اجلس بنا نفهم ساعة
تُمَثِّل المفاهيمُ منطلقًا لفَهْم ما يعكسه الواقعُ مِن قضايا تَمُر بها الأمَّةُ اليوم، وما ينبغي إدراكه في هذا السياق أنَّ كثيرًا من هذه المفاهيم قد التبستْ واختلطتْ على كثيرٍ من الناس في واقعنا المعاصر، وقد شمل ذلك بعضَ الخاصَّة، فضْلًا عن العامَّة.
تُمَثِّل المفاهيمُ منطلقًا لفَهْم ما يعكسه الواقعُ مِن قضايا تَمُر بها الأمَّةُ اليوم، وما ينبغي إدراكه في هذا السياق أنَّ كثيرًا من هذه المفاهيم قد التبستْ واختلطتْ على كثيرٍ من الناس في واقعنا المعاصر، وقد شمل ذلك بعضَ الخاصَّة، فضْلًا عن العامَّة.
والواقعُ أنَّ ما قرَّره العلماءُ وقعَّدُوه في هذا الشأن مِن قواعدَ متعلِّقةٍ بإدراك حقيقة المفاهيم ليس عَبَثًا، ومِن ذلك قولهم: الحكْم على الشيء فرعٌ عن تَصَوُّره، بحكْم أن ما يَحْكُم به المرءُ لا يمكن أن يُوافقَ الواقع ما لَم يقف على حقيقة الأمر الذي أراد له الحكْم، ولذلك نجد العلماءَ يُقَدِّمون بين يدي الأبواب التي يبحثون فيها تعريفاتِ هذا الباب؛ مِن أجْل إدراك الأحكام فيه.
ومنَ العجيب أنَّ واقعنا هذا قد انقلبتْ فيه الصورة، وانعكستْ فيه الآية؛ حيث نجد كثيرًا من الناس قد خاض في قضايا ما كان ينبغي لهم أن يَخُوضوا فيها؛ وذلك لعدم تَحْريرهم مفاهيمَها، أو لعدم جَمْعهم مَعارفَها، وعدم الإحاطة بمُقتضياتها، بل وأدهى مِن ذلك أن البعضَ يخوض فيها على جهْلٍ، سواء كان جهْلًا بسيطًا، أم جهلًا مُرَكَّبًا، ولعلَّ مِن المفاهيم التي يكثُر الالتباسُ فيها مفاهيمُ: كالجهاد، والأمر بالمعروف، والنهي عن المُنكر، ومفاهيم الحكْم، والسياسة الشرعية، وغيرها مما يتعلَّق بالكثير من النوازل.
ومن أسباب شيوع هذه الظاهرة التي نُعاني منها اليوم:
عدم الرجوع في تقْعيد هذه المفاهيم إلى أهل العِلْمِ المتأهِّلين لها، ويَبدُو أمرُ المرجعية هنا من الأمور التي اختلطتْ فيها المفاهيمُ أيضًا، فلم يَعُد الناسُ يُمَيِّزون بين الداعية الذي يُحْسن الوعْظَ والخطابة والدرْس وغيرها؛ مما يجعله في إطار طالبِ العِلم أكثرَ مِن كَوْنِه عالمًا ومرْجِعًا، وبين العالِم الذي امتَلَكَ آليَّةَ العِلْم، وتأهَّل له، وأصبح مُمتَلِكًا ناصيته، وأحاط بالحُكم الشرعي، وعنده القُدرةُ على الاستنباط، واستخراجِ الأحكام، أو على أقلِّ تقديرٍ: عنده القدرةُ على التعامُل مع الأدلة وفَهْمها، والترْجيح في المسائل، والتخريج عليها إن لَم يَكُن مُجتهدًا.
قال الدكتور ناصر العقل: "العلماء المقصود بهم: العالمون بشرْع الله، والمتفقِّهون في الدِّين، والعاملون بعلْمهم على هدًى وبصيرةٍ، على سُنَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم وسلَفِ الأمَّة "[1]؛ قال تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [النحل: 43]، وقال صلى الله عليه وسلم: «العلماءُ وَرَثَةُ الأنبياء، وإنَّ الأنبياء لَم يُوَرِّثوا دينارًا ولا دِرْهمًا، وإنما وَرَّثوا العِلْمَ، فمَن أخَذهُ أَخَذَ بحظٍّ وافرٍ»[2].
ومنَ المهمِّ بيانُه في هذا الإطار: أنَّ الحكم الشرعي لا يُمكن إدراكُه فقط من خلال معرفة دليلِه كما هو شائع عند الكثير - منهم بعض طلَبة العِلم - وهذه الصورة يُمكن تقريرُها في المسائل الصغيرة التي يُمكن معرفتها بسهولةٍ ويُسر؛ لكَوْنها مسائل مشتهرة في الواقع بصورة جعلتْها من المسائل الضرورية التي يعلمها الكثير من الناس، أمَّا المسائل الدقيقة فلا بُدَّ منَ النظر إليها من زوايا متعدِّدة؛ حتى نستطيعَ الوقوفَ على حقيقتِها، وإدراكَ حُكمها؛ منها: إدراك حقيقتها في الواقع؛ بمعنى: أن نحيطَ بمُلابساتها وظُرُوفها التي أحاطتْ بها، وثانيًا: الوقوفُ على الحكم الشرعي من ناحيته التكليفيَّة، وهذا يُؤخَذ من الدليل صراحة أو إشارة، ثم يتمُّ تنزيله على الواقع بموجب الخطاب الوضْعيِّ، من خلال ضوابط المصالح والمفاسد على قاعدة تحقيق المناط؛ يقول ابن القيِّم: "ولا يَتَمَكَّن المفتِي ولا الحاكمُ من الفتوى والحكْم بالحقِّ إلا بنوعَيْن من الفَهْم: أحدهما: فَهْم الواقع والفِقْه فيه، واستنباط عِلم حقيقة ما وقَع بالقرائن والأمارات والعلامات، حتى يُحيط به عِلْمًا، والنوع الثاني: فَهْم الواجب في الواقع"[3].
ويقول ابن عاشور: "إذا كانتْ بعضُ معاني الشريعة ظاهرةً بيِّنة، والمصلحة فيها قطعيَّة لا خلاف فيها بين العلماء، مهما اختلفَت الظروفُ والأحوال والأزمنة والأمكنة، كسائر القطعيات في الشريعة - فإنَّ هناك من المعاني ما يَتَرَدَّد بين كونه صلاحًا تارة، وفسادًا تارة أخرى، وهذا معناه اختلال صفة الاطِّراد فيها، فهذه لا تَصلُح لاعتبارها مقاصدَ شرعيةً على الإطلاق، ولا لعدم اعتبارها كذلك، بل المقصد الشرعي فيها أن تُوكَل إلى نظر علماء الأمَّة، ووُلاةِ الأمور الأمناء على مصالحها مِن أهل الحلِّ والعقد؛ لتعيين الوصْف الجدير بالاعتبار في أحد الأحوال دون غيره صلاحًا أو فسادًا"[4].
وليس بالضَّرورة أن يظهرَ الحُكمُ في الواقعة المراد حُكمها؛ فقد يَعْجز العلماءُ المجتهدون عن استخراج الحكْم وتقريره بسبب الالتباس فيه؛ ولذلك يتوَقَّفُ العلماءُ في إصدار الأحكام في أمثال هذه المسائل الملتبسة؛ يقول شيخُ الإسلام ابن تيميَّة في تقريره لمسائل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: "فتارة يصلح الأمر، وتارة يصلح النهي، وتارة لا يصلح أمر ولا نهي؛ حيث كان المعروف والمنكر متلازمين"[5]، فإذا عجز أهلُ العِلم عن إدراك الحكْم في بعض الوقائع للالتباس فيها، فغَيْرُهم مِنْ باب أولى، فحاجتنا ماسَّة - مِن أجل إدراك المفاهيم - إلى تحرير المسائل، والنظر فيها من زواياها المتعَدِّدة، جاعلِين أهلَ العِلْمِ مرجعًا فيها، وإلا فإنَّنا على موعد - لا قدَّر الله - مع مفاسدَ كثيرةٍ تجتاح الأمَّة؛ بسبب الخَوْض في أمثال هذه القضايا دون أن يَتصدَّى لها أهلُها المتأهِّلون لها؛ لأنَّ مفاسِدَ العقول والأفكار أكثرُ ضررًا من مفاسد الأجسام والأبدان.
[1] "من قضايا الصحوة"؛ د/ ناصر بن عبدالكريم العقل، ص76.
[2] أخرجه أبو داود، كتاب العِلم، باب: الحثِّ على طلَبِ العِلم، رقم 3641، وصحَّحه الشيخ الألباني في صحيح سُنَن أبي داود.
[3] "إعلام الموقعين"؛ ابن قيم الجوزية، ج1 ص87.
[4] "مقاصد الشريعة الإسلامية"؛ محمد الطاهر بن عاشور، ص168.
[5] "الفتاوى" ج28 ص130.
___________________________________________
الكاتب:د. فارس العزاوي
- التصنيف: