من منطلقات العلاقات الشرق والغرب (الحروب - الاعتذار)

منذ 2021-12-01

ولن يحصل الاعتذار الذي يصحح مسار التاريخ حتى يقوى هذا الحوار ويأخذ أشكالًا بناءة قائمة على الحجة؛ فالفكر يقارَع بالفكر ليس إلا.

يشهد العالم اليوم محاولات لتصحيح التاريخ،ويتمثل التصحيح من خلال جملة من الاعتذارات التي يقدمها مَن جَنَوْا على غيرهم في الزمن الماضي، وقد رصد عددًا كبيرًا منها الأستاذ/ محمد السماك في كتابه مقدمة للحوار الإسلامي - المسيحي[1]،ومن هذه الاعتذارات الآتي:

 

ارتكبت اليابان مجازر ضد الصين في الحرب المعروفة بالحرب الصينية - اليابانية قبل الحرب العالمية وأثناءها، فاعتذرت اليابان على لسان الإمبراطور عندما زار بكين سنة 1412هـ / 1992م، وأبدى استعداد بلاده لتعويض الصينيين بتمويل مشروعات تنموية ضخمة.

 

ونتيجة لما ارتكبته اليابان كذلك في حق الصين والفلبين وكوريا، لا سيما النساء منهم، اعتذرت عن ذلك، وتعهدت بتقديم تعويضات لأسر آلاف النسوة اللاتي أسيء التعامل معهن خلال الحرب العالمية الثانية.

 

وتعرض المواطنون الأمريكيون المتحدرون من أصول يابانية للإهانة من بني وطنهم الجديد، عندما ضربت اليابان بيرل هاربر، فجمعوا في معسكرات (محميات) اعتقال إلى أن انتهت الحرب العالمية الثانية، فاعتذرت الولايات المتحدة لهم عن ذلك، وعوَّضتهم ماديًّا.

 

وتعرض الأمريكيون المتحدرون من أصول إفريقية للتمييز العنصري والاضطهاد لأجيال عديدة، وتطرح الآن قضية الاعتذار لهم من مواطنيهم البِيض، وتعويضهم بالمشروعات التنموية الاجتماعية والاقتصادية، ولعل في اختيار رئيس للبلاد تتحدر أصوله منهم [باراك حسين أوباما] ضربًا من الاعتذار المبطن، والملبس بلباس الديموقراطية.

 

وأساءت روسيا معاملة الأسرى اليابانيين أثناء الحرب العالمية الثانية، وقد قتل جميع الأسرى في الجبهة الشرقية، فاعتذرت روسيا لليابان، وكان هذا الاعتذار مدخلًا لمناقشة وضع الجزر اليابانية التي احتلتها روسيا.

 

وارتكبت النازية جرائم بحق العالم، فاعتذرت لليهود فقط، وقدمت ألمانيا لهم تعويضات مالية ضخمة وما تزال، كان لها أثرٌ كبيرٌ في بناء الاقتصاد اليهودي في فلسطين المحتلة.

 

وقد كفَّر الفاتيكان العالم الإيطالي الشهير جاليليو سنة 1042هـ/ 1633م، عندما قال بكروية الأرض، فصدر الاعتذار من الفاتيكان في وثيقة سنة 1412هـ/ 1992م تبرئ جاليليو من تهمة الكفر.

 

ويعتقد النصارى أن الذين صلبوا المسيح عيسى ابن مريم - عليهما السلام - هم اليهود، وكانت الإدانة قد صدرت رسميًّا سنة 906هـ/ 1581م، فجاء الاعتذار في الثمانينيات الهجرية/ الستينيات الميلادية (1385هـ/ 1965م)، ببراءة اليهود من صلب المسيح عيسى ابن مريم - عليهما السلام[2].

 

واعتذر الفاتيكان مرة أخرى لليهود سنة 1413هـ/ 1993م، بسبب سكوته عن المجازر التي ارتكبتها النازية بحق اليهود، وأوقف بناء دير قرب معسكر أوشوفتز في بولندا؛ لأن بناءه يُعَد إجراءً مدنسًا لأرواح اليهود الذين قتلوا في المعسكر.

 

واعتذرت الكنيسة الكاثوليكية الفرنسية لليهود بعد موافقة المرجعية الدينية العليا للكنيسة في الفاتيكان، وجاء الاعتذار بسبب الدور السلبي الذي مارسته الكنيسة إزاء الاعتقالات التي تعرض لها اليهود الفرنسيون أثناء الاحتلال الألماني لفرنسا.

 

وتعرضت الشعوب الأصلية "الهنود الحمر" في أمريكا اللاتينية للاضطهاد وأعمال السخرة من قِبل الحملات الاحتلالية "الاستعمارية" البرتغالية والإسبانية التي سارت تحت راية التنصير الكاثوليكي، فاعتذر الفاتيكان عن ذلك.

 

هذه سلسلة من الاعتذارات أريد منها "براءة الذمة"، وتصحيح مسار التاريخ،وينتظر المسلمون جملة من الاعتذارات كذلك منذ الحروب الصليبية إلى حروب البوسنة والهرسك وكوسوفا وفلسطين المحتلة وغزو أفغانستان والعراق، وما يجري الآن تجاه المسلمين في أصقاع متعددة، يستدعي الاعتذار تصحيحًا لمسار التاريخ.

 

ولن يتم ذلك إلا بتغيير الصورة النمطية السائدة عن العرب والمسلمين في مناهج التعليم والإعلام والسينما في الدول الغربية، التي تصور الإسلام على أنه همجيةٌ وأصولية وما إلى ذلك من النعوت، التي يوسم بها الإسلام والمسلمون،ولعل هذا هو شكل من أشكال الحوار الذي قدم له الأستاذ محمد السماك في كتابه المذكورِ عنوانُه في مقدمة هذه الوقفة[3].

 

ولن يحصل الاعتذار الذي يصحح مسار التاريخ حتى يقوى هذا الحوار ويأخذ أشكالًا بناءة قائمة على الحجة؛ فالفكر يقارَع بالفكر ليس إلا.

 


[1] انظر: محمد السماك،مقدمة إلى الحوار الإسلامي المسيحي - بيروت: دار النفائس، 1418هـ/ 1998م - ص 199.

[2] ﴿ وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ ﴾ [النساء: 157].

[3] انظر: محمد السماك،مقدمة إلى الحوار الإسلامي المسيحي - مرجع سابق - ص 199.

_________________________________________
الكاتب: أ. د. علي بن إبراهيم النملة