضره"[14].

 

القول الثاني: جواز الدعاء في الركوع. وهذا قول أكثر العلماء[15].

فقد ورد عن ابن مسعود، وقال به الشافعية واستحبوه، وهو الرواية الأخرى في مذهب أحمد[16]. وهو مذهب البخاري، وتبعه أبو داود، وأبو نعيم الأصبهاني، وقال به بعض المالكية، واختاره ابن تيمية والألباني[17].

 

عن يحيى بن الجزار، أن ابن مسعود، قال في ركوعه: «ربِّ اغفر لي»[18].

 

وقال بافضل الحضرمي: "ويسن الدعاء في الركوع أيضًا، وإنما هو في السجود أفضل وأرجى للقبول"[19].

 

وقال الشربيني: "ويستحب الدعاء في الركوع؛ لأنه صلى الله عليه وسلم (كان يكثر أن يقول في ركوعه وسجوده: سبحانك اللهم ربَّنا وبحمدك، اللهم اغفر لي)"[20].

 

وقد بوَّب البخاري على حديث عائشة الآتي ذكره فقال: (باب الدعاء في الركوع)، قال ابن حجر: "ترجم بعد هذا بأبواب التسبيح والدعاء في السجود، وساق فيه حديث الباب، فقيل: الحكمة في تخصيص الركوع بالدعاء دون التسبيح مع أن الحديث واحد: أنه قصد الإشارة إلى الرد على من كره الدعاء في الركوع كمالك"[21].

 

وكذلك صنع أبو داود، وأبو نعيم الأصبهاني؛ فقد بوَّبا على حديث عائشة ونحوه من الأحاديث بباب: "باب الدعاء في الركوع والسجود"[22].

 

وقال اللخمي من المالكية: "وليس الدعاء في الركوع بممنوع؛ وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في الصحيحين أنه كان يقول في ركوعه وسجوده: «سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا وَبِحَمْدِكَ، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي»، وقالت عائشة رضي الله عنها: يتأول القرآن. يريد: ﴿  {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ}  ﴾ [النصر: 1] السورة، وهذا دعاء في الركوع"[23].

 

وقال زروق: "وأجاز اللخمي الدعاء في الركوع، وعزاه للمازري ولأبي مصعب"[24].

 

وقال خليل بن إسحاق: "والمعروف من المذهب الكراهة، قال المازري: ووقفت لأبي مصعب على جواز الدعاء في الركوع"[25].

 

وقال ابن تيمية: "وثبت عنه الدعاء في الركوع والسجود، سواء كان في النفل، أو في الفرض"[26].

 

وقال أيضًا: "الذكر والدعاء في الركوع والسجود هو المشروع دون القراءة"[27].

 

وقال كذلك: "والدعاء في السجود حسنٌ مأمور به، ويجوز الدعاء في القيام أيضًا، وفي الركوع"[28].

 

وقال ابن القيم: "أما المواضع التي كان يدعو فيها في الصلاة، فسبعة مواطن.... الرابع: في ركوعه كان يقول: (سبحانك اللهم ربَّنا وبحمدك، اللهم اغفر لي)"[29].

 

حجج القائلين بالجواز:

احتج المجوِّزون بحديث عائشة رضي الله عنها، قالت: كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في ركوعه وسجوده: «سبحانك اللهم ربَّنا وبحمدك، اللهم اغفر لي»[30].

 

وفي رواية[31]: (كان يُكثِرُ أن يقولَ في ركوعه وسُجوده...) الحديث. وهذه الرواية تدل على أن ذلك لم يكن مرة أو مرتين، بل كان كثيرًا. قال الفاكهاني: "...قلت: لا نسلِّمُ كونَه ليس بكثير، مع التعبير عنه بـ (كان) التي تدلُّ على المداومة والتكرار، بل قد صرحت عائشة رضي اللَّه عنها بالتكثير بقولها: (كانَ يُكْثِرُ أَنْ يقولَ في ركوعِهِ وسجودِهِ)"[32].

 

قال القاضي عياض في هذا الحديث: "وفيه حجة لمن أجاز الدعاء في الركوع إذ قال فيه: (اللهم اغفر لي)[33].

 

وقال ابن الملقن: "ظاهر اللفظ الثاني يقتضي جواز الدعاء في الركوع"[34].

 

وقال أيضًا: "وقد سلف في الصلاة، في باب" الدعاء في الركوع"، وهو ظاهر في جواز الدعاء فيه، ومالك لا يراه، ولعله لم يبلُغْه الحديثُ"[35].

 

وقال ابن حجر: "وظاهر حديث عائشة أنه كان يقول هذا الذكر كلَّه في الركوع، وكذا في السجود"[36].

 

وقال الطحاوي -بعد أن ذكر حديث عائشة وغيره-: "فذهب قوم إلى هذه الآثارِ إلى أنه لا بأس أن يدعو الرجل في ركوعه وسجوده بما أحب، وليس في ذلك عندهم شيء مؤقت، واحتجوا في ذلك بهذه الآثار..."[37].

 

وقال ابن رجب: "وأما الدعاء في الركوع، فقد دل حديث عائشة الذي خرجه البخاري هاهنا على استحبابه، وعلى ذلك بوب البخاري هاهنا"[38].

 

الجمع بين حديث ابن عباس وحديث عائشة:

ليس بين الحديثين تعارض للمتأمل؛ ولذلك جمع بينهما بعض أهل العلم؛ دفعًا لتوهم التعارض بوجوه:

1- حديث عائشة يدل على الجواز، وحديث ابن عباس يدل على الأولوية بتخصيص الركوع بالتعظيم.

 

2- حديث ابن عباس يدل على تخصيص السجود بكثرة الدعاء، وتخصيص الركوع بكثرة التعظيم.

 

3- في حديث عائشة جواز الدعاء القليل في الركوع مثل ما ذكر فيه، وحديث ابن عباس يدل على أن معظم الذكر المشروع في الركوع هو التعظيم ولا ينافي الدعاء، كما أن الغالب في السجود الدعاء، ولا ينافي التسبيح أيضًا.

 

4- حديث ابن عباس لا مفهوم له، فلا يمتنع الدعاء في الركوع، كما لا يمتنع التعظيم في السجود.

 

5- أن تعظيم الربِّ والثناءَ عليه عند العرب دعاء.

 

6- حديث ابن عباس يدل على أن الدعاء في السجود أحقُّ بالإجابة من الركوع؛ ولهذا قال: «فقَمِنٌ أن يستجاب لكم»، كما قال: «أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد»، فهو أمر بأن يكون الدعاء في السجود.

 

7- حديث ابن عباس يدل بمفهومه على اختصاص الركوع بالتعظيم، والمفهوم إذا عارضه منطوق - كحديث عائشة -؛ لا يُعمل به، كما تقرر في الأصول.

 

قال ابن دقيق العيد عن حديث عائشة: إنه: "يقتضي الدعاء في الركوع وإباحته. ولا يعارضه قوله عليه السلام: «أما الركوع فعظِّموا فيه الرب، وأما السجود فاجتهدوا فيه بالدعاء»؛ فإنه من هذا الحديث الجواز. ومن ذلك الأولوية بتخصيص الركوع بالتعظيم، ويحتمل أن يكون السجود قد أمر فيه بتكثير الدعاء؛ لإشارة قوله: (فاجتهدوا) واحتمالها للكثرة، والذي وقع في الركوع من قوله: (اغفر لي) ليس كثيرًا، فليس فيه معارضة ما أمر به في السجود"[39].

 

وقال ابن بطال: "وقال أهل المقالة الأولى: تعظيم الرب والثناء عليه عند العرب دعاء، قاله ابن شهاب، وهو حجة في اللغة، وقد ثبت في حديث عائشة المذكور في هذا الباب الدعاء في الركوع والسجود، فلا معنى لمخالفة ذلك"[40].

 

وقال ابن تيمية: "فأما قوله صلى الله عليه وسلم: «أما الركوع فعظِّموا فيه الرب، وأما السجود فاجتهدوا في الدعاء؛ فقمن أن يستجاب لكم»، ففيه الأمر في الركوع بالتعظيم، وأمره بالدعاء في السجود بيان منه أن الدعاء في السجود أحقُّ بالإجابة من الركوع؛ ولهذا قال: «فقمن أن يستجاب لكم»، كما قال: «أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد»، فهو أمر بأن يكون الدعاء في السجود"[41].

 

وقال ابن العطار عند حديث عائشة: "وفي لفظه ثانيًا ما يقتضي جواز الدعاء في الركوع، ولا تعارض بين ذلك وبين قوله صلى الله عليه وسلم: «أما الركوعُ فعظِّموا فيه الربَّ، وأما السجودُ فاجتهدوا فيه في الدعاء»؛ فإنه دالٌّ على الأولوية من تعظيم الرب سبحانه وتعالى في الركوع، والأولوية لا تخالف الجواز من الدعاء فيه، كيف ولم ينه عنه فيه، بل فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه، وأمر بالاجتهاد في السجود من الدعاء من غير منع من التسبيح، فيقتضي ذلك جميعُه أن تكون الكثرة للتعظيم في الركوع، لا منع الدعاء، والكثرة للدعاء في السجود لا منع التنزيه، وإن كان السؤال والدعاء يدل على التنزيه والتعظيم"[42].

 

وقال ابن حجر: "وحجة المخالف: الحديث الذي أخرجه مسلم من رواية ابن عباس مرفوعًا وفيه: «فأما الركوع فعظِّموا فيه الرب، وأما السجود فاجتهدوا في الدعاء؛ فقمن أن يستجاب لكم»، لكنه لا مفهوم له، فلا يمتنع الدعاء في الركوع، كما لا يمتنع التعظيم في السجود"[43].

 

وقال الألباني عند حديث عائشة: "وفي الحديث دلالة على جواز الدعاء في الركوع، ولا يعارضه الحديث الآتي: «فأما الركوع فعظموا فيه الرب، وأما السجود فاجتهدوا في الدعاء؛ فَقَمِنٌ أن يستجاب لكم»، فإنه بمفهومه يدل على اختصاص الركوع بالتعظيم، والمفهوم إذا عارضه منطوق - كهذا الحديث - لا يعمل به، كما تقرر في الأصول"[44].

 

وقال الإثيوبي في فوائد حديث عائشة: "(منها): مشروعية الدعاء في الركوع، ونقل عن مالك رحمه الله كراهته، كما تقدم؛ لحديث ابن عباس رضي الله عنهما المتقدم: «فأما الركوع فعظموا فيه الرب»، لكن تقدم أنه لا ينافي جواز الدعاء القليل مثل هذا، وإنما يدل على أن معظم الذكر المشروع فيه هو التعظيم، كما أن الغالب في السجود الدعاءُ، ولا ينافي التسبيح أيضًا"[45].

 

القول الثالث: جواز الدعاء في الركوع بالدعاء الوارد في حديث عائشة فقط.

وممن قال بذلك - فيما أعلم -: ابن باز، فقد قال: "الدعاء في الركوع لا يشرع؛ فهو محل التعظيم، إلا ما ورد به النص: (سبحانك اللهم وبحمدك، اللهم اغفر لي)"[46].

 

وكذلك أفتت اللجنة الدائمة برئاسته بذلك، حيث قالت: "فالركوع محل تعظيم لله تعالى لا محل دعاء، فيقول المصلي ما ورد من الدعاء في بعض أذكار الركوع، ومنه حديث الشيخين عن عائشة رضي الله عنها، أن النبي صلى الله عليه وسلم (كان يقول في ركوعه وسجوده: «سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، اللهم اغفر لي»؛ لأن هذا الذكر زيادة على ذلك التعظيم الذي كان يقوله صلى الله عليه وسلم"[47].

 

الترجيح:

ويبدو لي أن القول الثاني هو الراجح؛ لما ذكر هناك من الأدلة والتعليلات والأجوبة؛ فلذلك يجوز الدعاء في الركوع بما ورد في حديث عائشة وبغيره، لكن الأولى أن يكون الدعاء أكثرَ في السجود، والتعظيمُ أكثر من الدعاء في الركوع. والله أعلم.

 


[1] المدونة (1/ 168).

[2] البيان والتحصيل (18/ 63). وينظر: إكمال المعلم بفوائد مسلم، للقاضي عياض (2/ 396)، والمسالك في شرح موطأ مالك (2/ 360)، وبداية المجتهد ونهاية المقتصد (1/ 137).

[3] قال الحنفية: لا يأتي المصلي في ركوعه وسجوده بغير التسبيح، على المذهب، وما ورد محمول على النفل. ينظر: الفقه الإسلامي وأدلته (2/ 84). وقال الطحطاوي الحنفي: "يمنع القارئ من الدعاء إذا كان في صلاة فرض مطلقًا، أو نفل ولو إمامًا؛ لأن الدعاء في الفرض لم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن الأئمة بعده، فكان بدعة محدثة، وشر الأمور محدثاتها، كما في السراج. وأما في النفل للإمام فلأن فيه تطويلًا على القوم، وقد نهي عنه كما في التبيين. وهذا يقتضي أنه لو أمَّ من يطلب منه ذلك فعله؛ لحديث حذيفة رضي الله تعالى عنه: (صليت خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الليل...) الحديث". حاشية الطحطاوي على مراقي الفلاح شرح نور الإيضاح (ص: 228).

وقال الحنفية كذلك: "تبطل الصلاة بالدعاء بما يشبه كلام الناس؛ وضابطه ألا يكون واردًا في الكتاب الكريم، ولا في السنة، ولا يستحيل طلبه من العباد..." ينظر: الفقه على المذاهب الأربعة (1/ 272).

ويبدو -والله أعلم- أن الحنفية لا يرون الدعاء في الركوع، ويرون الدعاء في السجود مشروطًا بشروط: 1-أن يكون من القرآن أو ما يشبه أدعية القرآن معنى. 2-أن يكون من السنة. 3-أن يكون في النفل للمنفرد، أو للإمام ولكن بإذن المؤتمين. وينظر زيادة على ما سبق: المحيط البرهاني (1/ 385)، درر الحكام شرح غرر الأحكام (1/ 76).

أما عند الزيدية، فقد جاء في مسند زيد بن علي: "وسألت زيد بن علي عليهما السلام عن الدعاء في الصلاة؟ فقال: ادع في التشهد بما أحببت، إذا كان ذلك مما يكون مثله في القرآن". مسند الإمام زيد (1 / 116). وقال العنسي في التاج: "اختلف العلماء من أئمتنا وغيرهم في جواز الدعاء في الصلاة بغير القرآن وعدمه؛ فقال القاسم والشافعي ومالك: إنه يجوز الدعاء في الصلاة بكل ما يجوز الدعاء به خارج الصلاة من أمور الدين والدنيا. وقال أبو حنيفة وأحمد: لا يجوز الدعاء إلا بالأدعية المأثورة الموافقة للقرآن. وقال المؤيد بالله وبعض أصحاب أحمد: يجوز بخير الآخرة فقط. وقال الإمام الهادي: لا يجوز بهما. وهو المقرر للمذهب. وحكى الفقيه يحيى عن المؤيد بالله أنه قال: ولا أعرف أحدًا غير الإمام الهادي منع من الدعاء بخير الآخرة". التاج المُذْهَب لأحكام المَذْهَب (1 / 179).

وقال يحيى بن حمزة: "الفرع الثامن: الدعاء في الصلاة بغير الأدعية المذكورة في القرآن هل يكون مفسدًا للصلاة أم لا؟ فيه مذهبان:

المذهب الأول: أن كل ما كان من الأدعية مخالفًا لأدعية القرآن فهو مفسد للصلاة، وهذا هو رأي الهادي والمؤيد بالله، ومحكي عن أبي حنيفة وأصحابه؛ فإنهم قالوا: كل دعاء في الصلاة مما في القرآن فهو خاص فيها، وما أشبه حديث الناس فإنه يفسدها، فلو قال: اللهم ارزقني جارية محبة أو حرفة طيبة أفسدها. والحجة على هذا: ما روي عن الرسول أنه قال: إن صلاتنا هذه لا يصلح فيها شيء من كلام الناس؛ إنما هي التسبيح والتحميد وقراءة القرآن))، وقول القائل: اللهم ارزقني جارية محبة، ليس مما ذكرناه في شيء. الحجة الثانية: ما روي عن الرسول أنه قال: إن الله يُحدِث من أمره ما يشاء، وإن الله أحدَثَ ألا تكلموا في الصلاة).

المذهب الثاني: جواز ذلك في الصلاة. وهذا هو رأي القاسم والشافعي، وعليه دل كلام الناصر. والحجة على هذا: ما روى أبو هريرة عن الرسول أنه قال: إذا تشهد أحدكم فليستعذ بالله من عذاب النار، ومن عذاب القبر، ومن فتنة المحيا ومن فتنة الممات، ومن فتنة المسيح الدجال)). الحجة الثانية: ما روى فَضالة بن عُبيد أن الرسول رأى رجلًا لا يحمد الله ولا يصلي على الرسول، فقال: عجز هذا، إذا صلى أحدكم فليبدأ بتحميد الله والثناء عليه، ثم ليصلِّ على النبي، ثم ليدعُ بما شاء)). فهذا تقرير المذهبين.

والمختار: جواز الدعاء في الصلاة بأي شيء كان من منافع الدين والدنيا. والحجة: ما ذكرناه؛ ونزيد هاهنا وهو: ما روى أبو هريرة عن الرسول أنه كان لا يقنت إلا إذا دعا لأحد أو دعا عليه، وكان يقول في قنوته: (اللهم نجِّ الوليد بن الوليد، اللهم نج سلمة بن هشام، اللهم نج المستضعفين من المؤمنين، اللهم اشدد وطأتك على من خالف أمرك)). الحجة الثانية: ما روى الحسن بن علي أنه قال: علَّمَني رسول الله كلمات أقنت بهن في الوتر، وهن: اللهم اهدني فيمن هديت))... إلى آخر الكلمات، فهذه الأدعية كلها ليست من أدعية القرآن، فدل ذلك على جوازه". الانتصار على علماء الأمصار (3 / 358-360).

[4] كشف اللثام شرح عمدة الأحكام (3/ 20).

[5] الإرشاد إلى سبيل الرشاد (ص: 56).

[6] فتح الباري لابن رجب (7/ 184). قال في: "الجامع لعلوم الإمام أحمد - الفقه" (21/ 145): "قال حرب: قيل لأحمد: الرجل إذا سجد في الفريضة يدعو بدعاء؟ أما في الفريضة فلا يعجبني، وأما في التطوع فلا بأس. قلت: فيقول في سجوده: سبحان ربي الأعلى وبحمده. قال: أما أنا فلا أقوله. قلت: وكذلك في الركوع؟ قال: نعم. ومذهب أحمد أنه يقول في السجود: سبحان ربي الأعلى، وفي الركوع: سبحان ربي العظيم".

[7] رواه مسلم (1/ 348).

[8] المنتقى شرح الموطأ (1/ 149).

[9] البيان والتحصيل (18/ 63).

[10] البيان والتحصيل (18/ 64).

[11] التوضيح في شرح مختصر ابن الحاجب (1/ 362).

[12] شرح صحيح البخاري، لابن بطال (2/ 413).

[13] شرح زروق على متن الرسالة (1/ 223).

[14] الكافي في فقه أهل المدينة (1/ 208).

[15] فتح الباري، لابن رجب (7/ 183).

[16] فتح الباري، لابن رجب (7/ 184)، كشف اللثام شرح عمدة الأحكام (3/ 20).

وأجاب الحنابلة القائلون بالجواز عن الرواية الأولى القائلة بالكراهة بما ذكر ابن رجب: "قال بعض أصحابنا: وهي محمولة على الإمام إذا طوَّل بدعائه على المأمومين، أو نقص بدعائه التسبيح عن أدنى الكمال، فأما في غير هاتين الحالتين فلا كراهة فيه". فتح الباري، لابن رجب (7/ 184).

[17] صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم (2/ 663).

[18] مصنف ابن أبي شيبة (1/ 225).

[19] شرح المقدمة الحضرمية المسمى بشرى الكريم بشرح مسائل التعليم (ص: 235). وينظر: حاشية البجيرمي على شرح المنهج = التجريد لنفع العبيد (1/ 214).

[20] مغني المحتاج إلى معرفة معاني ألفاظ المنهاج (1/ 366).

[21] فتح الباري، لابن حجر (2/ 281).

[22] سنن أبي داود (2/ 155)، المسند المستخرج على صحيح مسلم، لأبي نعيم (2/ 98).

[23] التبصرة، للخمي (1/ 418).

[24] شرح زروق على متن الرسالة (1/ 224).

[25] التوضيح في شرح مختصر ابن الحاجب (1/ 362).

[26] الفتاوى الكبرى، لابن تيمية (2/ 208).

[27] الفتاوى الكبرى، لابن تيمية (2/ 164).

[28] مجموع الفتاوى (1/ 184).

[29] زاد المعاد في هدي خير العباد (1/ 248).

[30] رواه البخاري (1/ 158)، ومسلم (1/ 350).

[31] ينظر: صحيح البخاري (1/ 163)، وصحيح مسلم (1/ 350)، وسنن أبي داود (2/ 156)، وسنن ابن ماجه (1/ 287)، وسنن النسائي (2/ 190)، وشرح السنة، للبغوي (3/ 100)، وصحيح ابن حبان (5/ 256)، وصحيح ابن خزيمة (1/ 305)، ومسند أحمد (40/ 192).

[32] رياض الأفهام في شرح عمدة الأحكام (2/ 529).

[33] إكمال المعلم بفوائد مسلم (2/ 399).

[34] الإعلام بفوائد عمدة الأحكام (3/ 516).

[35] التوضيح لشرح الجامع الصحيح (21/ 444).

[36] فتح الباري، لابن حجر (2/ 281).

[37] شرح معاني الآثار (1/ 235).

[38] فتح الباري، لابن رجب (7/ 183).

[39] إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام (1/ 315).

[40] شرح صحيح البخاري، لابن بطال (2/ 413).

[41] مجموع الفتاوى (22/ 378).

[42] العدة في شرح العمدة في أحاديث الأحكام (2/ 628).

[43] فتح الباري، لابن حجر (2/ 281).

[44] صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم (2/ 663).

[45] ذخيرة العقبى في شرح المجتبى (13/ 155).

[46] الحلل الإبريزية من التعليقات البازية على صحيح البخاري (1/ 229).

[47] فتاوى اللجنة الدائمة 2 (5/ 359).

ووقّع على هذه الفتوى المشايخ: بكر أبو زيد، صالح الفوزان، عبدالعزيز آل الشيخ، عبدالعزيز بن عبدالله بن باز.